منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 22
  1. #1

    السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 2-3


    فصــــــــل
    ثاني
    فكرة اللون
    -------------

    أنتَ طائر نفسك
    وفخّ نفسك
    وصدر نفسك
    وأرض نفسك
    وسماء نفسك.

    ( جلال الدين الرومي )

  2. #2

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 2-3

    في جهة العمر، تعبر حفنةٌ من السنين، بلا هوية تتحسس قيدها في اختصار الهواء، تشرب قهوتها كطائر غالبه النعاس.
    لوحة مخدوشة لفنان معتزل الحياة، تشاركه عزلته منفضة سجائر، ضباب يترنح بسكرة الذبح، من المدن والشوارع والأرض، لوحة خشبية نُقش عليها (شقة رقم 202) كان من المفترض أن تـُدق على باب الشقة من الخارج. وبملل طريد تكوّر الوقتُ على شكل دائرة، وعجز وليد عن إضافة لمسة فنية لشقة فقيرة الأثاث. بقيت لوحة رقم الشقة مرمية على الأرض و منذ شهور، بالتكرار اليومي الممل وإيقاع رتابة أكثر منه مللاً يقضي وليد معظم وقته، ويعدّ على أصابعه احتمالات أيامه الباقية في كأس الحياة.
    موكيت أزرق باهت اللون لقدِمه، أريكة لونها أبيض ، (صوفا بيد) ، مصنوعة من الخشب الرخيص، طاولة طعام صغيرة لا تسع أكثر من كرسيين، في المطبخ رفـّان مستطيلان، المطبخ جزء من الصالة، فضاء لتسعة أمتار بمثابة قبر، على الرفوف بعض علب من الفول والحمـّص، كيس من البصل مفتوح وكيس بطاطس مفتوح أيضاً.
    حبتا بطاطس قرب فوهة الكيس ذبلت عروقهما، علب فارغة من البيرة مرمية بفوضى قرب الأريكة.
    بالنسبة لوليد يكفيه سد رمق، لذا لا تحتوي ثلاجته على أكثر من شرائح جبن وخبز وثلاث تفاحات ذابلات ، اللون والشاي وقليل من سد رمق، هو الزهو بالنسبة إليه، علـّمه السجن على ضمور البطن وعلى التقشف.
    مسجـّل صغير أسود اللون ولقِدمه يخرج الصوت منه شبه مبحوح، كثيراً ما يجلس جلسته المفضلة حيث يضع ساقاً على ساق ويخطط في مخيلته صورة للوحة جديدة. لم يعتد الخروج إلا نادراً، وأغلب الأحيان لشراء أبسط حاجاته.
    يتصل هاتفيا بأصدقائه ويطمئن عليهم، وإذا ألحّوا عليه بالخروج يرضخ لإلحاحهم، ثم يعتذر هاتفياً بعد نصف ساعة.
    لوحاته أكثرها تعبيرية، قدره اختار له الفن، على عكس ما كانت ترغب به أمه، إذ تمنّت له أن يصبح طبيباً يمدّها بالطمأنينة ساعة وقوع المرض، رغم أنه لم يرفض لها طلباً وإن كلـّفه حياته، فإنه كان يطمئنها ويداعب ضفيرتيها :
    ـ ابنك يعالج المرض باللون يا أمي.

    حين لم تفهم قصده راح يسألها ويفسّر لها في الوقت نفسه:
    ـ لدينا طبيب مختص بالقلب، وآخر مختص بالعيون، أليس كذلك يا أم وليد؟.
    ـ إي والله يمّـه ما تقول إلا الصحيح.
    ـ وأنا طبيب ألوان، أعالج مرضاي بالألوان وليس بالدواء.
    ـ الله يسلمك يمّـه من كل شر، أكو صيدلية تبيع الألوان؟ (ثم تبدّل لهجتها ): المهم طبيب وبس، حتى يصيحوا لي أم" الدكتور" وليد.
    ـ وبَسْ يا حلوة وليد.
    ـ وحتى تداوي أهل المحلة، كلهم بعوز يا يمـّه، حتى الموظف ما قادر يأكل خبز، الله يخليك إلهم*

    من بين الجامعات والكليات المتعددة اختار كلية الفنون، وعليه أن يعزم على الرحيل، والسفر إلى بغداد. تفادياً لعوزه باعت أمه قلادة مهرها بثلاثين ديناراً، وهي تعرف أن قيمتها أكثر من ذلك، فلطالما سمعت من عمتها أم زوجها أن مهرها ثمين وثقيل الوزن. وهي تتطلـّع بوجه الصائغ، تفقدت يدها، إذ سبق لها أن باعت أسورتها لعوز، امتلأت أعماقها صرخة وإصراراً، لا حاجة لها بالذهب، الغالي للغالي. أجبرت خاطرها بمحاولة خداع نفسها أنه أقل من ثلاثين ديناراً، من فرط غيرة عمتها منها تتصور أن قلادتها ثمينة.

    ـ منين يا حسرة، قالت للصائغ، ثم استدركت أنها تحادث نفسها.
    لكنه سألها: ما بك يا أختاه؟
    ـ أخي أسألك سؤال.
    ـ إي تفضلي.
    ـ من يشتغل ببيع النفط يقدر يشترى لامرأته قلادة غالية؟
    وضع القلادة في الميزان، ودون أن ينظر إليها ردّ على سؤالها:
    ـ من جاء لنا بالبلاء غير النفط.
    ـ أرجو أن تزّد عليها شوي، والله أحتاج فلوسها.
    رماها في وجهها؛ بطّلت اشترى.
    ـ لا عيوني لا تغضب، ثلاثين، ثلاثين؛ أمري لله.
    خيطت له كيساً من القماش، وضعت فيه الثلاثين ديناراً وعشرين أخرى من أبيه، وتركته يتدلـّى من رقبته. بعد أن عوّذته بالمعوذات، طلبت منه أن يخفي الكيس تحت ملابسه، وأعطته كيساً من البلاستيك فيه متاع للطريق، فقد خبزت له (خفيفيـَّات) في التنـّور ورشّتها بالسمسم والسكّر.
    في شقته المتواضعة لم يبقَ طعم للسكّر، غير ما تركه في بيته في مدينة الناصرية.
    حين استقل القطار كان كل شيء يركض وراءه، ولا تزال تلك الأخيلة تلاحقه. صوت القطار، صفيره، الغبار المتطاير من النوافذ، أصوات بائعي الماء البارد، وبائعات الخبز الساخن، بائعي الشاي والكعك. كل تلك الذكريات تسكن جراحاته وتتولى الدفاع عن يده المبتورة.
    من أجل الكشف عن شلاّل مخيلته الفنية، يدخل الحمام، يستحم ثلاث مرات بالصابون واللـّيفة، كأنه يطهّر جسده مما علق به من وسخ السجن.. لم يستطع أن يتحرّر من حالته هذه، لازمه مرض الوسواس منذ خروجه من السجن.

    ***

  3. #3

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 2-3

    2
    تتزاحم عليه الأفكار وتحاصره، تأخذه إلى ركنها الحميم، الركن الجميل ما بين تعلـّقه" بعلية"، ابنة الجيران وتنظيمه الحزبي، وقت تعرّفه على جسده و همهمة رجولته تخترق نومه ويقظته، يغتسل منها صباحاً وتغويه رغماً عنه، يلوذ بمكان بعيد عن أعين الرائحين والغادين، يأخذ ركناً تحت شجرة توت، ويتعامل مع الذي يخترق دشداشته فاضحاً برطوبته الدافئة احتياجه لأنثى.
    أصول الجيرة وما توارثه من أعراف، وكل القيم والأخلاق تقيّده، فابنة الجيران لا يمكن التحرش بها ولو بالنظر، هي شرف ابن المحلـّة وعليه المحافظة عليه.
    وقت يشعر بحاجته للاغتسال يرمي نفسه في النهر، يتحرّر من ذكورته بمائه وموجاته العذبة. يعرف وقت ذهابها إلى المدرسة، يخرج قبلها، يقف بباب الدار ويعيد الكرة ذاتها عند عودتها. يرتجف شاربه كأنه نبات طري نبت للتو في أرضه، الشعور بتبادل الحب، عار، لذا يجب إخفاؤه ومداراته.
    غير أن أسلوبه بالكشف عن عشقه تلوّن بعدة ألوان، بنظرة من طرف عينيه، وبابتسامة يخفيها بين شفتيه لئلا تفضحه "علية" بشموعها المتراقصة، تختلق الأعذار لتدخل بيتهم، تارة بطبق خبز من تنـّورهم ومن يد والدتها، وتارة أخرى بما احتاجته أمها ساعة الطبخ، كرّاث أو بصل أو ثوم. وجفناها المراهقان يضيئان لها مساحة العمر.. تطلب من أم وليد وعينيها على (السوباط) تقصدان وقفة وليد، تلتقطان من عينيه ما تبحث عنه، تنفذ إليه، إلى الداخل وتبقى عالقة فيه.
    ذات يوم انقطعت عن المدرسة، تهيأ له أنه عارض مرضي أو ألم الأنثى الشهري أعاقها من الذهاب إلى المدرسة. لكن الأيام توالت، لم يستطع مقاومة قلقه بعدها، فطلب من أمه أن تزور جيرانهم، حق الجار على الجار:
    ـ يا يمـّه صار أسبوعين ما زرتِ بيت أم لطيف.
    فتزداد خفقات قلبه، وعندما وجدها متباطئة ومتكاسلة، وجد أنه لا بدّ من إخبارها بحبه. تخابثت وكأنها لم تلحظ ذلك، ثم سارعت لارتداء فوطتها النظيفة بعد أن نزعت القديمة الملطخة بالعجين. وأخذت بيدها ثلاثة أقراص من الخبز المسمسم، لم يمض على خبزها نصف ساعة.
    عادت مسرعة، تعرف أن ابنها على نار، لم تقوَ على محادثته أو التركيز في عينيه، وقت فتح لها باب الدار. تمنّت أن لا يسألها، تشاغلت بإدخال الرغيف إلى داخل الغرفة، ونهرته على أنه تركه ينشف في الهواء، وأبوه يحبه طرياً :
    ـ ما تفكر بأبيك، ما عنده سنون،
    دنا منها وقبّل خدها، أدرك أنّ في الأمر شيئاً، ابتسمت بوجهه، ثم عادت تختبئ بأعذارها وهياجها، تركها كما هي، وذهب الى شجرته المفضلة، شجرة التوت، يشكو لها:
    ـ يا عمتي يا شجرة ما تعرفين شي عن علية، قولي لي وحياة من رفعك عالية وثمَّرك؟
    بقي حتى الليل.. راعه ظلام المكان فأسرع راجعاً إلى داره، حال دخوله وجد أباه جالساً في وسط الحوش، يفترش حصيرة من خوص النخيل، يلف سيجارته، وأمه جالسة إليه تقدم له الشـــاي. لم يسلـّم عليهما كعادته أو يقبّل يد أبيه، سمع أمه تطلب من أبيه أن لا ينهره لعدم لحاقه به للمساعدة ببيع النفط بعد انتهاء دوام المدرسة.
    عبرت الدماء الساخنة غاضبة في عروقه، خرج مسرعاً وجلس في السوباط، دون أن يكلم أحداً، لكنّ أباه اختصر عليه صمته :
    ـ لماذا يا بني لم تخبرني، كان خطبتها إلك أقلها وبعّثت خطـَّاب..
    أضافت الأم : منين يا حسرة، الخطـَّاب ما تريد وعود، ما تريد مهر مقدّم، ما تريد.
    وثب وليد بعد سماع أمه:
    ـ قولي إنها مخطوبة، ها.. قولي لماذا الصمت؟
    ـ إي يمّه خطبها ابن عمها اللي يشتغل بالكويت.
    تحوّل ارتباطه بالحزب إلى عشق جديد يعوّض فيه خسارته الأولى، لم يضجر من أي أمر يأتيه من مدرّس اللغة العربية الأستاذ عبد الأمير، بل راح يتصرف كأمير، وأصبحت البيوت والشوارع والمدرسة مملكة أخرى، لها طعم ولون جديد، ومن أجلها وزّع المناشير في المقاهي في متوسطة البنين ورمى بعضها قرب متوسطة البنات. وراح يعلـّم أباه ويشرح له أن عمله في بيع النفط ليس عيباً ولا نقصاً. ماركس يقول: (العمل هو تعبير الحياة الإنسانية ).
    حالما سمعت أمه بهذا الاسم تقدمت نحوه:
    ـ يمّـه هذا اسمه صعب؟ من أين هو يا يمه لا أعرفه، الم يجد غير هذا الاسم؟
    ـ إي يمّه هذا إمام جديد طالع، لقوا قبره يم الشط.
    ـ إي يا بعد أمك، ما تأخذني إله، يمكن أزوره واطلب منه يطيّب راسي شو الوجع ما يفكني ليل نهار.
    من وقتها تركه أبوه يفعل ما يريد، يتأخر في الليل، يخرج في الظلمة من باب الحوش الخلفي، يأتي فجراً بصحبة ثلاثة أو أربعة يخبئهم في المجلس ويطلب من أمه أن تقدم لهم الطعام والشراب، وفمها مغلق، ويحذّرها ويؤكد سرّية الأمر.
    ذات يوم طفح الكيل بها:
    - ما تشوف صرفة مع ابنك، منين أجيب أوكلكم لو أوكّل ثلاثة آخرين؟. الفلوس اللي تعطيها يومية ما تكفي ، ماذا أفعل؟. دبر أمرك، دخيل مار.. نسيت اسم هذا الإمام الجديد؟
    ـ ماركس.
    ـ إي دخيل مار،،يطيب عيوني ويرزقنا شوي.
    ردّ عليها الأب مؤنباً:
    ـ الرزاق هو الله، وبعدين ابنك راح يصير شي، وباكر يصبح مهم وإله اسم، تسترين، قولي أبو وليد قال.
    وضعت يدها على صدره:
    ـ بمحبتي عندك أبو وليد منين جبت اسم وليد، وأبوك كان يريد تسمّيه خلف، على اسمه؟
    ـ كنت متعدي على مدرسة الأولاد وسمعتهم يقولون خالد بن الوليد؛ فقلت أسمّيه وليد وابنه نسميه خالد، حتى يصير اسمه خالد بن الوليد وتذكره المدارس.. خلـّي قلبك بماء بارد، الولد راح يصيــــــــر مهم. هي ثالث سنة وهو على هذه الحال يسهر للفجر برّه وينجح في المدرسة، بعد ماذا تردين؟؟؟
    ـ قول لا إله إلا الله.
    فردّ عليها بنفس التعويذة، خوفاً من عيونهم .
    -اسمعي يا مرة، ما يحسد المال إلا أصحابه؛ قولي قل أعوذ برب الفلق..
    وهو يضع كيس الخمسين ديناراً في رقبته تلبية لطلب أمه، سمع صوت سيارة تقف قرب بيت الجيران، كما سمع كلمة يمّـه انقطع قلبي على غيابك؛ ترك كل شيء من يده، سقط كيس متاعه أرضاً، عليه مجابهة قلبه الآن.
    فتح الباب، فوجد علية تنزل من سيارة مرسيدس خصوصي سوداء، ثلاثة أولاد صعدوا على واجهة السيارة، وبقية الأطفال يحومون حولها. كانت علية تحمل بيديها طفلة تشبهها تماماً، وعندما جاءت عينه بعينها أطرقت أرضاً، وطلبت من زوجها أن يحمل عنها الطفلة. لكن تلقفتها أم لطيف، وهي تتطلع في وجهها قائلة؛
    - (( ولك يمّـه هاي علية صغيرونه.. والله العظيم هاي علية الثانية)).

  4. #4

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 2-3

    3
    اختراقات الذاكرة تُقاس بحجم الهاوية وبسنتمترات التيه، بعد أن حفروا بسكاكين الأكل والملاعق في سجن نقرة سلمان، سنة كاملة، عشرة سجناء محكوم عليهم أن يناموا على التراب المحفور ويخالطوا الديدان والصراصير. ثم يعمدون إلى تغطية الفتحة في الصباح، ويسوون التراب، حتى حانت الساعة التي أوصلتهم واحداً تلو الآخر إلى مدخل مزرعة، وتوزّعوا دون هداية أو دراية. فقط توزّعوا، واختبئوا كل على طريقته.
    أما وليد فقد خرج بنصفه المبتور، ويد متعبة من الحفر والتعذيب، وكرامة مهانة كل صباح ومع كل وجبة طعام تُقدم لهم. قصد بيت صديق له، كان بائع ثلج في بغداد، تعرّف عليه في مقهى يرتاده البسطاء، ونظـّمه في الحزب. وهذا بدوره أخذه لصديقة له تعيش مع أمها فقط، وخبأته أسبوعاً في دارها، خططوا فيه طريقة هروبه خارج العراق عن طريق سوريا.
    تكفـّل صديقه بالمصاريف، كما وضع في جيبه عشرين ديناراً، ووعده بأنه سيخبر أهله لاحقاً بمغادرته. تحقق من دقة العنوان، وأكد كلامه ووعده له، بعد أن تهدأ الأمور: اطمئن يا وليد، سأخبر أهلك.
    في طغيان الظل، تبقى النوافذ مشرعة، تتصفح الريح. وصرخة تتراكض لنهاية خربة، بعيداً عن الحكام الذين يصنعون الظلام لشعوبهم.
    ضمن باب النسيان يكون أول دخول السيف حيث اختراق الرئة إلى باب المذبحة، لا عصافير تغرّد على نافذة تُثير الروح لفرحة هادئة، غربان تعدد الأسماء الجديدة، وتضحك علي، موتاها المتحركين. ترافق وليداً في رحلته البرية آخر نظرة من عيون" عليـــة"، وآخر إيقاع لقلب أمه، صــــوت عربة النفط، نهيق الحمار، مغزل جدته، وزاوية من ارتباط مقدس بشجرة التوت، وقليل من كلمات أعلن فيها اعتصامه وانتماءه الحزبي.
    كما رافــقه يقين يد مبتورة، وسنوات دراسية لم يكملها. إذ كان اعتقاله قبل انتهاء السنة الدراسية الأولى بتهمة تنظيم الطلبة وإثارتهم على الشغب وقلب نظام الحكم.
    سنـــة كاملة في سوريا وهو ينتظر قرار قبوله كلاجئ سياسي في بريطانيا، يده المبتورة كانت هويته للعبور، لكن على الطريقة الإنجليزية، يجب أن يقف في الصف ليأتي دوره .(The line - queue).
    حفظ هذه الكلمات، زخرفها على حيطان الدار القديمة التي استأجرها لمدة شهر، وجابه الحياة الجديدة. صبي في مقهى، كل ما أراده الابتعاد عن وليد معذّب، وليد مضطهد في ماضيه وحاضره، والجَلد للروح كي لا يصل ارتجافها لذاته.
    أهو حُـرٌ الآن أم مسجون بوليد لا يعرفه..؟؟ هل يضع قدميه على عتبة هشة؟ هل يخلع نعليه في وقت الدخول؟ هل ينتظر بعثاً جديداً لموته؟
    هل يلعن الموت، و مؤسّسيه أم المنتمين إليه؟
    الكلمات التي حفظها لـ (جلال الدين الرومي) كانت قوته وتجلّده، في السجن وخارجه، سنده كلما ضاقت عليه الجدران واستحكمت؛ (أنت طائر نفسك، وفخّ نفسك، وصدر نفسك، أرض نفسك وسماء نفسك).
    يعود إليها ويختصر المسافات، إذ لا وجود لإنسان حرّ في البلد العربي، أي بلد دون استثناء، تختلط الأشياء بعضها ببعض، لكن كما هي أوامر الحكومات: أنتَ لست إنساناً.
    في لندن غربة من نوع آخر، يلاقيها وليد في وجه الأطفال اللاجئين مع ذويهم، بحثاً عن آدميتهم. الأمسيات تقترب لتألف بعضها،كل شيء، الزحام، المشي المستعجل، بائعات الهوى، العربيات والإنجليزيات، الروسيات والقادمات من أوروبا الشرقية. هزّة صدر لراقصة من (سراييفو)؛ مصادرة للرقص الشرقي، غجريات عراقيات يرقصن في المطاعم الفاخرة، مطربون من الدرجة العاشرة من بقايا أندية عدي؛ وسماسرته، أميرات عربيات، مجلات عربية، راقصات مغربيات، أسماء لا تعلق بالذاكرة، أسماء مألوفة، رجال متزينون بزينة نسائية، روج وملابس نسائية وشعر مستعار، رائحة النارجيلة، سندويشات الشاورما، الهامبرجر الأمريكي، كلها امتحان للصوت، ومفاتيح لعبور الأرصفة.
    كل خطوة يخطوها وليد على الرصيف يقف بعدها متردداً، أ يبادر بالأخرى؟
    بعد تساؤلات يلتقط أنفاسه من صدره ويحادث نفسه: أنت أكثر أمناً من رصيف وطنك، سر.
    مع إحدى الخطوات انتبه لبقالة تبيع ورق اليانصيب بباوند واحد للعمود الواحد. خلع معطفه الأسود الذي اشتراه من سوق الحميدية، وراح يبحث في جيبه الداخلي عن بقايا عطاء الإنسانية الإنجليزية. حين اشترى البطاقة قرأ عليها (لوتري)؛ كان يعرف أنه من المستبعد الفوز بها.
    وقف في الشارع يقرأ بعض الملاحظات المدوّنة في الورقة، واسترجع ذاكرة تذكرة لم تبادر والدته بشرائها له.


    --------------------------------------------------------------------------------

  5. #5

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 2-3

    4
    وقت سفرها بالقطار إلى بغداد قاصدة زيارة (الإمام الكاظم)؛ حين جاء المفتش، انزلق العرق على رقبته، صكت أمه فخذيها وقدميها، وأنزلت عباءتها كي لا يظهر للمفتش رأسه، بعد أن خبّـأته تحت المقعد الخاص بها. ساعتها تصرّف المفتش كما لو كان الخطأ متجاوَزاً من قِبل رجل يدرك العوز، ويدرك أنه بثمن التذكرة اشترت المرأة متاعها ومتاع من اختبأ تحت عباءتها، غضّ طرفه، ومدّ يده للطفل:
    ـ قم يا بني، أنت في أمان لا تخف.
    خرج وليد كدجاجة مخذولة، وعندما اختلطت رائحة العشب برائحة "الصمّون" والحلوى المصنوعة من الراشي، التهم المقسوم بشراهة وكأن شيئاً لم يحدث*
    بعد هطول المطر، انتبه وليد إلى ورقة اليانصيب المبتلـّة، وأكد لنفسه بهزة رأس: ألم أقل يا وليد إن بينك وبين الحظ مسافة.
    وهو في الطريق، بين الحلم والرصيف والتذكرة، شاهد امرأة مسنّةً ترتدي عباءة سوداء، وقفت متوثبة للشتيمة بعد أن سمعته يطلب منها أن يمسك يدها ويقبّلها:
    ـ أبمقدوري أن أقبّـل يدك سيدتي؟
    ألقت عليه نظرة، وقطبت حاجبيها غضباً:
    ـ أما تستحي يا مجنون، أنا بعمر أمك؟
    أجابها: ولأنك هكذا وددت تقبيل يدك.
    تركها تهذي وتسبّ، رغم تدخل شـــاب كان يسير خلفها وقوله لها إنه "لم يقصد شيئاً، وربما رأى فيك شبهاً بأمه.. يا أماه".
    لم يمر القطار بمساحات الروح، ولم يكن المفتش حاضراً وقت نهرته العجوز، ولم يكن سؤاله خطأ؛ أدرك لحظتها أنه اشترى تذكرة غربته. تعانق عرق خجله مع قطرات المطر المتزاحمة، التي بللت معطفه، أخذ يضحك على جسد يرافق روحه ويقول له:
    ـ امش أيها الصنم، ولا تسأل، ألم تتعلـّم من المسطرة التي كسّرت أصابعك في درس التأريخ؟ قال المدرس:
    -لا تسأل عن ما لا يعنيك، أحفظ ما يُطلب منك وامتحن، لتنال درجتك.
    كان يعني له السؤال وقتما سأل مدرّسه: هل سنصبح غداً في التأريخ؟
    ردّ عليه المدرس باقتضاب :
    - نعم.
    لكنه كان لحوحاً، واستمرّ يجادل مدرّسه، فهو في بداية الصبا وعمره ثلاثة عشر عاماً، بداية الفوران في كل شيء. وحيّر مدرّسه، ولم يعرف بماذا يجيبه،
    فقط قال له :
    ـ من الآن وصاعداً اخنق تساؤلاتك ولا داعي أن تطلعني عليها.
    رفع إصبعه ثالثة:
    - أستاذ، ردّك هذا يعني أن التأريخ الذي نتعلمه كاذب، ويحتاج أن نبكي عليه.
    فرح بسؤال المدرّس: ولمَ يا ولدي؟
    لقد نعته بولــــــدي؛ هذا يعني أنه هادئ البال، ولن يزعق به ثانية. في وقفته المسرعة تجاه ما يدور في خاطره من أفكار، علق قميصه في طاولة الدرس، وشُقّ الجيب وتهدّلت خيوطه. لم يخَف من توبيخ أمه القادم، بل وقف وقفة المتحدي:
    ـ أستاذ، قلت قبل قليل نحن سنصبح تأريخاً، لكن أبي والناس في البيوت والحافلات والشوارع، أسمعهم يقولون متذمرين:
    - كل شيء أعوج، كل شيء غلط.. يعني يا أستاذ راح نصير التأريخ الخطأ.. مو؟
    أكل عشــر مساطر ضرباً على أصابعه، وقرص قوي في أذنه.
    عبر صوت العجوز إلى أذنه ثانية، تحسّسها فوجد قرص مدرّسه مازال عالقا عليها. وهو يدخل المفتاح بباب الشقة، شعر بإجابة لحيرته طمأنته أن لا حاجة له بالسؤال، ولا شأن له بموت المؤرخ، والكتب أيضاً ليس لها حاجة أن تعرف عنه شيئاً.
    المؤرخ موثـّق للحقائق، ومزوّر غير موثوق به، كما هي تقنية توزيع الجوائز لكـتّاب عظام أرّخوا مرحلة ما، في أعمالهم أو كتبوا التأريخ بعين الواقع، لكنهم نسوا توثيق الأحاسيس وفكرة اللون.. في غير مرسمه لم يجد لون الفكرة، فأوثق يده اليمنى بما تبقى من يسراه، وراح يستكشف حقيقة ألوانه*
    حين فتح باب الشقة، صادفه رجل نحيل، يميل إلى الطول، أسمر اللون، كثيف الشارب، أسود العينين، لمعة حادة تتوسط اسودادهما، تنمّ عن ذكاء وقدرة في إدراك الأشياء واستيعــــابها. العزلة هي حدود الكرامة، كرر هاتين الكلمتين بعد أن حاول جاهداً تحرير الأسمر الذي صادفه في المرآة من معطف مبلـّل، مدّ يده على شاربه وخاطب أسمره:
    -لم تبق لديك شعرة سوداء.
    تذكر أنه لم يتيسر له ما يسدّ الرمق، فقد ألهته بطاقة اليانصيب عن ذلك. فتح الثلاجة فوجد علبة بيرة وكعكة، راح يغمس الكعكة في البيرة بعد أن صبّها في كوب الشاي الكبير. وجلس على الأريكة، قضم قضمة واحدة، وغاب بعيداً.. حين انتبه وجد أنه يضع كوب البيرة بين فخذيه.
    ضحك ضحكة عالية، واحتسى البيرة كلها دفعة واحدة، ثم رمى نصف الكعكة في منفضة السجائر. استخرج قداحته من جيبه، ودخّن. سحب بكل قوته نفَساً عميقاً وراح يراقب حلقات الدخان الهاربة منه، تنهّد:
    -هه.. إنه مثلك أيها الدخان، بارد مثل البيرة. يدي لم تحرك له ساكناً، لو تدري تلك العجوز أنه مخصي لما شتمتني.
    - ثم ضرب على عجزه:
    - الحزن كبير، كبير يا.. يا ماذا، أنت مجرد لحم متهرئ يبحث عن جواز سفر، ولست من طوابير الإناث كما لست من طوابير الذكور. (ضربه بقوة)؛ أنتَ بحاجة إلى تعمير. لو حصل لجلال الدين الرومي ما حصل لي، لما قال: كن نفسك.
    من خلال تأمله المتواصل بعواطفه وحزنه العميق، فشله وتحويله إلى خنثى عاجزة، يطرح أسئلة تدبر له مخرجاً للوصول إلى لون إيقاع الحياة. اثنتان وخمسون لوحة لم تأت بإيماءة لثوب فاتنة يراها في حلمه، الرسائل المتبادلة بينه وبين صديق له في ألمانيا، كانت الوسيلة الوحيدة لديه لطرد الوحشة عنه، كما هي الزاوية التي يتذكر فيها علاقته مع شوارع سوريا وطعم الخيار الطازج والطماطم الطازجة والخبز الساخن، ضحكه على قصائد عبد الحق، بعد نثر الخيار والطماطم على طاولة متواضعة وانتقاء أصغرها وتقديمها لعبد الحق.
    المحطات البعيدة تقترب، ثم ترجع إلى تجزئة المكان، تثور فيه على نفسها وعلى مَن قاس خطواته بلون الدروب وإغراءات المطارات، إذ تتحول الأقفاص من سجن إلى ثكنة عسكرية ثم إلى ملاجئ لإحالة الجسد إلى التقاعد، والعقل إلى التلصص على حقيقة كانت من نوافذ لا تسمع ولا تفهم معنى أغنية ( نخل السماوة يقول طرّتني سمرة ).
    من ذات النافذة يفسر لقاموسه المتضاحك عليه معنى كلمة طرّ؛ طرَّ طراً كان طريراً، ذا رواء وجمال، لا هذه لا تعنيك يا وليد. يتركها ويلجأ الى تفسير آخر، فالطرير تعني ذا المنظر والرواء، وفي العراق منذ صغره كان يسمع في الشارع كلمة أطرّك طر، أي أقسمك نصفين، كما سمعها مراراً في التلفزيون:
    (( اللي يخالفنا نطرّو طر، هـ..هـ.. مو هإ إي))
    بالتأكيد لم يقصد التلفاز أن يزيننا بغرتنا ويسدل شعرنا على الجبين، فالطـّرة هي زينة المرأة في شعرها المصفـّف على جبهتها، لكن كلمة طرّيته نصفين قديمة، الله كم حاكم يا وليد طرّ أجساد شعبه طراً، وقصّه قصاً؟
    لتعبر الذكريات المطرورة بنصفيها المملوئين بالدم، سخرية حمقاء لا معنى لها. الشيء الوحيد الذي يضحكه بعض الطرف والنكات الوسخة في رسائل عبد الحق إليه، إذ كم تمنى أن يسمعها منه صوتاً لا مكتوبة.. الغربة ليست شرطاً من شروط الإبعاد الإجباري أو الاختياري، الغربة هي شعورك بنفَس يصعد ويهبط في صدرك وهو غريب عليك.. هذه الغربة العمياء والأكبر في طرّها.
    شدّ على يده بأطراف أصابعه، ضغط بقوة كأنه يرسم شيئاً ذا معنى، ضغط أكثر من ذي قبل، استعطف رائحة المكان، صداقته، والتقاءه بعبد الحق في سوريا. استحضر لحظات توديعه في المطار، جرّها جراً إليه، رفّ قلبه إلى عيني صديقه. اكتشف على شفتيه كلمة غريبة، فحّت رائحة حفرة عمياء على ساعده، مرّر أصابعه المرتعشة. هذه المرة استوضح الشكل الذي بين أصابعه، كان كفاً بخمسة أصابع.
    وكأعمى يهتدي إلى شيء رآه لأول مرة، فتح عينيه فوجد أصابعه تتلمس الفراغ.
    استخرج رسالة قديمة من عبد الحق، قرأ اسمه مكتوباً بالإنجليزية (From Abdulhak). آه لو نتخلص من إرث عبوديتنا، لأصبح لدينا الحق لطرح الأسئلة.
    وبقي يحادث نفسه.. كل ما أردته أن أزخرف الأشياء الجميلة وأطرحها على شكل سؤال، أبعِد عنها ما شككت به ومازال يحاصرني شكّه، سألت ما يمكن أن أسأله، وطرحت ما أشك به مستوضحاً.
    نلت بعدها مساطر على كفيّ، وتورّمت أصابعي.
    البراهين؟ لا، لسنا في حاجة لبراهين، في طابور المدرسة؛ قفوا، اصطفوا، أحفظوا، امتحنوا، تعالوا غداً نظيفين سيزورنا مفتش وزارة التربية.
    كل ما أردته من أبي أن يعطيني دينارين لشراء قميص، فقد تعبت أمي من ترقيع قميصي. لم أبادر بسؤاله؛ لماذا؟ وكل ما سمعته:
    -( جيب يا كلب، أنت عارف بالحالة شلون بنت كلب).
    خجل أبوه من نفسه، بعد أن تطلعت إليه والدته مؤنّبة، التجأ إلى حضنها، مسحت دموعه .
    ـ كل ما قصدته أن.. أن
    ـ أسكت يا بني، لا تعذبني أكثر.
    فأكرمها بسكوته، وأكل تأنيب مدرّس الصف له، فالمدرس رغب أن يقدمه كأشطر الطلبة ويتفاخر به أمام المفتش، لكنه قدّم عليه ابن تاجر الغنم، الذي ارتدى قميصاً نظيفاً لم تظهر عليه آثار الترقيع*
    بعيداً عن نافذة الخيال، بعيداً عن عبد الحق، رمى الرسالة أرضاً، أشعل سيجارة، أعد كوب شاي، وراح يتأمل طفولته وألوانه.

  6. #6

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 2-3

    5
    جلس يستعيد اللوحات التي رسمها الطلبة في كلية الفنون، ناقشه وقتها أحدهم، حين وجده يرسم أشكالاً غير واضحة الملامح، مجرد حُفَر في وجوه، العيون حفر، الأفواه حفر، الأشكال غير مترابطة، مجرد فوضى وهياج.
    سأله:
    -ماذا ترسم؟ أنت تسيء للفن برسومك هذه.
    - أجابه:
    - هذا ليس من شأنك، والنقاش بيننا عقيم، لكل منا طريقته في التعبير عن ذاته.. وأنت ماذا ترسم؟
    -أرسم ابنة العراق السمراء، أنثى غامضة أليفة الجمال، انظر كيف الأنوثة تصفو في عينيها.
    رد عليه وليد:
    - ترسم ابنة العراق، وأنا أرسم العراق كله.
    احتدم النقاش بين الأصدقاء، تدخّلَ أحد الأساتذة الذي خرج على صوت نقاشهم الحاد، تطاول عليه صاحبه ونعته بالشيوعية، ثم وجّه كلامه للأستاذ جلال:
    ـ أستاذ، كل لوحاته صراخ.. إنه يحرّض للثورة.
    نظر إليه وليد كقزم خسيس، متأكداً أن لوحاته ستُباع في الأسواق بثمن بخس وفي متاجر الفن الهابط. وحاول أن يلتمس له المعاذير، قائلاً: تذوّق الفن يحتاج إلى ثقافة عالية وعريضة المساحة.
    من وقتها لم يتدخل وحيد في رسومات رفيقه وليد، كي لا يفضح ثقافته السطحية، إلا يوم قادت الشرطة وليـــــد من الكلية إلى التحقيق مكبّـل اليدين.
    وقف متسائلاً، بعد استئذان الشرطي :
    - ألم تعجبك صورة المرأة التي رسمتها؟
    ردّ وليد بشجاعة:
    - لا (واستمرّ): كل يبحث عمـّا ينقصه، وعمـّا يترجمه من الداخل، أنت بحاجة لما يترجم نقصك الجنسي.
    نهره الشرطي:
    - وأنت أيها الكلب تنقصك الثورة، اسمعوا، هذه إجابة صريحة، إنه يدين نفسه أمامكم ويبرهن على تحريضه ضد الدولة والرئيس والحزب*
    في لندن يحوك عزلته في غربة نفسه، مجموعة لوحات تنتظر من يعرفها أو يستكشف ببياضها، مجاميع من الأماني لا وقت لها الآن ولا محل لها في ركن من الحياة. يتخيلها عارية، حلمة متورّدة لا يجرؤ على الاقتراب منها. يفتح الثلاجة، لم يجد زجاجة بيرة، يمشي متوتراً صوب المرآة:
    -ها أنا أعود لامرأتك يا وحيد.. لمَ لمتك وقتها؟ لمَ وبّختك ؟ لست أدري.
    تساءل وقطـّب حاجبيه:
    -هل كنت أكذب على نفسي وقتها؟
    شعر بحاجة ماسّة للتبوّل، دخل الحمام، ولعب لعبته المعهودة في إغلاق الضوء وفتحه من خيط متدلٍ قرب الباب:
    -ألا يكفي الإنجليز علبهم وأقفاصهم التي يتوهمون أنها بيوتاً؟
    ضرب الخيط كي يتأرجح، سحب السيفون، وترك الضوء منبعثاً:
    -كم أنتم تقليديون.
    ***
    رجع الى جلسته، استحضر أعزّته، كانت أمه تبتسم والمغزل بيدها على آخره. سمع طقطقة صفائح النفط، ابتسامة "علية" الأخيرة، نظرة طفلتها الجميلة. صديقة تعرف عليها أول مجيئه إلى لندن، بعد فترة اكتشف أنها تتجسس عليه، وكانت تعامله كامرأة مثلها، لم تكن تحب الرجال، أسرّت إليه:
    - أنها تعرفت على غانية مغربية تعمل سكرتيرة لدى ثري إنجليزي، بعد أن أغوته وتزوجته، كما ذكرت له علاقتها بامرأة ذات ثراء وزوجها الثري، كلاهما في الإمارات. ولمعرفته الجيدة بالناس وتجاربه الحياتية استنتج من أحاديثها أنها لا تصادق إلا من تجد لديهم ما تحتاجه وتصبو إليه، لا يهم إن كانت غانية سيئة السمعة ، من اجل حاجتها تترك أولادها وتبيت في بيتها ثلاث ليالٍ، المهم كم تستفيد من علاقتها بها. ومن تلك النظرة ذات المصلحة وطـّدت علاقتها بالخليجية، التي بحكم الطيبة المعهودة في بلادها شربت المقلب.
    استحضر من يحب ومن لا يحب، تنفست مسام جلده إثر ابتسامة تلتها ضحكة عالية، إذ طرأت عليه فكرة ذات يوم للتنزّه في شارع (هاي ستريت كنزكتن) استقل الحافلة (72) ثم سار مشياً ممشطاً الشارع ومحلاته وفنادقه ومقاهيه، الشقق الفاخرة، محلات البضائع النسائية والرجالية، مكاتب العقارات. شم رائحة بخور هندي ، استدرجته الرائحة ودخل المحل ذا الطابع الشرقي، الديكور الهندي بألوانه الزاهية بين الأحمر الناري والأزرق الفاتح، بضائع حريرية، ملابس نسائية وحلي، حقائب نسائية يدوية.
    دخل فاتــــحاً منخاريه على آخرهما، لم يقصــــد الشراء أو التجــــوال في الشوارع، بل رغب في رؤية وجوه النساء لعلـّه يجد من يتمنى رسمها. ابتسم له صاحب المحل، ردّ على ابتسامته، لحقه البائع الشاب عارضاً عليه خدماته. شكره، ثم ردّ على سؤال طرحه البائع حول مسقط رأسه :
    I am from Iraq)- )
    ـ ( أوه.. صدام.. You are from Saddam)
    هزّ رأسه مؤكداً :
    - لكن كما لديكم (غاندي)؛ لدينا......(مبتسما)، مع الفارق طبعاً. وبما أن في بلادكم حكمت امرأة مثل (أنديرا غاندى )منذ زمن، نحن جاءنا الفرج، لقد رفعت نزيهة الدليمي ورفيقاتها صوت المرأة عالياً. وطبعاً مع فارق الزمن.
    - اسمح لي ، أظنك فخوراً (بطاغور) ، ونحن فخورون بالسيف الذي تغني به المتنبي. أنتم تعودتم لغة السلام ونحن لغة السيف ، تفننتم بالتجارة والزراعة والعلم والفن وكل ما يحتاجه الإنسان، ونحن قمنا بطمر الإنسان ووسعنا قبره.
    وضع يده على وليد: لا تكن متشائما.
    ـ (أوه .. سوف أفعل. (مستهزئاً).
    ثم خرج مودعاً، كأنه يبحث عن شيء فقده .
    استوقفه محل للوشم.. طوابير الفتيات المراهقات، النساء والرجال. دفعه حب الاستطلاع إلى الدخول،غرفة ذات أربع كنبات حُشرت عليها أجساد الفتيات المنتظرات دورهن، صور معلقة على الحائط بكل الرسومات الصغيرة والكبيرة مستعرضة الأشكال والمواقع الموشومة، على السرّة والأفخاذ والأوراك والأثداء.
    شاهد صورة امرأة وصورة صليب موشوم على عورتها، بينما صورتان لرجلين أحدهما جالس على ركبتيه الموشومتين والرسومات تملأ فخذية وعلى مؤخرته، بينما وقف الثاني منتصب القامة كأن منظره الموشوم يقول ها أنا ذا برجولتي المزخرفة.
    مدّ يده إلى بنطلونه يتحسس شيئاً فقده منذ زمن، وفكر؛ ماذا لو حجزت لي موعداً مع الوشّام، ربما نغز الإبر يوقظ المقتول بين فخذي، هزّ يده مستنكراً، وخرج*
    شعر بحرارة الكرسي تحته، كان الوقت يُغرقه بالذكريات، وكانت الساعات الثلاث التي قضاها على جلسة واحدة قد تركت النمنمة والخدر يدبّان في قدميه حتى لم يعد قادراً على تحريكهما. فركهما بيده، شعر بوخز قوي في رجله اليمنى، فركها أكثر، دعك ساقه وقدمه، اعترف بالخطأ الجسيم أمامها:
    - ((من حقك أن تخدري، أكو مجنون يجلس ثلاث ساعات مرة واحدة؟ أي وين كنت يا ابن الكلب أكو واحد يسوّي عملتك هذه؟ إي ما جعت؟ ما عطشت؟
    - أدري بأنك كنت ترسم صورة في خيالك، تستحضر كل الوجوه في (هاي ستريت كنزكتن)، تتفحصها وجهاً وجهاً، ثم ما الذي استفدت من اجترار أشعار عبد الحق؟
    حتى التليفون كان مصـــراً على الصمــت، كان متواطئاً مع ساعاته. نهض متعباً، لم يكن راغباً بفتح التلفاز، ولم يستحضر امرأة بباله. وقف أمام المرآة في مدخل الشقة، تفحص عينيه المحمرّتين، ثم أشار بإصبعه: نعم، مازلت تشبه وليداً الذي عرفته. وليد بائع النفط، وليد الرسام، وليد الذي لم يساوم.. انتبه فجأة.. ووليد النصف، وتريد أن تهواك امرأة؟
    - النساء تحب الرجل الكامل، المرأة أيها النصف تحب أن يمسكها الرجلبيديه، يطبقهما ويتفحص الجسد، يتنقل من نقطة إلى نقطة،يرتجف عشقا ورغبة فأين يداك؟
    ثم أنت فاقد لحاسة الشم، تشم ماذا؟ ها. كيف تتغزل بعطرها؟ وعضوك المخذول ماذا تفعل به؟ هل تتذكر أول ( قحبة) جئت بها من (البيكاديللي) إلى هنا؟
    هل نسيت ما قالته إليك؟ أنا أذكّرك، قالت لك: لا جيب ولا رجولة أحضرتني هنا لتمصّ ثديي، طيّب هات نصف أجرة إذاً؛ ودفعت لها أجرة كاملة لتغطى عيبك.
    ماذا لو كانت "علية" الآن أمامك، وأنت لا جيوب ممتلئة ولا سيارة فارهة ولا رجولة؟ مجرد زبالة تتصورها وليداً، (تفو عليك..)
    بصق وراح يتابع بصاقه كيف تنزلق على سطح المرآة، حتى وصلت إلى النصف؛ نعم:
    -استقرّي هنا. (وينك يا علاّوي تشوف صاحبك، حتى التفلة عرفت وين تستقر

  7. #7

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 2-3

    6
    علاوي أحد أصدقائه الذين استقروا في الإمارات منذ السبعينات، وأصبح تاجراً الآن وذا نفوذ في البلد. كاد أن يُغمى عليه فرحاً حين شاهده ذات يوم
    صدفة، وهو يتجول في محلات (ماركس أند سبنسر)؛ في شارع أوكسفورد).
    ـ علاّوي.. ماذا تفعل هنا؟ متى وصلت؟ ما هي أحوالك؟ هل أنت وحدك أم مع نسوان؟
    ـ وليد.. يا للصدفة الجميلة، وأنت ماذا تفعل هنا؟
    ـ جئت لأبحث عن امرأة أرسمها، وأنت؟. للتسوق أكيد.
    خرجــا معاً، كانــت سيارة بسائقها في خدمته، أشار للسائق بالانطلاق والتوجــه إلى مطعــم (مســـقوف ) .
    بعد تذوق أطيب الأكلات وألذها قررا أن يلتقيا ليلاً في دار مراكش، هناك ألذ المأكولات المغربية والشيشة. هل تعرف المكان جيداً يا وليد؟
    ودعه وليد مؤكداً على معرفته المكان وعلى الذهاب إلى هناك لانتظاره في التاسعة مساء.
    معدته لم تألف مثل هذا الأكل، فثارت عليه مترجمة رفضها بآلام حادة، صاحبها قيء وصداع. فقرر عدم الذهاب حسب الموعد قائلاً:
    -هذا أحسن، ألم معدتي لم يكن من التخمة بل من فراغ الجيب.
    المفروض أنا من يضيّف، هو الزائر وأنا ابن البلد. ثم إذا ذهبت هناك هل أتركه يدفع عني، وأنا لا أملك سعر علبتين من البيرة ؟ يا الله، هذا أفضل. شكراً أيها المغص المنقذ، خلصتني من ورطة كبيرة،من الدفع ومن سيل لعابي على النساء وعلى حديثي عنهن:
    -الصدر بضّ، الشعر ناعم، المؤخرة مدوّرة، تفعل ما ترغب به، هي في خدمتك، بينما زوجتي.. ثم يصمت علاوي.
    التقط قطعة لحم بالشوكة وقبل أن يضعها بفمه يبرر لي سبب خيانته لزوجته:
    صحيح أنا أحبها بجنون، لكنها أكلة واحدة، يا أخي ملــّيت كل يوم بامية، بامية.. إي هم يشتهي الواحد اللحم الروسي الذي غزا شوارع الإمارات ودوائرها ومحلاتها؛ ثم أنا مللت من اللحم الفلبيني.
    ( حين كانا في المطعم ، كان يضع قطعة من لحم الكباب في صحن وليد ويقول له) :
    - كُل يا وليد، كل. هذا لحم إنجليزي.. ويغمز له، أكيد ذقت اللحم الإنجليزي؟
    تمدّد وليد على فراشه، وراح يقرأ رسالة عبد الحق التي وصلت صباحا، قرأها أربع مرات، ثم الخامسة، استفزه شعر عبد الحق، تخيل صورة ما، ودخل المرسم، يستعيد الكلمات ثم يرسمها. يتناول الألوان، ويضع حرفاً على شكل قوس، وتمرّ الساعات.. يقف يتطلع ، يرسم، يشعل سيجارة ، يشرب قليلاً من البيرة، يضعها أرضاً ويواصل .
    أذهله سحر اللوحة، إنها كيان وليست ألواناً فقط، لا بل قصيدة، لغة بالألوان. يحدث لوحته، يقف وهو يسند ظهره إلى الحائط : وينك يا عبد الحق، وينك تجي وتشوف بيت الشعر الذي قلت فيه:
    خضّبتُ المستباحَ
    حمّلتُه ميعادكَ وانفلقتُ.
    - ها هي انفلقت..
    كل المستباح، من رجولتنا إلى أرضنا. ثورة ألوان.
    أحمر، أخضر، أصفر، أزرق؛ سأسمّيها المستباح؛ ولن أعرضها في أي معرض، هي لي.. يجب أن أعلّقها على هذا الحائط. لا، في غرفة نومي، لا.. هي هدية يا عبد الحق، هدية.
    وراح وليد يدير قرص التلفون، بعد ثلاثة أرقام تطلـّع إلى ساعته، وجد أن الوقت غير ملائم، فقرر الاتصال بعبد الحق غداً.
    لم يلتقِ بعبد الحق في سوريا، لكنه التقى به في كلية الآداب في بغداد، وتصادقا بعد أن التقت أفكارهما وآلامهما. كان يلحظ ألماً دفيناً في عيني عبد الحق، وبعد توطد الصداقة حكي له كل شيء، وصارا لا يفترقان. لكن فرّقهما السجن، من وقتها لم يسمع عنه أي شيء، إلا مفاجأة عبد الحق له عبر الهاتف في لندن.

    ***

  8. #8

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 2-3

    7
    كانت أمه قاسية جداً، تضربه كثيراً وبعنف. كانت تعكس مشاكلها العائلية وسخطها على عائلة زوجها التي تغار منها لكونها جميلة، ولكونها استحوذت على قلب أبيه. لم يكن متعلقاً بأمه، بل بأبيه الذي كان عاملاً في شركة البيبسي كولا، ثم شرطياً، ثم سائق تكسي. كان متفوقاً في المدرسة، وخاصة في دروس اللغة العربية، وكان موضع اهتمام مدرس اللغة العربية، حيث أهداه مجموعة قصصية لـ(فهد الأسدي).
    هرب من البيت إثر ضرب و إهانة من والدته، وسكن عند عمته.
    كانت طفولته في (الشاكرية ). و كانت ( الشاكرية ) عرصات وصرائف للعمال والفلاحين النازحين من الجنوب، ليس فيها مدارس أو مراكز صحية. وعندما كان أحمد حسن البكر رئيساً للوزراء، انتقل مع عائلته إلى مدينة الثورة، أرض مهجورة متعاطفة مع عبد الكريم قاسم ، وفي عام 1963 اعتقل الحرس القومي الشباب من جيله، ورحّلوه بعد هجوم على بيت عمته وسحل زوج العمة بدمه. ثم خرج بعد شهور من الاعتقال والتحقيق، حيث لم يعثروا على ما يدينه.
    كانت ميوله دينية في بادئ الأمر، لكن القراءات في فترة عبد الرحمن عارف، لِنجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس وغيرهم أبعدته وهو في سن المراهقة عن الحس الديني، ونتيجة تأثير الأقارب والأصدقاء الذين ينتمون للحزب الشيوعي، والذين كانوا يزودونه بالكتب وهو في سن السابعة عشرة، أصبح شيوعياً، ثم عضواً في اتحاد الطلبة.
    في سنة 1972 تعرف في جامعـــــة بغداد على فتاة سمراء، معه في القسم نفسه، وتزوجها بعد ذلك، وفي السنة ذاتها قُدّم ضده بلاغ بأنه ضمن خلية حزبية تتآمر على اغتيال قائم مقام مدينة الثورة. واعترف عليه شيوعي سابق من المنطقة بعد تعذيبه، وعلى مجموعة من الشباب.
    حين داهموا بيت عمته مرة ثانية، لم يجدوه في البيت. وسجل اسمه إثر هذه التهمة الملفقة مع الممنوعين من دخول الجامعة، فطلب منه الحزبُ الاختفاءَ لمدة سنة.
    في أول سنة له في الجامعة، كوّن مع أصدقاء له من شعراء وكتاب ورسامين أصبحوا معروفين الآن (جمعية اتحاد أدباء مضاد) ؛ رغم أن بينهم من بعثيين والشيوعيين. ولقاءاتهم في مقهى المثقفين في بغداد حمّسته على كتابة الشعر ومواصلة الثقافة. ومن خلال اتحاد الطلبة توطدت علاقته مع جريدة (طريق الشعب) وتم ترشيحه للحزب قبل السن القانوني.
    إثر تسرب معلومات لوالدته عن مكان الجريدة ، جاءت إليه وزارته في مقر جريدة طريق الشعب ، وأصبحت العلاقة بينهما إثر تلك الزيارة، رغم توترها، فيها شيء من الألفة وحنان الأم.
    إلا إنه بقي في بيت عمته، ثم انتقل بعدها إلى بيت ابنة عمته التي تكبره بكثير، أرملة استشهد أخوها إثر اعتقاله سنة 1963 مع مجموعة القيادة المركزية بعد أن حقن في رأسه إبراً أودت به إلى الجنون ثم الموت.
    أما هي فقد كانت توزّع المناشير في علاّقة ،الخضار وهي ذاهبة تتسوق، كانت غاية في الجمال، وحادة الذكاء، وتحب الحزب بشكل تلقائي وعفوي، وصاحبة نكتة.
    تزوج عبد الحق سنة 1979 وفي السنة ذاتها ترك العراق، قدّم على جواز سفر بصفته عاملاً بكفالة قدرها خمسة آلاف دينار، ووقع على وثيقة صحية لكونه ذاهباً للعلاج في بلغاريا ثم السياحة في تركيا، وعقوبة تكذيب هذه الوثيقة هي الإعدام. في الحدود بقوا ليلة كاملة، بعد أن أعياهم السفر من الموصل إلى دهوك. نقطة إبراهيم الخليل كانت مرحلة الشك في سفرته، سمحوا لزوجته بالعبور لوحدها. سمحوا للمرافق أن يمر، بينما أمروا المريض أن يرجع مع شقيق زوجته الذي قادهم إلى نقطة الشك بسيارته مدعياً أنه صاحب تكسي.
    انتقل مسرح التدبير للخروج من العراق إلى والد الزوجة، رجل بسيط صاحب محل لبيع وتصليح الزجاج ، يمرّ عليه ضابط يعمل في الجوازات. فطلب منه جواز سفر جديداً لصديق اسمه مظلوم، وأعطاه صورة شخصية لعبد الحق، وحين سأله الضابط عن صاحب الصورة أكد أنه عامل بناء، لكن الضابط أصرّ على أنه صحفي، وأنه شاهد صورته في جريدة طريق الشعب.
    فأقسم له:
    - لا والله يا أبو مخلص، هذا رجل بسيط لا يعرف طريق الشعب ولا طريق الحكومة.
    عندها وافق الضابط على ذلك، وقبض قيمة الجواز مئة دينار، وهو يقول: إكراماً لك يا عم أسقط حقي في الأجرة، لكنْ لدي عمل صباغة في الدار وأريده أن يقوم بذلك.
    انتقل عبد الحق من القلم إلى الفرشاة، يلطـّخ هنا ويعربد هنـــــــاك، ولمدة شهر كامل. غادر بعدها إلى سوريا، ومن سوريا التحق بزوجته في بلغاريا.
    هناك أصيب بإحباط ، كانت بلغاريا بالنسبة إليه صدمة حضارية وثقافية، فبينما كان فرحاً ومتهيئاً نفسياً لمشاهدة بلد ديمقراطي مقارنة بالوطن، وجد شيئاً آخر، لكن العيب لم يكن في البلد، بل في الناس، كانوا نصّابين باسم الرفاق، أين الرفاق الذين عهدهم في العراق؟ فلاحون وعمال ، مثقفون وبسطاء، أين هم؟ من هم الحقيقيون ومن هم المزيفون؟.
    إنه يعرف الكثير منهم والذين جاهد معهم، وتوقف واعتقل معهم.
    ترفـّع على الصغائر واهتمّ بالانتماء، بانتمائهم ابتعد عن التشكيك بالآخر كما كانوا يفعلون. سلبية الأحزاب بالحكم وسلبية البيروقراطية والزجر والأوامر جعلته ينهار، إلى درجة أنه لم يقوَ على ممارسة الجنس مع زوجته لمدة سنة، بعد أن خضع لجلسات علاج لدى طبيب نفسي.

  9. #9

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 2-3

    8
    من الصعب أن يجد المرء القدوة والمثل ينهار في نظره، رغم أن الكثير من النساء والرجال ضحوا من أجل قناعاتهم وانتمائهم الحقيقي والمبدئي.
    كانت تراوده صورهم وهو في المصحة ، منها صورة تلك المرأة الجميلة، زوجة صديقه الذي يسكن في مدينة الثورة. كان لا يستطيع أن يلتقي معها في البيت أو في مدينة الثورة كي لا يكشف صلتها الحزبية معه، فيواعدها في ساحة النصر.
    سابقاً كانت العباءة العراقية هي ستر المرأة، والغانيات هنّ من يرتدين القصير والعاري من أجل جلب الزبون. ولكن في أعوام السبعينات تخفـّت المومس في العبــــــاءة، وصار ارتداء المرأة لملابس محتشمة يُعدّ جذباً للتحرشات والمعاكسات. تعرضت تلك الرفيقة للإساءة، وكان الراغبون في امرأة يسألونه، وهو يسير معها لتوصيل خبر أو تعليمات حزبية، عن أجرة الساعة بصفته القواد، المرافق.
    لقد تعرضت للاعتقال والتعذيب، وسمع في بلغاريا أنها ماتت صامدة ولم تخبر عن رفاقها، كما سمع عن إعدام شقيق زوجته الذي وقع على كفالته بأن المعلومات الكاذبة التي قدّمها هي معلومات صحيحة. قصته تكفي أن ينتظر قليلاً، ويكفّ عن الكلام. لذا لم يكمل عما عانى في بلغاريا، وظنّ أن هذه المعلومات تزيد إحباط وليد، فاختصرها في رسالته الطويلة.
    أخبره أن الأوامر اقتضت إرساله إلى اليمن، وأرسل عن وضعه في اليمن ديواناً شعرياً يترجم فيه كل شيء، سمّاه "الصهيل المبتور".
    ثم وضع نقطة سوداء كبيرة في نهاية الرسالة، وترك ملاحظة يشرح فيها كيف عرف عنوانه من صديق يعمل في الصحافة في ألمانيا، فكانت تلك اللحظات بالنسبة إليه لحظات استثنائية أن يعرف عن صديقه الفنان. كما أن الصديق ذاته دبّر له عملاً معه ، وراح ينشر أشعاره مترجمة إلى اللغة الألمانية، ومرة بالعربية. *

    عاين وليد يمنة ويسرة، فوجد أشرطة تسجيل مرمية أرضاً حيث يعتبرها أشرطة غسل الذاكرة، أدار المسجل بعد أن وضع فيه شريطاً لأغانٍ قديمة، وترك هاجس المرأة يعبث بمخيلته.
    غمرته نشوة جنونية وهو يحاول الوصول إلى حلمة متوردة، كلما انتهي من رسم امرأة من المخيلة مزقها، وبحث عن أخرى. يقترب منها،تسحره عيناها،تزحف النشوة إلى جسده وهو يحرك الكرسي الهزاز ويداعب شفتيها.
    تسير يده ببطء، تقرأ وجنتيها ورقبتها، يمرر طرف إصبعه على زندها وعظمات رقبتها ناحية الظهر، ينزلق إصبعه في ممر العظمات ويستقر عند قراءة المفرق، آخر عظمة تتربع بين تلـّين من اللحم الأبيض.
    خطوط جديدة تزيح اللحم البضّ عن مخيلته، فتأتي عابرة ودون استئذان صورة "علية"، يفتح عينيه ويهرب من صورتها القديسة، يجلس على الأرض، ومعه ثلاث علب من البيرة، يضعها أمامه دفعة واحدة، ويضع عشرات من السنين في خزانة قلبه.
    يقضم أظافره بأسنانه، لا يجد أمامه غير صورة الفراغ، يفرك عينيه باحثاً عن لون. يبرهن لنفسه أنه مازال يتنفسها ويشم رائحتها:
    - تعالى، تعالى يا علية ، تعالى ولو في الحلم.
    يسند ظهره إلى حافة الأريكة، يندف شعره الذي تركه على سجيته دون حلاقة أو صبغة، يستحضر كل ما يمتّ" لعلية" بصلة، فيجده عصياً عليه، يتمدّد على الأرض كسفينة لا تجرؤ على الإبحار، يجلب له خمس علب أخرى، ويتركها قرب الثلاث الفارغة. ثم يرجع لسفينته، ليعطيها قليلاً من جرأة، وحين عصت.. حثـَّها، ولما استكبرت، دفعها إلى حافة الرمل ، انزلقت قليلاً إلى الماء.
    أغمض عينيه بارتخــــاء ساخن، كانــــت على صدره اثنتان تجددان القُبل، وختم الشفتين يزيّن رقبته ويديه وبطنه العارية. نفَـَس حار، وشعر أشقر أُسدِل على وجهه، شمّ رائحة عطر لم يشمه من قبل ، نساء هاي ستريت كنزكتن، أجورد رود، بيكاديللي، الناصرية، بغداد ، لم يجده على بطاقات السفر اليومية وعلى تذاكر الطائرات. بينما سمراء متمردة بشعرها المتمرد، تطوقه وتشمه، وتصطك أضلاعه بأضلاعها، ويكاد أن يحيي الميت فيه.. فإذا بعربدة جاره السكير تستقر في رأسه وتعيد إليه صحوته .
    أفزعته الوحشة والفراغ بينما العزلة أصابته بالخرَس، لم يجد أثراً لقُبل. تفحّص بطنه، فتح منخاريه ليشم رائحة امرأة، لم يجد أية شفة تتصدق عليه بقبلة، كان قلبه بوسعه أن يتسع لحلم استثنائي. وكاد أن يدخل صدر الشقراء، يخترق نبضات قلبها ويدخل.
    دار في الصالة عشر دورات، دخل غرفة نومه، شعر برقصة على أصابعه. عضّ شفتيه ومدّهما، عضّ الفرشاة الصغيرة، ابتعد مسافة مترين، تحسس يده المبتورة، سكت، فاض في قلبه شيء غريب،أحسّ بجسارة سؤال في صدره : ما الذي يمكنه أن يصور امرأة تفضح النهدين؟ امرأة هي غايتي وجرحي العابث باللذة.
    التفّ حول نفسه، وقف أمام المرآة :
    - هذه اللوحة الأخيرة، وسأعلن عند إتمامها عن معرضي، وأدعو إليه أصدقائي المقربين؛ لقد نالت مني العزلة ونلت منها ما يكفي. نعم يا (دافنشي)،العزلة هي الحرية، وصدقتَ حين قلت:
    - ( إذا كنت وحيداً فأنت تملك نفسك، وإذا كنت مع رفيق واحد فلن تملك إلا نصفك ).

    بعد حمّام دافئ، فتح صدره لهواء الشرفة، صرخته اليوم أكبر من صدره، وجدها تهتزّ مع الشجر على مرأى من الهواء لسعته البرودة، زرّ بلوزته الرمادية ضامّاً صدره إليه، قبل أن يغلق النافذة أخذ نفَساً عميقاً، وأغلقها بهدوء، أعدّ كوباً من الشاي، استخرج رسائل قديمة وصوراً قديمة لأهله، تضاعف حجم السؤال حين وجد صورته في الناصرية، ابتسم لنخيلها:
    - أيتها الجميلة يا ناصريتي الموقرة، سأحفرك في مجرى الروح.
    - احمرّت عيناه، واحتقنت وجنتاه، تطلـّع إلى المنفضة، وجد السيجارة قد أكلت نفسها. خطا نحو مرسمه فرحاً : أيتها اللوحة خُذيني إليك.
    سألته الحبيبة: لا بدّ أن أطير على جناحيك.
    لم يسمعها، هيّئ له أن صوت "علية" مرّ قرب ريشته المغموسة في اللون الأحمر، سأل وجه أمه من الفرشاة، دهش حين وجد الوجه يبتسم له قائلاً:
    - جِدْ نفسك يا بني، جدها. هيا ارسم، مازال في الوقت متسع، ومازال في العمر نفَسٌ لعزف ناي.
    ضرب جبينه براحته اليمنى:
    - مازلت تحلم يا وليد، خذ ما يكفي من اللون، خُذ ما يكفي من النسيان ، ما يكفيك من الذكــّر وارسم.
    بعد أن شعر بالجوع يعصر معدته، تطلع إلى ساعة يده، وجدها تشير إلى السادسة مساء. لم يعبأ بالوقت الذي مرّ، ولم يعِـر للجوع أهمية ،استسلم للألوان، اهتدى إلى شعاعها ، راح يهذي كمن يحادث شخصا حقيقياً :
    - سأرسمكِ كما رأيتك في الحلم أيتها الشقراء، مومسٌ بحفنة امرأة.
    - سمرائي أين ساعدك الجميل، سأرسمه صيحةً تعرّي إطارك، واعذريني فقد قلت سأرسمك وأجسّد شقرائي، هذه حكمة الرجال حين يصبحون عبيداً لسراويلهم. أرسمكما لتمثلا الحرب، وسأردّه إلى ضميره وضمير سادته واعذريني حبيبتي "علية"، لن تموتي حرباً إثر حرب، لقد حفرتك في مجرى الدم، لا تقوليّ؛ يهذي أو يثرثر.
    شمّ رائحة نساء مختلفة المصدر، عجين أمه، غطاء رأسها. بعثر ملابسه أرضاً بعد أن داهمته سخونة الرائحة، صوت أنثوي يصبّ بمصبّات الجسد. اقتربت منه حورية سمراء، دنت من رقبته وقبّلتها، شقراء ضمّت رأسه بين نهديها، دارت به دوامة مومس، بينما مومس ثانية تتبادل معه سكرته، تعيد له النصف الخالي من العمر، وتسكره معها ثانية.
    لم يدرِ ِ كم مضى من الوقت، لكنه حين أفاق إلى نفسه، اكتشف أنه جالس في ركن قريب جداً من اللوحة المربعة الشكل. غمس فرشاة جديدة باللون الأصفر: شعرك كالحصان سأتركه يلتفّ على عنقك، الفجر يخاف من القمر، أنتِ قمري.
    فتح ثلاثة أزرار من ثوبها، فبانت استدارة النهدين البضّين:
    - ويحك يا وليد أمازلت تحدّث لوحاتك؟،
    غيّر طبعك هذا، وإلا أكلتك الألوان؛ لن تحتاج لوليد آخر.
    مرّر إصبعه بين نهديّ الشقراء بينما السمراء ظلـّت تراقبه، وعيناها تكادان تأكلانه. سحب كـمّ فستانها، ليظهر الكتف عارياً محدثا لوحته:
    - في الناصرية حين يتعرّى الكتف يعني يا قاتل يا مقتول، والدماء تصل الرُّكب، فالعار لا بدّ أن يُغسل. أما في لندن فالأكتاف العارية ببلاش، والنـهود النافرة على قفا من يشيل

  10. #10

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 2-3

    أحسّ بثقل قدميه، تحرك ببطء باتجاه التلفاز، سمع صوتاً يناديه:
    - عيناك متورمتان يا وليد، خُذ قسطاً من الراحة.
    رجع ووقف قبالة الصورة، أغمض عينيه، تذكر أنه اشترى زجاجة عطر غالية الثمن (Givenchy) لغانية رافقها ثلاثة أيام ، وحين وجدته غير قادر عن إحياء ميّت بين فخذه تركته هاربة من فشله .
    جلب العطر إلى شقراء اللوحة، الأنثى وحدها تنصت لهمسه الخفي ، رآها بالقرب منه تسيل نظراتها عليه ، التصق بها ورشه على عنقها، اقترب من شحمة أذنها وقبّلها عليها، اشتعل مصباح جسده، احتاج لاحتراق، سمع صوت المطر وهو يعانق الأشجار، أبعده عن سطوة الجسد، لكن رائحة الأنثى اتجهت صوبه، اقتربت منه، شمّ أنفاسها، بذل جهداً لمقاومتها.. رمت شالها البرتقالي، بحركتها العفوية تفتقت أزرار ثوبها، وضغطت على خدّه، ثوب أزرق وجسد بض، عناق الضدّين، تآمر عليه.
    أطبقت السمراء شفتيها على شفتيه، وطبعت قبلة حلوة، لكن عينيه شاخصتان باتجاه حلمة وردية وثدي نفر من ثوبه الأزرق.
    صلـّى فؤاده بمحراب الأنثى، لصق وجهه في سُرّة الشقراء، وبحركة عفوية أبعد عنه ذات الرداء الأحمر. يرتاح لصوت أعماقه، نده شقراءه :
    - خلـّصيني منك.
    أسكتته بإشارة من إصبعها الرقيق الملمس، لمع جسدها في الظلمة: ماذا ستفعل بالسمراء؟
    ـ فقط ضربات فرشاة.
    سمع صوتاً آخر يناديه باسمه، كلـّمه وليد في صمته:
    - ويحك وليد، صرتَ تـكلـّم نفسك. الله يلعن الوحدة ، وتتهيأ أيضا ؟
    رشّ لوناً ذهبياً على إطار الصورة المركون أرضاً:
    - الشقراء رمزٌ للغواية.
    تردّد الصوت ثانية؛ وليد.. وليد.
    ـ يا رب أنا لم أكلـّم نفسي إذاً مَن أنتما؟ هل أنتما من الجن؟
    ـ وهل لرجل مثل وليد وثقافته أن يؤمن بالجن؟
    ـ نحن امرأتاك، اقترب من اللوحة.. هل تسمعنا جيداً؟ نريد أن نعقد معك اتفاقاً.
    ـ عن أي اتفاق تتحدثان؟
    فرك عينيه، وفرك أذنيه، كي يُبعد عنه التهيّؤ. سمعهما مرة ثانية، وثالثة وعاشرة:
    ـ نريد الخروج من عالمك، لنا رغبة في التجوال والطواف في شوارع لندن.
    ـ لكنكما مجرد ألوان، نساء من ألوان.
    ـ نعرف ذلك.. امنحنا حريتنا ولو لمرة واحدة، ألستَ تحبّ الحرية وتحبّ المرأة المتمردة؟
    ـ إننا نعلن العصيان عليك، ونتمرّد على إطارك الذي هيأته، كما نتمرد على سجن أفكارك.
    تقدمت السمراء إليه :
    - أرجوك.
    قبّلته على جبينه.. ارتعش لدبيب القبلة في بدنه.
    تحسّست الشقراء بطنه:
    - أرجوك.
    قالتها بصوت خفوت يسيل لعاب الذكور له، ومدّت يدها تمسّ عضوه من خارج البنطلون. قال لها:
    - إلى أين تذهبين، إنه معطـّل؟
    أشارت إلى السمراء بفكّ أزرار قميصه، وأخذته بين ذراعيها:
    - لا بدّ أنك تعيش في أحلام اليقظة.
    استسلم لها وهي تنزع ثوبها الأزرق، وتقف أمامه عارية وفتحت زنـّاّر بنطلونه، اهتزت الأشجار قرب النوافذ، واهتزّ معها زجاج الشبابيك حين سمعها تهمس في أذنه:
    - كم أنت جميل يا وليد.
    رغم استغراب السمراء مما يجري وما فعلته دون قصد منها، ارتاحت لأوامر الشقراء، جرّته من يده، وأجلسته على الأريكة، ثم جلست على ركبتيه، حرارة جسده تُشعل جسدها، أدنت طرف أنفها من أنفه، شمّت أنفاسه، واعترفت بعشقها.
    شفتاه فتحهما بذهــول، واســترجع آخر حرفين سمعهما من كلامها (I love you). إنه بلا زوجة، بلا "علية" الحبيبة، وبلا شهقة يفرز فيها سائل ذكورته. إنه مجرد قطعة من أثاث الشقة، وخرائط لا ورق ولا جدران ولا حول لها لترسم نفسها.
    أدار عينيه حول محتويات الشقة، طاولة صغيرة، أريكة قديمة، سرير مخذول، مسجل وبعض أشرطة مبعثرة، تلفاز، ثلاجة، لوازم مطبخ. وهو، وألوان تتجول حسب إرادته، قماش الكنفز، وخشب ومسامير. قال لها:
    - اقرصيني، اقرصيني ، أريد أن أعرف إن كنت في يقظتي أم..
    - وضعت إصبعها على شفتيه كي لا يكمل، وارتمت على صدره، سمراء بشعر أسود طويل وثوب أحمر وثديين نافرين، وتركته يكتشف جسد الشرق: جلدكِ ناعم، ناعم.. يا.
    تركها وفتح ذراعيه للشقراء:
    - وجلدكِ أيضاً، أنت غريبة أليفة.
    استكشف محاكاة أخرى للجسد، نقاط خفيفة بيضاء علقت بأصابعه، بينما علق لون أزرق في شعر صدره ورقبته، إذ مازال اللون طرياً لم يجفّ، كما أن هناك جزءاً من ثوب السمراء مازال أبيض لم يصبغه بالأحمر. الدهشة والحب و غير الواقع واللامعقول والشال البرتقالي، شلـّوا تفكيره، لكنّ الشقراء وهي تعبث وتلعب بشعره، ثم تنحني إلى شعر أسفله، علقت بأصابعها بعض شعيرات راحت تنفخها في الهواء، وتطلب منه السماح لها بالخروج إلى شوارع لندن. فردّ عليها دون أن يعرف سبب خضوعه لها : سأفعل لكن بشرط :
    ـ اشترط، نحن موافقتان على شروطك كلها (بصوت واحد).
    ـ أمنحكما اثني عشر يوماً، على أن تعودا قبل تمام الساعة الثانية عشرة ليلاً، ولن أقبل التأخير ولو دقيقة واحدة. لقد حجزت القاعة، وحدّدت يوم العرض بعد ثلاثة عشر يوماً من الآن.
    ـ نوافق.
    ركضتا فرحتين، دخلت الشقراء غرفة نومه وخرجت مسرعة، أمسكت السمراء من يدها؛ هيا.. هيا.. قبل أن يرجع في قراره.
    ركض خلفهما، وأعطى السمراء بطاقة فيها عنوانه واسمه، مشى حافياً على أرض المطبخ، سخّن ماء و وضع فيه كيساً من ورق الشاي، لم يكن مقتنعاً بما سمع ورأى، ولما سمع حركة، ركض مسرعاً إلى شقرائه، قبّلها من وجنتها وضمّها إلى صدره:
    - احترسا، ففي الخارج غابة من ذئاب. (وشدّ على يدها):
    - لا تنسى أني أعبدك.
    ردّت عليه السمراء: وأنا كذلك، أحببتُك منذ أن كنتُ فكرة تدور في رأسك.
    رجع إلى كوب الشاي، وضع قليلاً من السكـّر، وتذكر أنه لم يطلق عليهما أي اسم. التفت راجعاً، لم يجد أحداً. وحين لم يجد غير انكسار الضوء على النافذة، عاد إلى الثلاجة، استخرج ثلجاً ووضعه في قدح كان فوق الثلاجة، صبّ الويسكي عليه، وشربه دفعة واحدة. ثم سكب الشاي في مغسلة المطبخ، ضرب رأسه وجبينه، وترك السيجارة تحرق أصابعه، وراح يلوم نفسه :
    ـ كيف تركتهما تغادران؟ لماذا ضعفت لرجائهما ؟ وكيف طرأت لهما فكرة الخروج؟
    - ويحكَ لستَ بالكفء للعشق، لامرأتين فيهما طفولة ألوانك.
    تذكر أن لديه حبوب (فاليوم)؛ فتناول حبّـة من (دوز العشرة)، وهو يردد :
    - ما أغباك يا وليد، فاليوم و وسكي، ستنام نوم أهل الكهف.
    ألم حاد في قدميه، انتقل إلى كل عضو من أعضاء جسده، ضغط بيده على عضوه الذكري، ألمه كثيراً:
    - أتؤلم الرجولة؟ خاطبه واستمرّ ضاغطاً:
    - لا ترفع علَمك، دعه في سباته.. حين اختمرت رجولتي كنتُ أخبّئ علمي بين فخذي لئلا يفضحني أمام أمي وأختي، تركته يضمّ رأسه بملابسي الداخلية التي نزعتها وغسلتها ثم نشرتها تحت السرير، وغادرت مسرعاً إلى المدرسة، حيث وصلت متأخراً، كان علَم المدرسة مرفوعاً والأولاد تجلـّوا بالنشيد الوطني:
    موطني موطني. كنت أخفي عضوي عن والدتي استحياء، واليوم أخفي وجهي عن عضوي استحياءً.

صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. ثلاثة هن راجعات إلى اهلها
    بواسطة راما في المنتدى فرسان التفاسير
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 03-09-2012, 06:18 AM
  2. السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
    بواسطة وفاء عبدالرزاق في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 45
    آخر مشاركة: 10-15-2010, 12:19 PM
  3. امسيات ادبية للاديبة وفاء عبدالرزاق في مصر
    بواسطة يسري راغب شراب في المنتدى فرسان الأدبي العام
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 08-10-2010, 08:53 PM
  4. قراءة في مجموعة وفاء عبدالرزاق الجديده / نقط
    بواسطة يسري راغب شراب في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 03-01-2010, 08:06 PM
  5. نرحب بالاديبة/وفاء عبدالرزاق
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الترحيب
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 10-07-2009, 07:17 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •