المفكران : "حاج حمد" ود.الشحرور:
"الداروينية" حين تتحزم بالقرآن (1 – 7 )
تفضلت عليّ الأستاذة هدى المعجل بمقالتها الموسومة بـ"بعث في الأميين رسولا " فأعادتني إلى الماضي والحاضر معا!
الماضي عندما كتبت الأستاذة نبيلة محجوب عن الدكتور المهندس محمد الشحرور ،وتفسيره للقرآن،وعلقت بما معناه أنه كلما جاء أحد بفهم جديد للقرآن يتم الهجوم عليه .. إلخ.
وقد بعثت لها بدراسة تفصيلية قام بها الدكتور المنجد .. حول الكتاب وتقع في أكثر من ثمانين صفحة .. وفيها بعض أخطاء فادحة،وقع الدكتور المهندس – والذي يكتب خارج تخصصه – فيها لعدم قدرته على التفريق بين مادتين في القاموس!!
وسنعود إلى ذلك بالتفصيل إن شاء الله. المهم أنني بعثت بتلك الدراسة للأستاذة نبيلة.
أما الحاضر الذي أعادتني له الأستاذة "هدى"فهو قراءتي لكتاب الأستاذ المفكر محمد أبو القاسم حاج حمد،والموسوم بـ"جدلية الغيب والإنسان والطبيعة : العالمية الإسلامية".
قبل عدة أشهر نصحني أحد إخواننا – أبو هاشم – بقراءة الكتاب،فلم أعثر عليه هنا .. ثم بحث لي أشرف عنه في "الشابكة"فوجد عدة نسخ واحدة نشرتها دار الساقي سنة 2012 وتقع في 792 صفحة،وأخرى نشرتها دار ابن حزم سنة 1996 وتقع في 1078 صفحة وعنوان الكتاب ( العالمية الثانية : جدلية الغيب ..) ونسخة ثالثة تقع في 662 صفيحة،وعنوانها ( جدلية الغيب .. : العالمية الثانية).
قبل أن أتحدث عن كتاب أبين ما دفعني للكتابة عنه .. فلقد لفت نظري أن أفكار المفكرين "حاج حمد"و"الشحرور"متناثرة في خطاب من أسميهم بـ"الداروينيين الجدد" وقد اطلعت على بعض الحوارات التي تدور بينهم .. بل عرضت الحوار على بعضهم فلم يرد .. فكتبت ( حوار هادئ مع الداروينيين) معظم تلك الحوارات تنضح بأفكار المفكرين المذكورين ..مثل حديث أحدهم عن إيمانه بالسنة ولو أنه لا يؤمن بها،لما صلى الظهر أربعا .. إلخ. وهذا تقريبا نص كلام "حاج حمد"إضافة إلى الحديث عن الأخذ من القرآن مباشرة .. ورد بعض الأحاديث الشريفة بزعم أنها تناقض القرآن الكريم،حسب فهم المفكر طبعا .. بل وصل الأمر بأحد شباب الداروينيين أن قال – عن تلك النظريات التي يضرب بعضها بعضا – : هذه نظريات علمية .. حتى لو انها خطأ لا زم نؤمن بها!!
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن .. ما الذي جعل ألئك الشباب – ومن تخطى تلك المرحلة – ينجذبون كل هذا الانجذاب إلى تلك النظريات الغربية ،والتي كما قلنا يضرب بعضها بعضا؟
وكان السؤال نفسه – تقريبا – قدر خطر في بالي وأنا أستمع إلى شهادات بعض الموريتانيين حول مرحلة ما بعد الاستقلال،وانتشار البعثية والناصرية واليسارية .. إلخ. كيف وجدت ذلك الرواج في مجتمع مسلم فيه قدر كبير من الاعتماد على "المحضرة"أو تعلم القرآن الكريم؟! ثم رأيت الأستاذ أحمد منصور طرح السؤال نفسه على ضيفه في برنامج "شاهد على العصر" - الصادق المهدي - عن سبب انتشار الشيوعية في المجتمع السوداني المسلم،الصوفي؟
أعتقد أن الموضوع في حاجة إلى دراسة جادة ،وإن كانت موجودة فلم أطلع عليها،كما أعتقد أن نظم تلك الأفكار الفلسفية في إطار جامع .. لا مع .. قد يكون خلف ذلك الانبهار – إضافة إلى مبدأ الجدة أو الحداثة – بينما يتناثر فكرنا في نصوص متفرقة .. مثل قول الحبيب صلى الله عليه وسلم : " والله ما آمن .. والله ما آمن .. والله ما آمن .. من بات شبعان وجاره جائع"أو كما قال عليه الصلاة والسلام .. وهذا أصل في العدالة الاجتماعية .. ولكنه ضمن نصوص متناثرة لم ينظمها أحد في سلك واحد .. ويدعو إلى تطبيقها .
هذا الجانب الفكري أو الفلسفي إن صح التعبير .. أما الجانب الآخر .. فهو متعلق بنقطة أشرتُ لها عدة مرات .. وملخصها أن هذا التغيير الذي يحصل في الأذهان بسبب الاحتكاك بالحضارة الغالبة،والتمدرس في مدارسها المفتوحة أي "التلفاز والسينما"وما شابههما.
حتى أن أحدهم كتب – عند حدوث أول حالة تحرش جماعي : نفق النهضة – أن السبب هو الكبت،وعدم قدرة الشاب والشابة على اللقاء العلني في مكان عام.
وقد أشار معظم المنشقين – إن صح التعبير – عن التيار اللبرالي أن القضية الأساسية لديهم كانت هي"النساء"وما في حكمهم .. حتى ذكر – كاتبان - أسماهما أحد الساخرين "هيئة كبار السكارى" أن الخمر لم يحرم في القرآن الكريم.
من هنا أقول .. ودون تعميم .. أن القضايا التي تثار حول الإلحاد ليست حقيقية .. الأقرب أن نُذكر بقول أحد الغربيين :"إذا لم يكن الله موجودا .. فكل شيء مباح" .. هؤلاء – دون تعميم – أرادوا أن يكون كل شيء مباحا .. والله موجود أيضا .. ومن هنا يأتي هذا الاحتفال بالمفكرين الذين ينطلقون من القرآن .. ويُنحون السنة .. ويتبنون الفلسفات المادية .. سوءا كانت إلحادية أو غير إلحادية.. والله أعلم.
أعقود إلى كتاب المفكر أبو القاسم محمد حاج حمد وقد قرأت الكتاب – النسخة ذات 662 صفية - ثم مررت عليه أو على ملاحظاتي مرتين .. وهو كتاب طويل .. مليء بالتكرار .. والعجيب أن مؤلفه أشار في المقدمة إلى أن الطبعة الأولى من كتابه صدرت سنة 1399هـ = 1979 في 302 صفحة فقط!!
إضافة إلى التكرار فإن بعض هوامشه طويلة جدا ... فقد كتب مثلا :
(كما أوضح بعضا من جوانبها الشيخ الأكبر"محي الدين بن عربي"ذو الذهنية التحليلية الفائقة القدرات،"2"){ص 173 (جدلية الغيب والإنسان : العالمية الثانية / محمد أبو القاسم حاج حمد / بيروت / دار الهدى / الطبعة الأولى 1425هـ = 2004م) }. وحين ذهبت إلى الهامش المشار إليه وجدته قد كتب : ( 2 – فلسفة ابن عربي نقيض وحدة الوجود) و تمدد ذلك الهامش من الصفحة 195 حتى منتصف الصفحة 203}!!
كما كتب أيضا :
( وقد أتيت بنصف الكتاب في المقدمة){ ص 316 ( جدلية .. )}
قبل أن نقف وقفات طويلات مع هذا الكتاب الطويل،ننبه إلى أوجه الشبه بين أفكار المفكرين "حاج حمد" – كتابه هو الأقدم – و"الشحرور"فبالإضافة إلى طول الكتابين .. والهجوم على "السلفيين" يعتمد "حاج حمد"على نظرية "داروين"في التطور .. بينما يخفي "الشحرور"ذلك!!
نعود إلى مقالة أختنا الأستاذة"هدى" لننقل عنها بعضا من كلام المفكر "الشحرور" ،استهلت أختنا مقالتها بهذه الأحرف :
(قال عز وجل في سورة الجمعة "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين"
ورد في كتاب"الكتاب والقرآن"للمفكر الإسلامي (محمد الشحرور) أن (لفظة الأمي)التي وردت في الكتاب ستة مرت (..) أطلقها اليهود والنصارى على الناس الذين لا يدينون بدينهم،أي ليسوا يهودا ولا نصارى(وجاءت من كلمة غوييم العبرية"الأمم"ومن هنا جاء لفظ الأمي التي تعني 1 – غير اليهودي والنصراني 2 – الجاهل بكتب اليهود والنصارى. أما الرسول فكان من أول حياته إلى وفاته أميا بالخط لا يقرأ ولا يكتب. وورد ذلك في"العنكبوت" 48 – 49"حيث اتضحت أمية النبي في شيئين : 1- أن النبي لم يتكلم في حياته قبل البعثة عن أي موضوع من مواضيع القرآن،وإن عرف بالصدق،والأمانة،والوفاء بالكيل والميزان 2- كان أميا بالخط وقد استمرت إلى أن توفي . وقد جاءه القرآن بصيغة صوتية غير مخطوطة" ص 139 – 140 – 141- 142 بتصرف ){ أ.هدى المعجل،مقالة "بعث في الأميين" جريدة الجزيرة عدد يوم الأربعاء 29 يوليو 2015 }.
هذا ما كتبه المفكر"الشحرور"فماذا كتب المفكر "حاج حمد"؟ كتب يقول :
(مفهوم (الأميين)بمعنى(غير الكتابيين) وليس ( غير الكاتبين) مفهوم أساسي وتأسيسي لكثير من طروحات هذا الكتاب ){ص 126 ( جدلية .. )}
يبدو كلام المفكر"حاج حمد"أقرب إلى روح الآية من كلام المفكر"الشحرور" فالآية الكريمة تقول :
(هو الذي بعث في الأميين) أي الخالق سبحانه وتعالى،فهو الذي وصف أمة محمد صلى الله عليه وسلم بـ"الأميين". ويضيف المفكر "حاج حمد" :
(وقد ذهب إلى مثل هذا التفسير بعض علماء الإسلام أمثال قتادة وابن زيد،فقد روى عنهم الطبري في تفسيره ما يشبه هذا الذي قررناه هنا من أن العرب أمة أمية،أي أنهم ليس لهم كتاب سماوي يقرأونه ويدينون به ( ..) تمييز الشهرستاني لمعنى الأميين كمقابل لأهل الكتاب،أي اليهود والنصاري ){ص 132 - 133( جدلية ...)}
وبهذه الإشارة التي تشير إلى أن بعض السلف سبقوا إلى ما يطرحه المفكر"حاج حمد"على أقل تقدير ينتفي عن طرح "الجدة".
وقد قال مفكرنا"حاج حمد" عن نفسه :
(حزمت نفسي بالقرآن،محاولا الوصول إلى (مجمع البحرين) سابحا من الزوايا المحددة في الرؤية الوضعية للأمور،إلى نقطة التلاشي الغيبية ..){ص 109 ( جدلية ..)}
ما كان لصاحب هذا القول أن يقفز فوق قول الحق سبحانه وتعالى عن اليهود : ( ومنهم أميون) : البقرة 78،في إطار أن "الأميين" غير الكتابيين .. واليهود أهل الكتاب.
والله سبحانه هو الذي قال : "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي" الأعراف 157 ,وقال – جل من قائل – في نفس السورة : "فئامنوا بالله ورسوله النبي الأمي" : الأعراف 158.
أشرت من قبل إلى أن من أوجه التشابه بين المفكرين .. الاتكاء على"الداروينية" .. والفرق بين المفكرين أن"حاج حمد"لا يخفي ذلك .. بل يقول :
( لم يكن بحثنا انتصارا للتطورية الداروينية التي يأتي القرآن بما هو أعمق منها تفصيلا في مسالة الخلق والنشأة وتصوير الكائنات ){ص 80 ( جدلية ..)}
يشير المفكران إلى أن "البشر" أقرب إلى "البهائم" – أو هم بهائم – ثم نفخ الله سبحانه وتعالى الروح في أبينا آدم – عليه وعلى نبينا السلام – يقول "حاج حمد" :
(قد أدى نفخ الروح الإلهي في آدم إلى ضرورة تميزه العقلي والسلوكي عن البهيمية البشرية لألئك الذين احتجت الملائكة على سلوكهم .. (..) وقتها لم يكن آدم قد خلق بعد،فوجوده لاحقا كان بغيب يعلم الله ميقاته،فلما انكشف الغيب عن هذا الميقات "ولد"آدم من أبوين بشريين حيث نفخ الله فيه الروح وعلمه الأسماء ){ص 84 – 85 ( جدلية ..)}.
قبل نقل كلام المفكر الآخر .. كيف تجاوز المفكر"حاج حمد" قول الحق سبحانه وتعالى :
( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفئن مت فهم الخالدون) الأنبياء 34.
ويحلل لنا كيف خاطب الله سبحانه وتعالى خير خلقه بـ"بشر"ولم يقل .. في غير القرآن : وما جعلنا لآدمي ؟!!
أما المفكر"الشحرور" فيقول عنه الأستاذ (المنجد) : (ويرى الباحث الكريم أن هناك جنسا بشريا وجنسا إنسانيا، وآدم هو أبو الجنس الإنساني لا البشري، والروح هي التي حولت البشر إلى إنسان، أي نقلته من المملكة الحيوانية إلى كائن عاقل واع، فقبل آدم (( كان ثمة صنف من المملكة الحيوانية يدعى البشر، ثم اصطفى الله آدم وزوجته من ذلك الصنف {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ..} {آل عمران33} لقد نفخ الله الروح في البشر فتحول إلى إنسان وتطور وتقدم، ولم ينفخ الروح في القرود فبقيت كما هي )).
وهنا لا بد أن يتساءل القارئ عن الكيفية التي توصل بها السيد المؤلف إلى هذه الأفكار المهمة، وعن الأدلة والبراهين التي اعتمدها، دون أن يشير إلى فرضية داروين ومن بعده في أصل الأنواع، وما دام السيد الكاتب يقرأ ذلك من خلال نصوص القرآن.
لقد استند المؤلف في رأيه حول الفصل بين الجنس البشري والجنس الإنساني إلى دليل ما بعده دليل، هو أن كلية الطب تسمى كلية الطب البشري لا الإنساني، لأنها تدرس الإنسان بصفته كائنا حيا مشابها لبقية المخلوقات، وبالمقابل هناك علوم تسمى العلوم الإنسانية لا البشرية،لأن الإنسان هو الذي أوجدها، كالقانون والسياسة والآداب والفلسفة ... لاشك أن هذا الكلام لا يمثل براهين علمية، ولا أدلة عقلية، ولا علاقة له أصلا بأي منهج علمي، وهو من ثم لا يحمل أي احترام لعقل القارئ وفكره (..) أما الآية التي أوردها المؤلف وكأنها شاهد على أن الله اصطفى آدم من المملكة الحيوانية، وهي قوله عز وجل : {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ } فقد بترها ولم يكملها وهي كاملة : {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ }{آل عمران33} وهي واضحة الدلالة فهل كان نوح أيضا وآل إبراهيم وآل عمران في المملكة الحيوانية المسماة بالبشر، ثم اصطفاهم الله من ذلك الصنف؟! )){ ص 174 - 175 مجلة (عالم الفكر) الكويتية( المجلد الثاني والعشرون – العدد الرابع – إبريل – مايو – يونيو 1993م }.
بطبيعة الحال لم يكن المفكر"حاج حمد"في حاجة لى بتر آية من القرآن!
وعلى كل حال .. يثير كثير من مثقفينا تساؤلات حول مهاجمة"المجتهدين الجدد" .. وأن ذلك يدل على مصادر الاجتهاد .. والذي حصل فعلا هو أن كثيرا من المثقفين يصادرون حق من يرد على تلك الاجتهادات .. فليس لدينا في الإسلام "رجال دين" .. مفكر "اجتهد" – وإن في غير تخصصه – فرد عليه آخرون .. أليس هذا من أبسط حقوقهم؟!
بقي أن نتساءل بدورنا : أين وصل بغير المختصين اجتهادهم في الدين؟
نعود إلى المفكر"الشحرور"والذي لم يقع كتابه بين يديّ ... ولكنني قرأت نقدا تفصيلا للكتاب ..
هذه أسطر سبق أن كتبتها تحت عنوان"اجتهاد آخر زمن : كتاب الشحرور مثالا"
من الواضح جدا أن الاجتهاد، أو تفسير النصوص الشرعية، أصبح مشاعا، يؤلف فيه من شاء، حتى وإن كان لا يفقه شيئا في علوم الشرع! ولا أدل على ذلك من كتاب الدكتور المهندس محمد الشحرور ( الكتاب والقرآن قراءة معاصرة)، وبين يدي دراسة مفصلة كتبها الأستاذ ماهر المنجد، وقد نشرتها مجلة (عالم الفكر) الكويتية( المجلد الثاني والعشرون – العدد الرابع – إبريل – مايو – يونيو 1993م( الصفحات من 137 حتى 225) وقد أشار إلى أن صفحات الكتاب (أكثر من ثمانمائة صفحة، ورغم ضخامته فقد طُبع أربع مرات في أقل من عام ونصف، وهو رقم مذهل بالنسبة لهذه المدة القصيرة) {خصوصا في أمة،يقال أنها لا تقرأ!!} ثم قال في الهامش:
( كانت الطبعة الأولى في أيلول 1990 ثم كانت الثانية في العام نفسه ( 1990) في كانون الأول، أما الطبعة الرابعة فكانت في الشهر الأول من عام 1992 وهي طبعتان عادية وشعبية وهذا يعني أن بين الطبعة الأولى والطبعة الرابعة (15) شهرا فقط أي سنة وثلاثة أشهر). الدراسة طويلة جدا ومفصلة.
وفبعد قضية"البشر"ينتقل الأستاذ (المنجد) إلى قضية أخرى : ( ... فمسألة التناقض المزعوم بين الحنفية المتذبذبة والاستقامة الثابتة، والتي مثّلها بالتوابع المستمرة .. استغلها في فرض حالات للحدود، لعل من أهمها حالتي الحد الأعلى والحد الأدنى في التشريع والفقه، ومن هنا نجد أن السيد المؤلف يفتي بأن لباس المرأة المسلمة يتراوح بين حدين، حد أعلى وحد أدنى، أما الحد الأدنى فهو اللباس الداخلي للمرأة فقط واعتمادا على ذلك يصبح باستطاعة المرأة المسلمة أن تخرج إلى الطريق بلباسها الداخلي فقط دون أن يكون في ذلك تجاوز لحد من حدود الله .. بيد أن القصة لا تنتهي عند هذا الحد، وفتاوى السيد المؤلف وتشريعاته تتقصى الأمور حتى تصل إلى فرج المرأة وإليتيها وثدييها .. فيسميها جيوبا، ويسمح بإظهارها أمام السبعة المذكورين في سورة النور، أي الأخ والأب وابن الأخت وابن الأخ ووالد الزوج وابنه .. وحسب رأيه يجوز للمرأة المؤمنة، أن تظهر عارية تماما أمام هؤلاء المذكورين ... ويصرح قائلا أي إذا شاهد والد ابنته وهي عارية فلا يقول لها هذا حرام، ولكن يقول لها هذا عيب .. ) هكذا على رأي السيد المؤلف أن يتحول بيت كل أسرة إلى نادي للعراة... ولإثبات ما يقول يستشهد بشرحه لآية (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ){ النور 31 } .. إذ رأى أن الله تعالى في هذه الآية قد أمر بتغطية الجيوب فقط، أي تغطية الفرج والإليتين والإبطين والثديين ... فهل يعقل أن يأمر الله بتغطية ما هو مغطى أصلا ؟ أتراه كان يلهو مع عباده؟{ تعالى الله علوا كبيرا ... ونحن نتفهم غضبة الأستاذ ( المنجد) عفا الله عنا وعنه ولكن كان ينبغي له التأدب مع الخالق سبحانه وتعالى} أم أن نساء العرب كن يمشين في الطرقات مكشوفات الفروج والأدبار حتى نزل الأمر الإلهي بتغطيتها؟ .. إن الجيب لغة هو فتحة الثوب وطوقه، وهذا معنى معروف جدا وشائع في الاستخدام عند العرب، ويقال جيب القميص أي طوقه، وقد يراد بالجيب الصدر، لأن الصدور تلي الجيوب وتلامسها، ومن هنا قيل : فلان ناصع الجيب، ويعني بذلك قلبه وصدره.
ومكمن الخلل أن السيد المؤلف لا يعرف كيف يقرأ في المعجم، ولا كيف يستخرج كلمة منه، نقول هذا الكلام لأن (الجيب) من مادة (جيب) أي مما عينه ياء، ولكن المؤلف لفرط جهله بأمور اللغة فتح المعجم على مادة (جوب) ومن هنا جعل الجيب هو الفرج .. وقد نص المعجم صراحة للاحتراز من هذا الوهم في كلا المادتين، فجاء في المعجم تعليقا على (جيب القميص)، فليس من لفظ الجيب لأنه من الواو، والجيب من الياء. ثم كرر ذلك في مادة (جيب) فقال : "فليس (جيب) من هذا الباب، لأن عين (جبت) إنما هو من جاب يجوب، والجيب عينه ياء، ولقولهم جيوب" ... ومعروف أيضا أن زينة المرأة في ذلك العهد كانت على قسمين زينة ظاهرة وزينة مخفية،(..) بيد أن السيد المؤلف يفهم الزينة على نحو آخر، فيرى أن الزينة نوعان، زينة الأشياء وزينة المواقع،فالأولى هي الأشياء المضافة إلى الشيء أو المكان، والثانية هي الزينة المكانية، ويشرح الزينة الشيئية أنها الحلي والمكياج... والزينة المكانية أنها جسد المرأة كله، وهذه الزينة الجسدية منها ما هو ظاهر بالخلق كالبطن والظهر والرأس والأطراف، وهذا يجوز إظهاره حسب رأيه لقوله تعالى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) { النور 31 } ، ومنها ما هو خفي كالجيوب التي شرحنا فهم المؤلف الخاص لها. فإذا سألنا المؤلف كيف انقسمت الزينة إلى شيئية ومكانية؟ وما الأدلة المنطقية على ذلك؟ لا نجد جوابا. فالزينة لغة هي ما يُتزين به من أشياء مختلفة، فهلا يأتينا بدليل عقلي أو فلسفي أو قرآني أو لغوي ... على زعمه بانقسام الزينة إلى شيئية ومكانية؟ وإلا فما معنى المنهج العلمي والبحث الموضوعي؟ أفلا يعني – على الأقل – الاستناد في النتائج إلى مقدمات مثبتة وملزمة منطقيا؟ ولكن السيد المؤلف يخترع المقدمات من خياله الخصيب دون أن تكون مثبتة أو مسلما بها، ثم يبني عليها{ هذا بالضبط ما كان يفعله الدكتور طه حسين، وقد جاء في كتاب ( المؤامرة على الإسلام ..) سالف الذكر عن الدكتور طه ( .. الخطأ الذي اعتاد أن يرتكبه المؤلف في أبحاثه، حيث يبدأ بافتراض يتخيله ثم يرتب عليه قواعد كأنها حقائق ثابتة، كما فعل في أمر الاختلاف بين لغة حمير ولغة عدنان التي بنى عليها نفي وجود إبراهيم وإسماعيل وهجرتهما إلى مكة وبناء الكعبة، التي بدأ فيها بإظهار الشك ثم انتهى باليقين وكل ما استند عليه من أدلة هو ( فليس يبعد أن يكون – فما الذي يمنع – ونحن نعتقد – وإذن فليس ما يمنع قريشا أن تقبل هذه الأسطورة وإذن نستطيع أن نقول ) ص 25 من الكتاب المذكور.} .. فيخرج بنتائج مبنية على افتراضات فاسدة.
وبتعبير أدق نقول إن عند المؤلف أفكارا محددة وجاهزة يريد أن يطرحها، فيخترع لها المقدمات زاعما أنها هي التي أوصلته إلى هذه الأفكار، نحن لا نقول هذا الكلام إلا بعد أن تمثلنا كتابه جيدا،وبعد أن وقفنا على كثير من القضايا التي توضح طريقة المؤلف الحقيقية في فرض أفكاره .. فهل هذا هو المنهج العلمي الذي كان يقصده بقوله : " وضعت منهجا علميا في فهم الكتاب" ؟ وهل هذا هو البحث الموضوعي الذي قصده بقوله : " كان رائدنا هو البحث عن الحقيقة بشكل موضوعي"؟ ....)){ 204 – 207 من المجلة}.
نكتفي بدراسة الأستاذ "المنجد"في الحديث عن المفكر"الشحرور"والذي لم نقرا كتابه – كما سبقت الإشارة - لنوسع الحديث أو الحوار مع كتاب المفكر"حاج حمد"
إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني