*رشيد بوجدرة ولغة الفعل والفاعل والمفعول/ د.جيلالي بوبكر
[IMG]file:///C:/Users/Omferas/AppData/Local/Temp/msohtmlclip1/01/clip_image001.jpg[/IMG]نشّط الأديب والروائي الجزائري ندوة فكرية أدبية حول تجربة الكتابة الروائية في الجزائر، بدعوة من جامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف، صبيحة يوم الاثنين 13 فيفري 2012، شهد المدرج الفسيح بكلية الآداب واللّغات الأجنبية بالقطب الجامعي بأولاد فارس حضورا كثيفا ومميّزا مما يوحي بجلاء رغبة الطلبة والأساتذة الكبيرة في مجالسة أهل العلم والفكر والأدب، وسقطت المقولة التي تروج لفكرة تقزيم العلم والعلماء في المؤسسات العلمية والتعليمية ببلادنا.
افتتح السيد مدير جامعة الشلف الندوة، رحّب بالضيف الكريم على تلبية الدعوة، الكاتب رشيد بوجدرة، ورحّب بالحاضرين، وأثنى على القائمين على الكلية المنظمة للندوة، كما أشاد بالمكانة التي يحتلها الكاتب في الوسط الأدبي والروائي ليس على المستوى المحلي الجزائري أو الأوربي فحسب بل على المستوى العالمي، خاصة وأنّ كتاباته جاءت باللّغتين الفرنسية والعربية، وعرفت رواجا كبيرا في الجزائر وفي مختلف أنحاء العالم.
أكّد الروائي الجزائري في بداية مداخلته على أنّ الحديث عن الكتابة الأدبية والروائية في الجزائر مرتبط أساسا بالأوضاع والظروف التي مرّت بها الجزائر وعاشها الشعب الجزائري، السياسية والاجتماعية والثقافية، خاصة الظروف التي صنعها الاستعمار الفرنسي، وهي ظروف رهيبة مليئة بالظلم والقهر والغبن، ومتصل بالعادات المشينة والعلاقات الفاسدة، والتي كان لها أثرها الكبير في تكوين شخصية الكاتب طفلا وشابا وأديبا روائيا.
روى الكاتب قصة حياته طفلا وشابا ورجلا ودخوله عالم القراءة والكتابة، وسرد بعض أحداثها بشيء من التفصيل المصحوب بالآهات والتنهدات الدالة على حفر تلك الأحداث في عمق نفسية الراوي ومازال أثرها حتى الآن، الأحداث التي أثّرت فيه ودفعته إلى الكتابة الروائية، التي وجد فيها كغيره من الكتاب متنفسا لتفجير المكبوتات البعيدة والقريبة وللهروب من الواقع المؤلم بمشكلاته وهمومه ولمواجهة التحدّيات اليومية نفسيا واجتماعيا، من هنا تُشكّل التجربة الحياتية الفردية الأرض التي ينبت فيها العمل الإبداعي في الثقافة والفن والأدب والرواية، وضمن تجربته الخاصة أكّد على تأثره الكبير بالكاتب والأديب الجزائري محمد ديب وإعجابه الأكبر بكاتب ياسين الذي أصبح فيما بعد نموذجه المثالي في الكتابة الأدبية والروائية .
شدّدّ على أنّ العمل الروائي الإبداعي هو محض تجربة فردية يصنعها عدد من الظروف والأوضاع المتضافرة والمتشابكة بيولوجية ونفسية واجتماعية، والمعاناة التي عاشها هو وأسرته مع أب مزواج وإخوة غير أشقاء وزجات أب نال جميعهم حب ورضا الوالد، ونال بوجدرة الصغير الأخير من أبناء الزوجة الأولى هو وإخوته وأمه كل الكراهية والحقد من والد الغير عادل حسب بوجدرة الأديب.
الحياة المأسوية بكل أحداثها وأبعادها هي التي شكّلت شخصية بوجدرة عقليا ونفسيا واجتماعيا، شخصية غير مستقرة وناقمة على الكبار والصغار، وعلى قيّم المنظومة الاجتماعية السائدة التي تمنع العدل والمساواة وتبيح الاستبداد والقهر، وشكّلت الثورة الجزائرية منعطفا حاسما في حياة الكاتب، فازداد تمسكا بقضيته العادلة ودفاعا عنها من منظور وطني جزائري.
وقف ولازال يقف حسب تصريحاته إلى جانب الفقراء والمقهورين، حتى في طفولته كان يقف مع العمال ضد والده، فكان والده يضربه ويعنّفه، فنشأ ينزع إلى العدالة والمساواة في الأسرة والمجتمع، فكان هذا الحال أقرب إلى النزعة الاجتماعية منه إلى النزعة الفردية، وزاده تعليمه الاطلاع على الاتجاهات الفكرية والسياسية والاجتماعية، فوجد ضالته في الفلسفة الماركسية والنظرية الاشتراكية السبيل الوحيد من جهته الذي يضع حدّا لجشع الفردية في الإنسان ولاستبداد الرأسمالية، ومازال ماركسيا واشتراكيا ما دام عالم الفقراء أفسح وأوسع بكثير من عالم الأغنياء صناع العولمة المتوحشة المحكومة بالأمركة المتصهينة.
ما شدّ انتباهي في حديث الروائي إلى الطلبة هو نصحه لهم إذا أرادوا أن يكتبوا ويبدعوا ويخلّصوا الكتابة الأدبية والروائية من الأزمة عليهم أن يتجاوزوا لغة الفعل والفاعل والمفعول به، يتجاوزوا اللّغة التي كتب هو نفسه بها العديد من رواياته، اللّغة الوطنية الأولى والرسمية للمجتمع الذي ولد ونشأ فيه، اللّغة التي استهدفها الاستعمار الفرنسي طيلة فترة احتلاله للجزائر ساعيا إلى استبدالها باللّغة الفرنسية لأنّها أحد المقوّمات الأساسية للشخصية الجزائرية، والقضاء عليها إذابة للهوية الجزائرية في الآخر وتغريبها.
فبلوغ الإبداع الأدبي والفني بوجه عام حسب رشيد بوجدرة ليس بلغة الفعل والفاعل والمفعول به، وهي اللّغة الأكثر انتشارا واستعمالا رغم ضعف مستعمليها في الجزائر من أي لغة أخرى، ويدرك بوجدرة جيدا أنّ المستوى اللّغوي العربي لطلبتنا عموما وقاموسهم اللّغوي والعلمي في اللّغة العربية أضعف مما نتصور، وتعاطيهم مقروئية وكتابة مع العربية ضعيف بضعف القاموس اللّغوي العربي وبضعف الاهتمام بعلوم اللّغة العربية على الرغم من كثرة الإمكانات المتاحة لتعلّمها، وضعفهم في اللّغات الأجنبية أكبر وأخطر، الأمر الذي يعيق الإنتاج الإبداعي الكتابي في سائر الفنون الأدبية ومنها الرواية.
ولم يقدم رشيد بوجدرة البديل اللّغوي الفعلي على مستوى النظر والعمل بالنسبة للممارسة الكتابية في الفنون الأدبية بعد موقفه السلبي من اللّغة التي كُتب بها ديوان العرب، ونزل بها الوحي الإسلامي تحفظه ويحفظها، ويكفي اللّسان العربي شرف ثناء الله عليه في القرآن وتعبّد المسلمين به في مشارق الأرض ومغاربها.
قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)) [سورة الشعراء]. وقال تعالى: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)) [ يوسف] .وقال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3) [الزخرف]. وقال تعالىحم (1)تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ (2)كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)) [سورة فصلت]. (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)) [سورة الزمر].
وكانت اللّغة العربية لسان حال الحضارة التي شهدها المسلمون أيام عزّهم الديني والحضاري والثقافي، وشكّلت همزة وصل بين ثقافات وحضارات وديانات شتىّ، كما حفظت التراث العربي والإسلامي من الاندثار وتعمل على نقله عبر الأجيال، ولم تبخل في حمل الإنتاج الفكري والفلسفي الذي بلغه فلاسفة الإسلام نتيجة تأثرهم بفلسفات وثقافات أخرى، ولا في التعبير عمّا توصل إليه العلماء المجددون المبدعون في العلوم النقلية مثل علوم التفسير وعلوم الحديث وعلم الفقه وعلم السيرة، أو في العلوم العقلية مثل علم أصول الدين وعلم أصول الفقه وغيره، أو في العلوم التجريبية والإنسانية مثل دراسات ابن الهيثم في الفيزياء ودراسات ابن خلدون الإنسانية والاجتماعية، وشهدت اللّغة العربية تطورا كبيرا من حيث التفرع العلمي والغنى الاشتقاقي والثراء اللّفظي والتنوع الأسلوبي، فصارت عالما رمزيا متميّزا وكائنا حيّا بلغ من النمو والتطور الكثير.
إذا كانت اللّغة العربية الغنية بقواعدها وعلومها قد سجّلت حضورها القويّ عبر التاريخ، خاصة التاريخ العربي والإسلامي وأثّرت في الشعوب الأخرى لسانا وفكرا وثقافة، فمازالت حتى الآن تواكب التقدم الحضاري والثقافي الجاري في العالم، ومازالت تسجّل حضورها القويّ في الثقافة العربية والإسلامية الحديثة والمعاصرة في اتصالها بالثقافة الغربية الحديثة في جميع أقطار العالم العربي والإسلامي، في المجال العلمي والأدبي والفني على السواء بالقياس إلى الأعمال الإبداعية المنجزة خاصة في فضاء الكتابة الروائية وروايات بوجدرة واحدة من هذه الإنجازات.
حضور اللّسان العربي في الماضي وفي الحاضر يؤكد بوضوح أنّ اللّسان العربي قادر على الذهاب بعيدا في أفق الإبداع والحضارة، لكنّ العائق في أزمة الإبداع المركبة والمعقدة التي يعاني منها العالم العربي وتعاني منها ثقافته وحياته عامة، كما أنّ التاريخ يؤكد والواقع يثبت أنّ الحضارة تنشأ في ظروف شتىّ متضافرة ولا تُعزى إلى قوّة اللّغة، ولا تستأثر لغة بعينها بالحضارة على الإطلاق، لكن تقوى الحضارة وتنتشر بقوة اللّغة ومدى انتشارها في آفاق التاريخ وفي الزمان والمكان، فالحضارات العديدة التي شهدها التاريخ، جاءت بلغات مختلفة، كما يعمل التواصل اللّغوي عل تحقيق التواصل الثقافي والحضاري، فالتفاعل الحضاري والثقافي والديني وانتقال ذلك يتأتى من التفاعل اللّغوي، والعجز عن ذلك مرتبط بواقع مركب اللّغة جزء منه.
وفي ردّ على سؤال طرحه أحد الحضور حول إمكانية اللّجوء إلى اللّغة العامية الدارجة بدل لغة الفعل والفاعل والمفعول به وقد نصح بوجدرة وبإلحاح على تجاوزها تماما في الكتابة للوصول إلى الأعمال الإبداعية المميّزة خاصة الكتابة الروائية، ولم يقدّم البديل اللّغوي على مستوى النظر والعمل معا للعربية التي كتب بها العديد من أعماله هو ويخاطب بها جمهوره الذي يُصرح بأنّه عريض وواسع جدّا ، أجاب بأنّه لا يرى في اللّغة العامية اللّسان الذي تختلط فيه الألفاظ والعبارات من لغات ولهجات شتّى وسيلة للكتابة الروائية، مع أنّ العربية الدارجة في الجزائر قدّمت ومازالت تُقدّم ديوانا ثقافيا وأدبيا وفنيا عاميا فيه الأصالة وفيه الإبداع، ديوان يعبر عن أعماق الواقع الجزائري وعن هويته وعن ماضيه وحاضره وعن آماله وتطلعاته بكثير من العفوية والصدق وبأسلوب مباشر ليس فيه تكلّف أو تصنّع، وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز التهاون مع اللّسان العامي للمجتمع أي مجتمع، ولا يجوز إنكار الدور الذي تلعبه ثقافة عامة الناس في حياتهم اليومية المباشرة وارتباطها بهويتهم وبمستقبلهم.
إنّ أزمة الإبداع في الكتابة عامة والكتابة الروائية خاصة مرتبطة فعلا وأصلا بأزمة حضارة وبمشكلة نهضة وبمعضلة تخلّف، وبواقع متردّي ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، الواقع الجزائري المتردي حضاريا وثقافيا واجتماعيا هو جزء من واقع عالم فسيح تعاني شعوبه جميعا قمع الفكرة وقهر الإرادة وإسكات الكلمة ونهب الثروة وانفراد السلطة وفساد الحياة الاجتماعية وقطع الطريق أمام كل محاولة للتغيير والتجديد والإبداع، فكيف لهذه الشعوب أن تضطلع بواجباتها وتنهض بالإبداع، وتقدم شعوب وأمم العصر الراهن في الغرب الأوروبي وفي أمريكا الشمالية مدين للوضع السياسي والاجتماعي والثقافي المنفرد بهامش معتبر من حرية الفكر والرأي والتعبير، في سبيل منافسة تسمح بإطلاق المواهب والمبادرات في خدمة المجتمع والفرد والإنسان، هذا الوضع شبه ميئوس منه في مجتمعاتنا العربية التي يتبارى أفرادها على جمع الثروة والاستئثار بالحكم والفساد في الأرض، وإذا كانت الثقافة لديها وضيعة لاشتغال بغيرها فإنّ الفن أحد المظاهر الثقافية تمثل الرواية طيفا منه، وما ينطلي على الثقافة والفن وغيره ينطلي على الكتابة الروائية
صحيح أنّ أزمة الإبداع في العالم العربي الإسلامي المعاصر مرتبطة بظروف هذا العالم في الماضي والحاضر والمستقبل، هذه الظروف التي يمكن تحليلها بإسهاب وبدقة وبتفصيل، وهي ظروف أزمة عامة ومركبة ومعقدة، وليست ظروف إبداع وتجديد في اللّغة فقط. والحياة الفكرية والأفنية والأدبية جزء من الحياة العامة والإبداع فيها مرتبط بظروف الحياة ككل، فلا إبداع فكرياً أو علمياً إن لم تسقط موانعه وتقوم شروطه الفردية والاجتماعية رغم الطابع الفردي للإبداع. والبدء بإزالة موانع الإبداع هو في جوهره تأسيس لشروطه وعوامله،كما أنّ الانطلاق من تثبيت الشروط هو إزاحة للمعوقات، كما أنّ الوقاية من أزمة الإبداع تتطلب اتخاذ جملة من الإجراءات والتدابير على المستوى الفكري والسلوكي والنظري والتطبيقي تحافظ وتزكي باستمرار شروطه وعوامله مثل عامل الحرية، فالإبداع يبدأ عندما يقف الواقع أمام حرية الإنسان في العقل وفي التعبير، من خلال هذا التوتر تفسح الحرية مجالا لحركتها وتزيح موانعها، وينشأ الإبداع كتعبير عن هذا الصراع بين الحرية الذاتية والضرورة الاجتماعية، وتظهر في المواقف وفي السلوك قدر ظهورها في الفكر والتعبير، تكون بالفعل والقول، بالموقف والكلمة. فالكلمة موقف والسلوك فكر.
وبالحرية لا تتهيأ الظروف لموانع الإبداع ومعوقاته. والإبداع في صلته بالشروط أو بالموانع تختلف وضعيته من مجتمع إلى آخر ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى على الرغم من وجود عناصر مشتركة بين الحقب التاريخية وبين الشعوب والأمم وبين المفكرين والعلماء أي بين المبدعين، فإنّ أزمة الإبداع في المجتمع العربي والإسلامي المعاصر عميقة جداً وتزداد عمقاً من وقت إلى آخر إلى درجة اليأس والقنوط، والمشاريع الفكرية التجديدية فيها ما فيها من المثالب - حسب رأي البعض- الفكرية والأخلاقية والأدبية التي لم تسمح بوضع العربة على السكّة والحصان أمام العربة.
إنّ تعثر اللّغة العربية في مواكبة التطورات الراهنة ومواجهات التحدّيات المعاصرة خاصة على المستويين العلمي والتكنولوجي وكذلك على المستوى الثقافي والفني لا يعود إلى عجز ها عن ذلك بسبب أصولها أو بنيتها أو فقهها أو علومها المختلفة، بل بسبب عجز القائمين عليها ومالكيها، عجز كما لاحظنا من قبل ارتبط بأزمة عامة، مثلما ارتبطت الكثير من اللّغات بهذه الأزمة العامة لدى شعوب عديدة تآخت مع الشعوب العربية في التخلّف والانحطاط وتساوت، والقول بالعلاقة السببية بين غياب الإبداع الفني أو غيره ولغة العرب ظلم رأي أحادي الجانب أفقه ضيق لا يستند إلى مرجعية أو أساس، لا في الواقع ولا في المنطق ولا في التاريخ، فاللّغة الإنجليزية لم تكن شيئا في وقت مضى كانت فيه لغة العرب لسان الازدهار الحضاري والثقافي والفني والأدبي، وصار اللّسان الإنجليزي لسان الحضارة الحديثة والمعاصرة، فأصحاب هذا اللّسان خرجوا ولسانهم من العزلة إلى أفق العالمية فكرا وثقافة وحضارة ولغة، وعجز عرب الراهن عن فعل ذلك، بل عجزوا عن مسايرة الركب الحضاري الراهن الذي تجاوزهم مسافة مقدار سنة ضوئية بأكملها، وبالتالي لا تقوم شرعية المقارنة والندية بين الطرفين، إلاّ ضمن رؤى قاصرة أو مشبوهة ومأدلجة.
إنّ التفوق اللّغوي لدى أمة ما مشروط بتفوقها الحضاري وبتطور وعيها الثقافي والفكري في التاريخ وليس للتفرد اللّغوي دور في ذلك التفوق، فلغة العرب حملت الحضارة الإسلامية وقبل ذلك حملت ديوان العرب والوحي الإسلامي الذي نقلته عبر مختلف بقاع المعمورة، لم يتسن لغير المسلمين القيام بهذه المهمة من أصحاب اللّغات الأخرى لافتقارهم للوعي التاريخي ولأسباب النهوض الحضاري وشروطه التي كانت بحوزة المسلمين استمدوها من ديانتهم وقيّمها، وعجز تماما مسلمو الراهن عن بذل الوسع في استمدادها واستثمارها. أما تفوق اللّغة الإنجليزية وبعض اللغات الأوربية الأخرى في عصرنا مردّه إلى الدور الذي لعبه أصحاب هذه اللّغات في الاستئثار بالتقدم العلمي والتكنولوجي الذي تتميز به الحضارة الحديثة والمعصرة، فالقضية ليست قضية لغة بالدرجة الأولى بل هي قضية فكر نيّر ووعي كاف للدخول في معركة النهضة والشدّ في شروط انطلاق التاريخ لضمان الإقلاع الحضاري وبلوغ نقطة الوصول بأيّة لغة كانت، فمتى يتحقق ذلك حتى لا يدعو بوجدرة وأمثاله كثير إلى التخلّي عن لغة القرآن لإنجاح الكتاب الروائية.
*رشيد بوجدرة كاتب وروائي جزائري