قبل أن أبدأ الحديث في هذا الموضوع الهام لابدّ أن أسارع إلى القول أن الإسلام دين الله الحق الّذي رضيه للإنسانية وختم به النبوة والرسالة فقال: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ..) فالإسلام من حيث هو لا يطلق عليه مسمّى الثورة كما أشار إلى ذلك فريق من الباحثين . وإنما الإسلام من واقع كونه ميزناً توزن به الأحداث والوقائع الّتي تمر بها الأمة له موقف منها , والّذي نتطلّع إليه التعرّف على موقف الإسلام من الثورات التي نعيشها اليوم هنا وهناك في بقاع العالم الإسلامي , ولكن لابد من مقدّمات ضرورية تمهد للموقف الّذي نريد معرفته , وهذه المقدّمات ثلاثة :
الأولى : معنى الثورة : 1- لغة : قال صاحب القاموس المحيط في اللغة : وثارَ ثَوَّرُهم وثُوّارُهم وثَوْرُهم: أي ثارَ شَرُّهم. وكذلكَ ثَوِيْرُهم وثائرُهم: إذا كَثُرُوا وزادُوا وضَخُمَ أمْرُهم. والثَّوْرَةُ: العَدَدُ الكَثِيْرُ. وجاء في المعجم الوسيط في معنى الثورة قول مؤلّفيه : الثورة , تغيير أساسي في الأوضاع السياسية والاجتماعية يقوم به الشعب في دولة ما . 2- اصطلاحاً:انتفاضة شعب في دولة بكل أطيافه أو أكثرها ما بهدف إحداث تغيير جوهري في السياسة والاقتصاد والمنحى الاجتماعي بشكل عام . هذا هو المعنى الّذي استطعت استخلاصه من خلال تقليب العديد من البحوث والمراجع , وأراه وافياً ومعبّراً . الثانية :منحى الثورة, إمّا أن تنحى الثورات منحى إيجابياً فتبدأ من الشعب وتنتهي إلى الشعب محققة أهدافها التي قامت من أجلها وأهمها مساحة من الحرية يعيش الشعب تحت رواقها في إطار من الكرامة يحس بوجوده وقيمته الإنسانية , مع تطوّر في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والمعاشي بما يتناسب مع تزايد الحاجات وتطوّرات الحياتية ومستجداتها , هذا إلى جانب ما تقود إليه من قلب الواقع السياسي والتحول به نحو الأفضل حيث تتحقق العدالة الاجتماعية وينال الفرد ما له من حق في الثروة العامة ضمن التوزيع العادل لمقدّرات الأمة . وإمّا أن تنحو منحى سلبياً فتبدأمن النخبة ووقودها الشعب وتنهي إلى النخبة وهم الّذين يقطفون ثمارها,والشعب ينفض يديه من أية مكاسب إلابعض المكاسب الصغيرةالتي تضمن حالة من الهدوءبمثابة التخدير للشعب,ويبدؤون بالتهام مقدّرات الأمة بنهم عجيب ويخرج الشعب من الثورة خالي الوفاض رغم ما قدّم من الأرواح من أجل الحرية التي صودرت بعد الثورة أكثر مما قبلها . الثالثة : طبيعة الثورة وأسبابها :
أمّا عن طبيعة الثورة , فإنّا نجد أنفسنا أمام منحيين : الأول : هو الثورة السلمية وهذه اللون من الثورات لا يحمل فيه الشعب سلاحاً , بل يخرج إلى الساحات العامة والشوارع وسلاحه الكلمة لا غير يرفع مطالبه للحاكم سلميّاً , وهنا نجد الحاكم إما ملبياً مطالب شعبه وبالتالي تثمر الثورة ما يعود على الشعب بواقع أفضل مما كان قبلها وتتحسّن ظروف الحياة ويستمر السلم والأمان ويتم ذلك كله دون إراقة دماء . وإماً أن نجد أنفسنا أمام حاكم يواجه الثورة السلمية بآلة القمع والقتل فيغيض الأمان وتغرب شمس السلام وتدور رحى حرب حقيقية بين الحاكم شعبه تراق فيها الدماء فيسقط القتلى ربما بالآلاف . وتنتهي الثورة بسقوط نظام الحكم وهرب الحاكم أو اعتقاله أو قتله وقريب من هذا حصل في ليبيا . أو نقل السلطة والتنحي كما حدث في اليمن , أو هرب الحاكم كما حدث في تونس . أو تنحيه كما حدث في مصر . وهذا اللون من الثورة يرافقه سطو وسلب ونهب وتخريب للممتلكات العامة والخاصة واعتداء على الناس عرضاً ومالاً . وأما أسباب الثورة : فيمكن أن نذكر هنا سبعة أسباب :
1- غياب شمس العدل وانتشار الظلم في كل جوانب الحياة الاجتماعية .
2- ظلم الحاكم لشعبه .
3- مصادرة الحرية وإحكام القبضة الأمنية .
4- احتكار ثروة الأمة ومالها العام لدى الفئة الحاكمة .
5- غياب خصيصة الشورى ( الانتخابات النزيهة ) وتوريث الحكم واغتصاب السلطة .
6- القهر والكبت الّذي يكنّه الشعب في النفوس والّذي يبلغ مداه فتستعل نار الثورة .
7- الفقر وتدني المستوى المعيشي للشعب , وانتشار البطالة بشكل مخيف مما يدفع لتوسيع مساحة الجريمة .
موقف الإسلام من الثورة : إنّ موقف الإسلام من الثورات التي انتشرت هنا وهناك من عالمنا العربي الإسلامي نبنيه على أربعة مرتكزات , كالآتي : 1- غياب شمس العدل وانتشار الظلم . 2- أفول شمس الحرية وانتهاج سياسة كمّ الأفواه . 3- تدني الحالة المعيشية للمجتمع وانتشار البطالة فيه . 4- تحكم القلة المتنفذة بالثروة العامة للأمة وحرمانها من حقّها فيها . وبناء على ما سبق أن قلناه يتبيّن لنا موقف الإسلام من حيث أن الحاكم وهو اليوم رئيس الدولة أو الملك أو الأمير أو السلطان , والّذي بوأه الإسلام مسؤولية جسيمة تجعله قائماً مقام النبي صلى الله عليه وسلم في حراسة الدّين وسياسة الدنيا ,فعليه أن يتخذ من العدل الشامل لكل جوانب الحياة منهجاً لحكمه في الرعية بحيث لا يظلم أحد أيّاً كان ولا يضيع حق من الحقوق لأيّ من أبناء الأمة , فيأخذ الحق من الظالم ويعيده للمظلوم , ويشرف بنفسه على توزيع الثروات العامة بالعدل بحيث ينال كل فرد نصيبه منها , ويفتح فرص العمل للقضاء على البطالة ويفسح المجال أمام الناس للتمتع بحريتهم في المجالات كافة بما يخدم مصالح الأمة على الصعيد السياسي بالمشاركة في الحكم , وعلى الصعيد الاقتصادي بالمساهمة في بناء اقتصاد قوي , يصمد في مواجهة كل المتغيّرات وعلى الصعيد الاجتماعي بما يحقق تلاحم الأمة ويقوى عرى التواصل بين أبنائها , ومثل ذلك فتح أبواب الحرية الفكرية من أجل استنهاض الطاقات الإبداعية للأمة بما يقود إلى نهضتها العامة . وإفساح المجال لحرية الرأي والتعبير أمام كل من يود طرح رأي أو فكرة تعود بالنفع على الأمة . فالأمة أمانة في عنق حاكمها عليه واجب رعايتها فما دام قائماً بواجبه هذا إلى جانب إشاعة الأمان والاستقرار الداخلي والخارجي بتحصين الأمة من هجمات الأعداء بجيش قوي مجهز بالسلاح الحديث المتطوّر يرابط على حدود البلاد . أقول : هذا الحاكم لا موجب للثورة عليه ومن يثور عليه باغ خارج على الحاكم الملتزم يجب تأديبه حرصاً على سلامة الأمة واستمراراً لمنهج الحاكم القائم على العدل , فالعدل أساس الملك . وهذا الثائر وأمثاله هدفهم أطماع شخصية ولو كان ثمن الحصول عليها دمار الأمة . فالثورة في هذا الإطار خروج على الحاكم حرّمة الإسلام تحريماً قاطعاً بقوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا . ) النساء ( 58-59). ووجه الاستدلال أصولياً هنا واضح , فما دام الحاكم قائماً بواجبه في رعاية الأمة وتحقيق مصالحها والمضي على طريق العدل الشامل تحرم الثورة عليه وتجب طاعته على الأمة . وبحديث النبي صلى الله عليه وسلم , عن أبي التياح يزيد بن حميد عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبدٌ حبشيٌّ كأن رأسه زبيبة .وفي حديث غندر قال لأبي ذر : اسمع وأطع ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة . فالسمع والطاعة للحاكم العادل فرض على المسلم والخروج عليه فسق لا يقرّه الإسلام . هذا هو الجانب الأول من موقف الإسلام من الثورات وهو حظرها مادام الحاكم عدلاً قائماً بأمر الله في الأمة . وأما الجانب الثاني من الموقف فهو الموقف الإيجابي من الثورات , والمراد بها هنا الخروج على الحاكم وإعلان الثورة عليه من الأمة , والسؤال هنا متى يجوز الخروج على الحاكم ؟ لقد بين الإسلام أسباب الخروج على الحاكم وهي ثلاثة أسباب متى وجد واحد منها جاز للأمة أن تخرج على الحاكم :
1- الكفر البواح الّذي فيه من الله برهان . و يشهد لذلك قول الله عز وجل : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ . ) المائدة (44) وكذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ جُنَادةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ، قُلْنَا: أَصْلَحَكَ اللهُ، حَدِّثْ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِ، سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: دَعَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا، أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأُثْرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ . ) أخرجه البخاري في: 92 كتاب الفتن: 2 باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سترون بعدي أمورًا تنكرونها . 2- الظلم : ظلم الحاكم لشعبه : ويشهد لذلك قول الله عزّ وجلّ : (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ . ) سورة هود . (113) وحديث النبي صلى الله عليه وسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم قَالَ : يَكُونُ أُمَرَاءُ يَظْلِمُونَ ، وَيَكْذِبُونَ ، تَأْتِيهِمْ .قَالَ عِمْرَانُ : غَوَاشِي مِنَ النَّاسِ . وَقَالَ شُعْبَةُ : حَوَاشِي مِنَ النَّاسِ ، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي ، وَلَسْتُ مِنْهُ. 3- القهر وكبت الحريات : وهنا تصدق كلمة سيدنا عمر رضي الله عنه التي أعلن من خلالها حرية الأمة ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً . ) حيث اقتص للقبطي من ابن أمير مصر مؤكداً حقه في الحرية والعيش الكريم , فلم يقر أمير المؤمنين كبت الحرية بل أكّد على ممارستها ضمن رعاية الحقوق وإيصالها إلى أصحابها . وكذلك يرفض الإسلام عبودية الإنسان للإنسان وقد أعلن بيان الله تعالى ذلك بقوله تعالى : (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ . ) ق (8) . وقوله تعالى (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ . ) الأنبياء (105) . فالمرء عبد الله لا عبد إنسان مثله وبالتالي كبت حريته وقهره اعتداء على منهج الله وسلب لمنحة الله للإنسان وهي حريته المبنية على القانون الراسخ افعل أو لا تفعل وذلك محور مسؤوليته . وما أروع كلمة أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ( خلقك الله حرّاً فلا تكن عبداً لغيرك . ) ويضاف لما سبق بضعة أسباب أخرى كاغتصاب السلطة , وسرقة ثروات الأمة وإهمال شؤون الأمة الحياتية والتفريط بحقوقها . تلك جملة الأسباب التي يجوز حال توفرها الخروج السلمي على الحاكم يرفع إليه مطالبه ولا يحمل السلاح إلا في حال مبادرة الحاكم لحمله فعندئذ تصبح الأمة في موقف الدفاع عن نفسها في وجه حاكم تبيّن أنه طاغية جائر وهنا يقف الإسلام موقفاً إيجابياً من الثورة , انطلاقاً من رفض الإسلام للظلم وسلب الحريات وسفك الدماء .
قبل أن أبدأ الحديث في هذا الموضوع الهام لابدّ أن أسارع إلى القول أن الإسلام دين الله الحق الّذي رضيه للإنسانية وختم به النبوة والرسالة فقال: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ..) فالإسلام من حيث هو لا يطلق عليه مسمّى الثورة كما أشار إلى ذلك فريق من الباحثين . وإنما الإسلام من واقع كونه ميزناً توزن به الأحداث والوقائع الّتي تمر بها الأمة له موقف منها , والّذي نتطلّع إليه التعرّف على موقف الإسلام من الثورات التي نعيشها اليوم هنا وهناك في بقاع العالم الإسلامي , ولكن لابد من مقدّمات ضرورية تمهد للموقف الّذي نريد معرفته , وهذه المقدّمات ثلاثة :
الأولى : معنى الثورة : 1- لغة : قال صاحب القاموس المحيط في اللغة : وثارَ ثَوَّرُهم وثُوّارُهم وثَوْرُهم: أي ثارَ شَرُّهم. وكذلكَ ثَوِيْرُهم وثائرُهم: إذا كَثُرُوا وزادُوا وضَخُمَ أمْرُهم. والثَّوْرَةُ: العَدَدُ الكَثِيْرُ. وجاء في المعجم الوسيط في معنى الثورة قول مؤلّفيه : الثورة , تغيير أساسي في الأوضاع السياسية والاجتماعية يقوم به الشعب في دولة ما . 2- اصطلاحاً:انتفاضة شعب في دولة بكل أطيافه أو أكثرها ما بهدف إحداث تغيير جوهري في السياسة والاقتصاد والمنحى الاجتماعي بشكل عام . هذا هو المعنى الّذي استطعت استخلاصه من خلال تقليب العديد من البحوث والمراجع , وأراه وافياً ومعبّراً . الثانية :منحى الثورة, إمّا أن تنحى الثورات منحى إيجابياً فتبدأ من الشعب وتنتهي إلى الشعب محققة أهدافها التي قامت من أجلها وأهمها مساحة من الحرية يعيش الشعب تحت رواقها في إطار من الكرامة يحس بوجوده وقيمته الإنسانية , مع تطوّر في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والمعاشي بما يتناسب مع تزايد الحاجات وتطوّرات الحياتية ومستجداتها , هذا إلى جانب ما تقود إليه من قلب الواقع السياسي والتحول به نحو الأفضل حيث تتحقق العدالة الاجتماعية وينال الفرد ما له من حق في الثروة العامة ضمن التوزيع العادل لمقدّرات الأمة . وإمّا أن تنحو منحى سلبياً فتبدأمن النخبة ووقودها الشعب وتنهي إلى النخبة وهم الّذين يقطفون ثمارها,والشعب ينفض يديه من أية مكاسب إلابعض المكاسب الصغيرةالتي تضمن حالة من الهدوءبمثابة التخدير للشعب,ويبدؤون بالتهام مقدّرات الأمة بنهم عجيب ويخرج الشعب من الثورة خالي الوفاض رغم ما قدّم من الأرواح من أجل الحرية التي صودرت بعد الثورة أكثر مما قبلها . الثالثة : طبيعة الثورة وأسبابها :
أمّا عن طبيعة الثورة , فإنّا نجد أنفسنا أمام منحيين : الأول : هو الثورة السلمية وهذه اللون من الثورات لا يحمل فيه الشعب سلاحاً , بل يخرج إلى الساحات العامة والشوارع وسلاحه الكلمة لا غير يرفع مطالبه للحاكم سلميّاً , وهنا نجد الحاكم إما ملبياً مطالب شعبه وبالتالي تثمر الثورة ما يعود على الشعب بواقع أفضل مما كان قبلها وتتحسّن ظروف الحياة ويستمر السلم والأمان ويتم ذلك كله دون إراقة دماء . وإماً أن نجد أنفسنا أمام حاكم يواجه الثورة السلمية بآلة القمع والقتل فيغيض الأمان وتغرب شمس السلام وتدور رحى حرب حقيقية بين الحاكم شعبه تراق فيها الدماء فيسقط القتلى ربما بالآلاف . وتنتهي الثورة بسقوط نظام الحكم وهرب الحاكم أو اعتقاله أو قتله وقريب من هذا حصل في ليبيا . أو نقل السلطة والتنحي كما حدث في اليمن , أو هرب الحاكم كما حدث في تونس . أو تنحيه كما حدث في مصر . وهذا اللون من الثورة يرافقه سطو وسلب ونهب وتخريب للممتلكات العامة والخاصة واعتداء على الناس عرضاً ومالاً .
وأما أسباب الثورة : فيمكن أن نذكر هنا سبعة أسباب :
1- غياب شمس العدل وانتشار الظلم في كل جوانب الحياة الاجتماعية .
2- ظلم الحاكم لشعبه .
3- مصادرة الحرية وإحكام القبضة الأمنية .
4- احتكار ثروة الأمة ومالها العام لدى الفئة الحاكمة .
5- غياب خصيصة الشورى ( الانتخابات النزيهة ) وتوريث الحكم واغتصاب السلطة .
6- القهر والكبت الّذي يكنّه الشعب في النفوس والّذي يبلغ مداه فتستعل نار الثورة .
7- الفقر وتدني المستوى المعيشي للشعب , وانتشار البطالة بشكل مخيف مما يدفع لتوسيع مساحة الجريمة .
موقف الإسلام من الثورة : إنّ موقف الإسلام من الثورات التي انتشرت هنا وهناك من عالمنا العربي الإسلامي نبنيه على أربعة مرتكزات , كالآتي :
1- غياب شمس العدل وانتشار الظلم .
2- أفول شمس الحرية وانتهاج سياسة كمّ الأفواه .
3- تدني الحالة المعيشية للمجتمع وانتشار البطالة فيه .
4- تحكم القلة المتنفذة بالثروة العامة للأمة وحرمانها من حقّها فيها .
وبناء على ما سبق أن قلناه يتبيّن لنا موقف الإسلام من حيث أن الحاكم وهو اليوم رئيس الدولة أو الملك أو الأمير أو السلطان , والّذي بوأه الإسلام مسؤولية جسيمة تجعله قائماً مقام النبي صلى الله عليه وسلم في حراسة الدّين وسياسة الدنيا ,فعليه أن يتخذ من العدل الشامل لكل جوانب الحياة منهجاً لحكمه في الرعية بحيث لا يظلم أحد أيّاً كان ولا يضيع حق من الحقوق لأيّ من أبناء الأمة , فيأخذ الحق من الظالم ويعيده للمظلوم , ويشرف بنفسه على توزيع الثروات العامة بالعدل بحيث ينال كل فرد نصيبه منها , ويفتح فرص العمل للقضاء على البطالة ويفسح المجال أمام الناس للتمتع بحريتهم في المجالات كافة بما يخدم مصالح الأمة على الصعيد السياسي بالمشاركة في الحكم , وعلى الصعيد الاقتصادي بالمساهمة في بناء اقتصاد قوي , يصمد في مواجهة كل المتغيّرات وعلى الصعيد الاجتماعي بما يحقق تلاحم الأمة ويقوى عرى التواصل بين أبنائها , ومثل ذلك فتح أبواب الحرية الفكرية من أجل استنهاض الطاقات الإبداعية للأمة بما يقود إلى نهضتها العامة . وإفساح المجال لحرية الرأي والتعبير أمام كل من يود طرح رأي أو فكرة تعود بالنفع على الأمة . فالأمة أمانة في عنق حاكمها عليه واجب رعايتها فما دام قائماً بواجبه هذا إلى جانب إشاعة الأمان والاستقرار الداخلي والخارجي بتحصين الأمة من هجمات الأعداء بجيش قوي مجهز بالسلاح الحديث المتطوّر يرابط على حدود البلاد . أقول : هذا الحاكم لا موجب للثورة عليه ومن يثور عليه باغ خارج على الحاكم الملتزم يجب تأديبه حرصاً على سلامة الأمة واستمراراً لمنهج الحاكم القائم على العدل , فالعدل أساس الملك . وهذا الثائر وأمثاله هدفهم أطماع شخصية ولو كان ثمن الحصول عليها دمار الأمة . فالثورة في هذا الإطار خروج على الحاكم حرّمة الإسلام تحريماً قاطعاً بقوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا . ) النساء ( 58-59). ووجه الاستدلال أصولياً هنا واضح , فما دام الحاكم قائماً بواجبه في رعاية الأمة وتحقيق مصالحها والمضي على طريق العدل الشامل تحرم الثورة عليه وتجب طاعته على الأمة . وبحديث النبي صلى الله عليه وسلم , عن أبي التياح يزيد بن حميد عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبدٌ حبشيٌّ كأن رأسه زبيبة .وفي حديث غندر قال لأبي ذر : اسمع وأطع ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة . فالسمع والطاعة للحاكم العادل فرض على المسلم والخروج عليه فسق لا يقرّه الإسلام . هذا هو الجانب الأول من موقف الإسلام من الثورات وهو حظرها مادام الحاكم عدلاً قائماً بأمر الله في الأمة . وأما الجانب الثاني من الموقف فهو الموقف الإيجابي من الثورات , والمراد بها هنا الخروج على الحاكم وإعلان الثورة عليه من الأمة , والسؤال هنا متى يجوز الخروج على الحاكم ؟ لقد بين الإسلام أسباب الخروج على الحاكم وهي ثلاثة أسباب متى وجد واحد منها جاز للأمة أن تخرج على الحاكم :
1- الكفر البواح الّذي فيه من الله برهان . و يشهد لذلك قول الله عز وجل : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ . ) المائدة (44) وكذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ جُنَادةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ، قُلْنَا: أَصْلَحَكَ اللهُ، حَدِّثْ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِ، سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: دَعَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا، أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأُثْرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ . ) أخرجه البخاري في: 92 كتاب الفتن: 2 باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سترون بعدي أمورًا تنكرونها . 2- الظلم : ظلم الحاكم لشعبه : ويشهد لذلك قول الله عزّ وجلّ : (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ . ) سورة هود . (113) وحديث النبي صلى الله عليه وسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم قَالَ : يَكُونُ أُمَرَاءُ يَظْلِمُونَ ، وَيَكْذِبُونَ ، تَأْتِيهِمْ .قَالَ عِمْرَانُ : غَوَاشِي مِنَ النَّاسِ . وَقَالَ شُعْبَةُ : حَوَاشِي مِنَ النَّاسِ ، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي ، وَلَسْتُ مِنْهُ. 3- القهر وكبت الحريات : وهنا تصدق كلمة سيدنا عمر رضي الله عنه التي أعلن من خلالها حرية الأمة ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً . ) حيث اقتص للقبطي من ابن أمير مصر مؤكداً حقه في الحرية والعيش الكريم , فلم يقر أمير المؤمنين كبت الحرية بل أكّد على ممارستها ضمن رعاية الحقوق وإيصالها إلى أصحابها . وكذلك يرفض الإسلام عبودية الإنسان للإنسان وقد أعلن بيان الله تعالى ذلك بقوله تعالى : (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ . ) ق (8) . وقوله تعالى (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ . ) الأنبياء (105) . فالمرء عبد الله لا عبد إنسان مثله وبالتالي كبت حريته وقهره اعتداء على منهج الله وسلب لمنحة الله للإنسان وهي حريته المبنية على القانون الراسخ افعل أو لا تفعل وذلك محور مسؤوليته . وما أروع كلمة أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ( خلقك الله حرّاً فلا تكن عبداً لغيرك . ) ويضاف لما سبق بضعة أسباب أخرى كاغتصاب السلطة , وسرقة ثروات الأمة وإهمال شؤون الأمة الحياتية والتفريط بحقوقها . تلك جملة الأسباب التي يجوز حال توفرها الخروج السلمي على الحاكم يرفع إليه مطالبه ولا يحمل السلاح إلا في حال مبادرة الحاكم لحمله فعندئذ تصبح الأمة في موقف الدفاع عن نفسها في وجه حاكم تبيّن أنه طاغية جائر وهنا يقف الإسلام موقفاً إيجابياً من الثورة , انطلاقاً من رفض الإسلام للظلم وسلب الحريات وسفك الدماء .