الخروج من غزة خطوة لضرب المقاومة وتصفية القضية (1)
مصطفى إنشاصي
خلال المؤتمر الصحفي الذي عُقد على هامش الملتقى العالمي للتضامن مع
القدس بالقاهرة طالب رئيس وزراء ماليزيا الأسبق مهاتير محمد الدول
العربية بضرورة العمل على إبراز ما وصفه بالوجه القبيح للكيان الصهيوني
في ظل ما يرتكبه من أعمال وحشية بحق الفلسطينيين.
وقال: إن “هذا الدور أصبح مطلوباً حالياً من العرب أكثر من أي وقت مضى،
لأن العديد من دول العالم لا تطلع على الممارسات الوحشية التي تمارسها
قوات الاحتلال الصهيوني ضد الفلسطينيين” . ودعا إلى كشف الممارسات
الأمريكية وتناقض أساليبها تجاه العرب. وفي كلمته التي ألقاها خالد مشعل
في احتفال المصالحة في القاهرة في 4/5/2011 أعطى العدو الصهيوني فرصة سنة
أخرى للمفاوضات بعد 20 سنة مضت وسبع سنوات على وقف الانتفاضة والمقاومة
التي أضاع إنجازاتها العظيمة الصراع على الكراسي! وبعدها تعهد موسى أبو
مرزوق بتشكيل حكومة يرضى عنها الغرب متناسياً (لن ترضى عنك اليهود
والنصارى حتى تتبع ملتهم)! ثم اعترفت حماس بخطأ تشكيل الحكومة بعد فوزها
في الانتخابات التشريعية وأنها لا تريد تشكيل حكومة في حال فوزها في
الانتخابات القادمة، وكشف إبراهيم غوشة أن قيادة حماس انحرفت عن نهج
الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي وتخلت عن المقاومة ...!.
وبالمقارنة بين الكلمتين وبقية تصريحات حماس نكتشف الفارق بين وعي سياسي
حقيقي ينتمي لأمته ومصالحها ويدرك وأولويات كل مرحلة وسياسي آخر! فبدل أن
يطالب مشعل ثورات التغيير باستعادة البوصلة والعداء نحو العدو الصهيو-
أمريكي لأنهما هما سبب تخلف ونكبة الأمة وجوعها والعمل على كشف جرائمهما
طوال عقود دعمها للأنظمة السابقة لتكون نقطة ارتكاز للقطيعة معهما،
وجدناه يُعطي فرصة أخرى للمفاوضات ويريد أن يشكل حكومة يرضى عنها الغرب
تفك الحصار عن غزة وتعيد إعماره، وترفض فياض بحجة أنه جزء من مشروع
التسوية وأنه مفروض من الغرب والعدو الصهيوني وأنه متورط في التنسيق
الأمني ... ونسيت أن عرفات وعباس بالأمس كانا كذلك وأن عباس فرضته أمريكا
مع خارطة طريقها رئيس وزراء على عرفات...إلخ من تلك المبررات التي مازلت
تقدمها حماس منذ سنوات لإنهاء الانقسام!.
المفترض أن رفع الحصار عن غزة وإعادة إعمارها واستعادة وحدتنا الفلسطينية
أهم من اسم رئيس الوزراء وكل مدة الحكومة أقل من سنة! ولكن يبدو أنه صراع
محاصصة والفصائل التي يُفترض أنها شريك في تسمية رئيس الوزراء والوزراء
لا دور لها! أليس من حقنا أن نطالب برفع الفصائل يدها عن القضية وعن
التحكم في شئون حياة أهلنا اليومية في الأرض المحتلة؟! يجب على كل حر في
هذه الأمة أن يقول: لا للفصائل! ويطالب برحيلها من حياتنا كلها! وأن
تُعاد القضية إلى حضن الأمة صاحبة الدور الرئيس في تحريرها! لنعود للبحث:
تناولت أقلام كثيرة خطة فك الارتباط الصهيوني مع قطاع غزة من طرف واحد
وقد اختلفت في الرأي والموقف والتوصيف الدقيق والحقيقي لتلك الخطة وفي
قراءة الأبعاد الأشد خطورة على مستقبل الصراع والأمة والوطن كلٌ بحسب
موقفه السياسي وتوجهاته الحزبية وخططه المستقبلية المعلنة وغير المعلنة،
وتحليله من وجهة النظر السياسية وآثاره الجانبية وتوابعه الاقتصادية
واختلفت فيما بينها حول الأسباب التي أدت إلى إقدام العدو الصهيوني على
تلك الخطوة. ففي الوقت الذي اعتبرتها السلطة الفلسطينية ثمرة للجهود
السياسية والمفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والصهيوني والضغوط الداخلية
الصهيونية والخارجية على الإرهابي شارون وأنها جزء من خارطة الطريق،
اعتبرتها فصائل المقاومة وخاصة حركتي المقاومة الإسلامية (حماس) وحركة
الجهاد الإسلامي (انسحاب) وتحرير وانتصار للمقاومة!.
وبعيداً عن تلك القراءات جاءت قراءة الرأي الثالث تلفت الانتباه لما
تحمله الخطة من مخاطر على مستقبل مشروع المقاومة في فلسطين وفي كل بقعة
من أرض الوطن الذي يئن من وطأة الاحتلال أو التبعية للعدو وعلى مستقبل
القضية المركزية للأمة برمتها، وحرصاً على تطوير ذلك الانتصار الجزئي
الذي لا شك فيه لأننا لو اعتبرناه مطلق ولا يوجد للعدو من ورائه أهداف
خبيثة وخطيرة فإن ذلك قد يسبب نوع من الغرور للمقاومة ويقضي عليها، وتفقد
الأمة إنجازات ذلك الحدث العظيم في تاريخ الصراع خاصة على أرض فلسطين
ولأول مرة#. وخلاصته: أن فك العدو الصهيوني الارتباط مع قطاع غزة من طرف
واحد ليس (انسحاباً) ويمثل في أحسن الأحوال لعبة من شارون للالتفاف على
خطة خارطة الطريق والتهرب من استحقاقاتها عليهم، وإعادة انتشار وتمركز
لقواته حول قطاع غزة ومحاصرته من الخارج وتحويله على سجن كبير. وفي
أسوأها وهذا رأي الذي قد يتفق معي البعض فيه: هو مؤامرة، وخطوة لتصفية
القضية المركزية للأمة فلسطين وتحويل قطاع غزة إلى مقبرة للمقاومة ووأد
للحلم الفلسطيني في إقامة دولته الفلسطينية في الحدود الدنيا كمشروع
مرحلي في الضفة الغربية و قطاع غزة واختزال الدولة في غزة فقط ...إلخ كما
يأتي.
سنن المدافعة والصراع#
لأن خروج العدو الصهيوني من قطاع غزة قد يمثل منعطفاً خطيراً في تاريخ
الصراع، إما إيجابياً إذا ما أُحسن قراءته بدقة واستثمار الأسباب التي
دفعت العدو الصهيوني للإقدام عليه في الوقت الذي يحاول فيه بكل قوته
الاحتفاظ بأكبر جزء ممكن من الأرض الفلسطينية، وتركيز الجهود لتصعيد
المقاومة في الضفة الغربية الأكثر قرباً وانفتاحاً وتداخلاً على/في
الأراضي المحتلة عام 1948، والأكثر صلاحية لحرب العصابات من قطاع غزة
بحكم طبيعتها الجبلية لإفشال مخطط العدو للقضاء على المقاومة وتصفية
القضية. وإما يمثل منعطفاً سلبياً خطيراً في تاريخ الصراع إذا لم يُدرك
الفلسطينيون والأمة أهمية هذا الحدث وضرورة استثماره في تخفيف الضغوط
الصهيو-غربية عليهم، بل وتكثيف ضغوطهم هم عليهما وعدم الهرولة للتطبيع مع
كيان العدو الصهيوني لأن التطبيع وإقامة العلاقات معه تأتي خطوة عكس
الاتجاه الصحيح وتُطمعه في الأمة وزيادة مطالبه بمكافئته على هزائمه
واندحاره مكرهاً وليس طائعاً.
ولأننا ندرك أن العدو الصهيوني يريد من ورائه تحقيق أهدافاً مدمرة على
القضية الفلسطينية في حال عدم التعاطي مع الحدث بحكمة وتعقل، سنحاول ربطه
بالبحث الماضي ووضعه في سياق الهجمة اليهودية- الغربية ضد الأمة والوطن
والذي حذرنا فيه من مخاطر البحث عن الشرعية السياسية، وذلك بالتذكير بأهم
السنن الإلهية في الحياة والعلاقات بين بني الإنسان القائمة على المدافعة
والمغالبة والصراع التي بدونهما لا تستقيم الحياة ولا يقر فيها عدل ولا
قسطاس.
قال تعالى: {فهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ
وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ
وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ
الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة:
25). وختم الله تعالى للآية بقوله: {وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى
الْعَالَمِينَ} فيه دلالة على واجب القيام بفعل المدافعة في صد الشر
والظلم واعتباره من أفضل الواجبات والطاعات لله، وأن فوز الإنسان ونجاحه
في القيام بهذا الواجب هو فضل من الله عليه وعلى العالمين. كما أن الله
تعالى أوضح لعباده ولأهل الرأي من الناس عامة أن في المدافعة حفظاً
وصوناً للدين والعبادات وللثقافة والحضارة الإنسانية ودفعاً للإفساد
الوارد في الآية السابقة، وأوجب تعالى على نفسه نصرة من يخرج مقاتلا
ًومجاهداً لدفع هذا الفساد ونصرة قيم الحق والعدل والحفاظ على حرية الدين
والعقيدة. قال تعالى: {لَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ
يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:40).
ولأن الهدف سواء من خطة خارطة الطريق أو فك الارتباط مع قطاع غزة هو
القضاء على المقاومة في فلسطين تمهيداً للقضاء عليها عن الأمة كلها ليفرض
عليها قيمه الحضارية المادية وثقافته الشريرة، وفرض ما يسمونه العولمة
على العالم ونشر قيمها وثقافتها بالإكراه على حساب قيم وثقافة الشعوب
المستضعفة، فإن هدفنا يجب أن يكون الدفاع عن الدين والوطن والقيم
والثقافة ودفع العلو والاستكبار اليهودي- الغربي عن النفس والأهل بالجهاد
والمقاومة فهو دفعاً للشر والظلم وإعلاء لقيم الخير حفاظا ًعلى الحريات
الإنسانية. لذلك يجب أن نضع الخروج من غزة في سياق سنن الصراع والتدافع
التاريخي بين الأمة وأعدائها، سياق المد والجزر، والصعود والهبوط،
والمقاومة والمؤامرة، ليشكل رؤية لنا لفهم الحدث.
ولأننا غالباً نقتدي بالصحابي الجليل أمين سر رسول الله صلى الله عليه
وعلى آله وسلم (حذيفة بن اليمان)، الذي قال: "كان الناس يسألون رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه،
وعلمت أن الخير لا يسبقني علمه". وفي رواية عيسى بن يونس عن حذيفة بن
اليمان، قال: "كان أصحابي يتعلمون الخير وأنا أتعلم الشر، مخافة أن أقع
فيه. قال عيسى: يعني من الفتن"، عافانا الله منها، سأختار للبحث عنوان:
"الخروج من غزة خطوة لضرب المقاومة وتصفية القضية"، إدراكا مني للأبعاد
الحقيقية التي يهدف العدو الصهيوني تحقيقها من ورائه وتحذيراً منا
للمقاومة من الوقوع في الفتن التي يمكن أن تحدث.
مفهوم (السلام) عند اليهودي#
قبل الحديث عن انتفاضة الأقصى وما أحدثته من هزات في كيان العدو الصهيوني
وما شكلته من مخاطر على وجوده، أود مواصلة الحديث من حيث انتهينا في
البحث الماضي عند (اتفاقية أوسلو) ونبدأ بالحديث عن مفهوم (السلام) عند
اليهود. فـ(السلام) في مفهومهم يعني تدمير حضارتنا ومسخ هويتنا العربية
الإسلامية كما أعلن ذلك مناحيم بيغن: "يجب أن لا تأخذكم شفقة أو رحمة
وأنتم ترون الدماء تقطر من أعدائكم، يجب أن تعلموا أن حضارتنا لا تبنى
ولا تقام إلا على أنقاض العرب وحضارتهم". و(السلام) في المفهوم اليهودي
هو مرحلة لاختراق مجتمعاتنا العربية والإسلامية في جميع المجالات وعلى كل
المستويات، وذلك ما كشفه مناحيم بيغن نفسه في الكنيست الصهيوني عام 1979م
أثناء دفاعه ضد انتقادات المعارضين لاتفاقيات كامب ديفيد آنذاك. وبعدها
أصدر كتاباً له باسم "الاختراق" يؤكد فيه على أن ما فعله من اتفاق مع مصر
إنما هو تنفيذاً لأوامر الرب (يهوه)، ويوضح فيه لليهود الدور الذي عليهم
القيام به في المرحلة القادمة مرحلة ما نسميه (السلام).
أما وزيره للحرب عزرا وايزمان كشف في دفاعه عن توقيع معاهدة (سلام) مع
مصر، أن ذلك كان حلم وهدف الصهاينة من قبل قيام كيانهم المغتصب لوطننا
عام 1948، لأنه السبيل الواقعي لتحقيق أطماعهم في وطننا وليس طريق الحرب
والاحتلال العسكري. فقال: "لقد حاربنا خلال السنين لنصبح جزءاً من هذه
المنطقة، التي نحن متجذرين فيها من الناحية التاريخية، والتي جلبنا
الحضارة إليها فهذه حرب سياسية دائمة فقد بحث جميع قادتنا عن الطريق
المؤدية للاندماج. وإنه لشرف عظيم لحركة حيروت ولمناحيم بيغن أنهما قادا
الشعب إلى هذا الطريق".
إذاً: معاهدات سلام كاذبة يوقعها العدو الصهيوني مع دول الجوار هي طريقه
للاندماج في نسيج شعوب وطننا وقبوله عضواً أساسياً في منظومة جديدة
لأقطار وطننا تسمى (الشرق الأوسط) تحقق له التحرر والانعتاق من اعتماده
على المساعدات الخارجية التي تقدم له من الدول الغربية، ويفتح أمامه
مجالات التعاون الاقتصادي والمشاركة في ثروات وطننا التي اعتبرها (بنحاس
سابير) ووزير المالية الصهيوني الأسبق عام 1979 أنها أموال اليهود التي
يعبث بها العرب الهمج في كازينوهات ومنتجعات الغرب ويجب أن تعود إليهم.
كما أن (السلام) يوفر على العدو الصهيوني تكاليف الحرب والنفقات العسكرية
الباهظة من أجل توسيع حدوده لتوفير موارد اقتصادية جديدة وفتح أسواق
جديدة وتوفير أيدي عاملة رخيصة كما اضطر لذلك عام 1967م. وقد اشتدت حاجته
لما يسمى (السلام) خاصة مع الفلسطينيين بعد أن غدت الأراضي المحتلة بعد
الانتفاضة الأولى 1987 تشكل عبئاً ثقيلاً على اقتصاده، وأصبحت كابوس يؤرق
القادة الصهاينة في نومهم ويقظتهم إلى درجة تمنى معها إسحاق رابين أن
يصحو من النوم فيجد غزة وقد ابتلعها البحر، لذلك كان توقيعه لأخطر
اتفاقية (سلام) كاذبة حققت له مكاسب كثيرة جداً ليس بالإمكان حصرها هنا،
ولكن سنحاول ذكر أهمها وأكثرها خطورة على الأمة والوطن. وهي:
اتفاق أوسلو
توقيع اتفاقية أوسلو مع الفلسطينيين قد مكن العدو الصهيوني من التخلص من
الضغط السياسي العالمي الذي كان يتمثل في مطالبته بتنفيذ قرارات الأمم
المتحدة الخاصة بفلسطين، والتي كانت تتراوح ما بين تنفيذ قرار التقسيم
(181/1947) مروراً بقرار (194/1949) الذي ينص على حق العودة والتعويض
للاجئين الفلسطينيين الذين شردتهم العصابات اليهودية من وطنهم، إلى قراري
مجلس الأمن (242/1967 و 338/1973) اللذان ينصان على الأقل بحسب الفهم
العربي لهما على الانسحاب من الأراضي التي احتلت عام 1967م ومن ضمنها شرق
القدس لأن كافة قرارات مجلس الأمن تعتبرها أراضٍ محتلة، وتفكيك المغتصبات
الصهيونية التي أقيمت على الأراضي التي احتلت بعد عام 1967، وغيرها من
القرارات التي تنفيذها لا يلزم الطرف العربي والفلسطيني تقديم مقابل
للعدو الصهيوني، كما أن العدو الصهيوني حصل بموجبه على اعتراف فلسطيني من
الدرجة الأولى في الوقت الذي لا يعتبر فيه اعترافه بالطرف الفلسطيني
اعترافاً ملزماً ويمكن سحبه في أي وقت، وذلك ما فعله باراك وشارون عندما
ألغيا اتفاقية أوسلو وأعلنا موتها دون أن يقع عليهما أي التزامات في
الوقت الذي وقع فيه اللوم على الجانب الفلسطيني وتمت مطالبته بتنفيذ ما
تم التوقيع عليه في أوسلو وغيرها من الاتفاقيات؟!.
ومن النتائج الخطيرة لاتفاق أوسلو على مستقبل القضية المركزية للأمة أنه
أجهض المشروع العربي الرسمي الوحيد المناهض للوجود اليهودي في فلسطين وهو
الثورة الفلسطينية وحاول احتواءه وتوجيهه لخدمة أمن العدو الصهيوني
والحفاظ على وجوده. وتحويل السلطة الفلسطينية إلى أداة قمع لفصائل
المقاومة بعد أن تم إجهاض الانتفاضة الجماهيرية الأولى عام 1987 بدخول
السلطة إلى غزة وأريحا عام 1994 بعد أن عجز جيشه في القضاء عليها. وهكذا
ألقى رابين بغزة للرئيس الراحل ياسر عرفات بعد أن رفض البحر ابتلاعها،
ظاناً أنه تخلص من المقاومة ولكنه اكتشف حقيقة فشله بعد سنوات عندما
تفجرت انتفاضة الأقصى عام 2000.
كما أن اتفاق أوسلو حول القضية من قضية عربية وإسلامية ودولية إلى قضية
محلية، أي صراع بين اليهود والفلسطينيين وعند حدوث خلاف بين الطرفين حول
أي أمر أو قضية تفاوض يتم العودة فيها إلى اللجان المشتركة بينهما، التي
شكلت برعاية أمريكية ولم تعد الأمم المتحدة هي المرجعية في حل القضية.
وذلك ما أدركه الطرف الفلسطيني متأخراً وبدأ يحاول استعادته بعد انتفاضة
الأقصى المبارك ويحاول رفع سقف التفاوض إلى الأمم المتحدة مرة أخرى!
فبالرغم مما صدر عن الأمم المتحدة من قرارات إلا أنها بعد الهيمنة
الأمريكية عليها وخاصة فيما يتعلق بفلسطين فإن قراراتها لم تعد بتلك
القوة المعنوية على الأقل التي كانت عليها قبل اتفاق أوسلو.
كما أن العدو الصهيوني على المدى الطويل سيتمكن من تحقيق أقصى مضاعفة
لدخله القومي، وتثبيت قواعد اقتصاده المتأرجح من خلال مشاريع التعاون
الاقتصادي التي سيتم تنفيذها تحت المظلة اليهودية الجديدة لوطننا، التي
ستكون بديلاً عن الوحدة العربية والسوق العربية المشتركة التي لم تتحقق
منذ ما يزيد على خمسة عقود، تلك المظلة هي (النظام الإقليمي الجديد) أو
(السوق الشرق أوسطية) أو (الشرق الأوسط الجديد) بتسمياته المختلفة، التي
ستمكن العدو الصهيوني في حال قيامها من المشاركة في كل ثروات وطننا
والسيطرة على الصناعات المتطورة واحتكارها وخاصة في المجال التكنولوجي
وصناعة السياحة.
ذلك النظام الإقليمي الذي منذ أن تم توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 اندفع
العدو الصهيوني بالمشاركة مع دول عربية وعالمية نحو تحقيقه واقعاً وبسرعة
مذهلة تجاوبت معها بعض الأنظمة العربية، على الرغم من القرار الذي صدر عن
خبراء المجالس القومية المتخصصة بالاشتراك مع خبراء من الخارجية ونشرته
صحيفة الأهرام بتاريخ 24/1/1995، وجاء فيه: "لا مصلحة للبلاد العربية في
إنشاء سوق شرق أوسطية. ويجب التركيز على ضرورة عدم إنهاء المقاطعة
العربية قبل الوصول إلى تسوية مقبولة لكل القضايا المطروحة".
ذلك الاندفاع من بعض الأنظمة العربية نحو النظام الإقليمي الجديد رغم
تحذيرات خبراء الاقتصاد العرب من أنها محاول يهودية للسيطرة على
الاقتصادات العربية من خلال دمجها في الاقتصاد اليهودي والعالمي، ودون
التعلم من تجربة تاريخية حية قام بها العدو الصهيوني كمحاولة أولى لدمج
الاقتصاد العربي في اقتصاده عندما يتم (السلام) الذي يحلم به، وهي تجربته
في دمج اقتصاد الأراضي المحتلة في اقتصاده دون أن يشرك عرب تلك الأراضي
في أي حقل من حقول التقدم العلمي والصناعي ولكنه جعل منها أسواقاً
لمنتجاته ومصدر للأيدي العاملة الرخيصة، على الرغم من أن انتفاضة الأقصى
المبارك أوقفته وحدت منه إلى درجة قاربت معها إجهاض أحلام كيان العدو
الصهيوني تلك جميعها إلا أنه عاد لينتعش مع عودة عقد المنتديات
الاقتصادية العالمية "منتدى دافوس" في منتجعات البحر الميت الأردنية وبعد
توقيع معاهدة "الكويز" الاقتصادية بين مصر وكيان العدو الصهيوني!.
كما أن العدو الصهيوني بعد توقيعه لكل معاهدة (سلام) يجني المزيد من
المكاسب المالية والعسكرية حتى يستطيع تحقيق مبدأ السلام القائم على
الردع والقوة العسكرية وليس العدل وإعادة الحقوق لأصحابها، إلى درجة تحول
فيها إلى مستودعاً للأسلحة وخاصة بعد حرب الخليج الثانية، ناهيك عن الصمت
عن السلاح النووي الصهيوني وعدم ممارسة الضغط عليه لإخضاع منشآته النووية
للتفتيش. في الوقت الذي شهد العالم أجمع على الحملة الأمريكية والحرب
التي شنتها أمريكا على العراق بدعوى امتلاكه أسلحة أو في طريقه لامتلاك
أسلحة نووية. والحملة الحالية ضد إيران أيضاً والتهديد بتحويل ملفها
النووي إلى مجلس الأمن. ذلك لأن النظرية اليهودية لمفهوم (السلام) كما
عبر عنها شيمون بيريز: "لتصنع السلام كن مستعداً للحرب". وكما عبر عنها
إسحاق رابين: "علينا أن نكون مستعدين لحرب شاملة متوسطة وطويلة المدى".
وهذه الأقوال لكليهما جاءت بعد توقيع اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين، ووادي
عربة مع الأردن.
أضف إلى ذلك أن كيان العدو الصهيوني سيكون هو الرابح الأكبر من (السلام)
على المدى القصير والمتوسط والطويل. وذلك بتحقيق هدفه السياسي
الاستراتيجي بمنع قيام وحدة عربية أو إسلامية من خلال تأجيج الصراعات
الداخلية العرقية والطائفية والمذهبية والسياسية والفكرية وعدم تحقيق
الوحدة الوطنية والاستقرار السياسي على صعيد القطر الواحد.
تلك بعض المكاسب التي حققها العدو الصهيوني بعد توقيعه اتفاق أوسلو والتي
فقد الكثير منها وبات المتبقي مهدد بالضياع إذا استمرت الانتفاضة، لذلك
عندما أيقن أنه عاجز عن القضاء عليها بحث عن مخرج ليتخلص فيه من أعبائها
ويحافظ على ما بقي من مكاسب ويستعيد ما فقده، فكان قرار خروجه من غزة من
طرف واحد. وهكذا تكون خطة فك الارتباط جزء من الهجمة الخطيرة على الأمة
والوطن التي تستهدف المقاومة، ليسهل له ممارسة الضغوط على الأنظمة
العربية لإحداث نقلة أكبر على طريق الانفتاح والتطبيع معه ودمجه جزء
أصيلاً في نسيج الأمة والوطن وإعطائه دور القيادة والمركز. ذلك الدور
الذي تحدث عنه تيودور هرتزل قبل نحو 110 سنين، عندما تحدث عن التفكير في
قيام نظام سياسي واقتصادي يجمع كيان العدو الصهيوني والدول العربية،
عندما دعا إلى "ضرورة قيام كومنولث (شرق أوسطي) يكون (لدولة اليهود) فيه
شأن فاعل، ودور اقتصادي قائد". وذلك ما يحاول الآن الإرهابي بوش تحقيقه
بعد أن أعلنت وزيرة خارجيته بعد الاتفاق على فتح معبر رفح عن توجه
الإدارة الأمريكية لإشراك العدو الصهيوني في لعب دور في جهود أمريكا لنشر
الفوضى (الديمقراطية) في وطننا، كوسيلة للقضاء على مقاومة الأمة لكل
مشاريع الهيمنة اليهودية-الغربية عليها.
وإذا كانت انتفاضة عام 1987 قد أكرهت العدو الصهيوني على توقيع اتفاق
أوسلو والمماطلة بعد ذلك في تنفيذه ومكنته من تحقق كثير من المكاسب
السياسية والمادية، وانتفاضة الأقصى سببت له إلى جانب الأزمة الاقتصادية
الخانقة أزمات لا تقل شدة على المجتمع الصهيوني خاصة على الصعيد الأمني،
وقد أعاقت تنفيذ مخططاته ومشاريعه المشتركة مع كثير من أقطار وطننا، فإن
فك الارتباط مع غزة يعتبر ثمرة انتفاضة الأقصى وفي الوقت نفسه محاولة من
العدو الصهيوني الالتفاف على المقاومة وخارطة الطريق وتصفية القضية تصفية
نهائية بحسب تصوراته بـ "دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة" في قطاع غزة.
وذلك ما عبر عنه الكاتب الصهيوني (إتساف بارئيل) في تعليقه على نتائج
حوارات القاهرة/تفاهمات القاهرة في آذار/مارس 2005م وموافقة حماس على
المشاركة في الانتخابات التشريعية ودخول منظمة التحرير، والموافقة على
تهدئة لمدة عام كامل تمنح العدو الصهيوني خروجاً مشرفاً من غزة لأن شارون
اشترط ألا يخرج تحت إطلاق النار حتى لا يظهر وكأنه خرج هارباً! حيث قال
معبراً عن الانتصار في اختزال "قضية الأمة المركزية": إن إنجاز هذه
المرحلة يعني حدوث تحرر جديد، أي تحرر النزاع (الإسرائيلي)- الفلسطيني من
النزاع العربي- (الإسرائيلي) ويعيد مشكلة فلسطين إلى الفلسطينيين.
التاريخ: 3/7/2011