**
مغامرة المتـنبي:
اختيار.. أم اضطرار؟
صلاح داود
ما المقصود بالمغامرة ؟تقتضي المغامرة أساسا أن يسلك الإنسان طريقا غير مسبوقة أو قلما سلكت من قبل. وبذلك تكون الرحلة مجهولة العواقب محفوفة بالمخاطر، ويشترط لخوض تلك الرحلة الإرادة والمجازفة ومنتهى الاعتداد بالنفس.
ولكلّ هذا تصطبغ المغامرة بطابع وجودي / إنساني يضفي على صاحبها معنى الكيان.
و مِـن هذا المنطلق يتنزّل موقـفـُـنا من رحلة أبي الطيب فكرا ووجدانا:
فهل غامر المتنبي مريدا مختارا أم مضطرا مدفوعا؟
وهل كان فاعلا متبوعا أم مفعولا به تابعا؟
وهل كان هو الأصلَ الذي يؤكد وجودَه ، لينفيَ العدم ؟ أم كان الظلَّ الذي يُرسّخ انتفاءَه، ليُـثبت الفساد؟
بل ...
هل كان فعلا أم ما كان أصلا ؟
***
نطرح المسألة انطلاقا من افتراضين اثنين أوردهما المتنبي في شكل جملتين شرطيتين افتراضيتين:
"وإذا كانت النفوس كبارا ** تعبت في مرادها الأجسام"
إنها معادلة واضحة أقامها المتنبي بين الكبر والتعب.
فامتياز النفس ليس بلا مقابل:
إما راحة الجسم فــــــــــــ ضعف النفس وخورها
وإما الرفعة فــــــــــالعناء، وهو ضريبة لا بد منها للعظماء.
فالتعب هو عنوان كبار النفوس، والسكون هو عنوان الحقارة والوضاعة.
***
فهل لأن المتنبي عظيم محكوم عـليه بالتعب .. أم.. لأنه يحـبّ التعب محكوم عـليه بالعظمة؟
فكيف القضية إذن؟
الجواب بالعودة إلى البيت المذكور. فالافتراض كان في شكل تلازمي (جملة شرطية ظرفية مطلقة ) وهي عملية رياضية أدركها أبو الطيب في المطلق بلا قيد زماني أو مكاني ودون ارتباط بشخص معين.
فالمطلق هو الخلود ولا خيار دونه.
من هنا كان التعب في ظاهره اختيارا ولكنه في عمق الفكر عند المتنبي حتمية لا مفر منها لمن آمن بالمجد والعلا..
هذه نتيجة أولى وقف أمامها أبو الطيب من دون مغالطة للذات، وهو القائل:
"ولقد بكيت على الشباب ولمّتي ** مسودة ولماء وجهي رونق
حذرا عليه قبل يوم فراقه ** حتى لكدت بماء جفني أشرق ".
إنه الوعي بحتمية الموت التي تقطع بين الإنسان وأحلامه. فالوقت أقصر من أن نركن فيه للراحة والانتظار. أفلا يصبح التعب هو السبيل الأوحد إلى الكيان والخلود؟
وإلى هذه المعادلة الأولى من الافتراض يـنضاف افتراض ثان من نفس النوع:
"وإذا لم يكن من الموت بد ** فمن العجز أن تموت جبانا"
ففي الظاهر هناك إقرار بإمكانية الخيار بين أمرين:
إما العجز و الموت.. و إما القدرة و الموت .. أيضا.
فـفي كلتا الحالتين الموت قائم كثابتة من الثوابت، والمتحول هو الجبن والعجز فالاندثار الفناء من ناحية وهو الشجاعة والقدرة فإثبات الكيان من ناحية ثانية. فالمغامرة تصبح هي الحاجة الضرورية لنثبت هذه القدرة وبذلك نكون بالرغم عن العدم.
وهنا يحق لنا أن نتساءل:
ماذا نسمي امْرَأ أوقَـفه التأمل أمام أن يختار بين : الفناء أو الخلود؟
أهُــو حــرّ مريد أم مضطر مرغم؟
إن الحيرة تطرح على من كان مترددا عاديا أمّا من كان ذا نفس " بها أنف أن تسكن اللحم والعظما" فالمغامرة لديه أمر لا مفر منه.
فمن هو هذا الذي لم تَـستطع التركيبةُ البشرية العادية أن تفيَ بعزة نفـسه، فـتجـاوَزَهـا؟
لاشك ـ افتراضيا ـ أنه من طينة غير الطينة المألوفة. فمن صفاته البارزة ما هو مادي وما هو معنوي، وما هو منطوق به وما هو ضمن الكلام. وإذ نذْكر بعض ما يمكن الوقوف عنده من كلام المتنبي فإننا نروم الخلوص عبر بعض الاستتباعات الجزئية إلى بعض الاستنتاجات الموضوعية العامة:
* علو الهمة وشموخ النفس والتفرد:
إن هذه الخصيصة ليست مجرد ملاحظة عرضية عابرة أو رأي شخصي، فلا تكاد قصيدة من قصائد أبي الطيب لا تتوضّح فيها نزعة الكبرياء هذه في منظومات حكمية صارخة، حتى كأن القضية قضية حياة أو موت، لأن الحياة تنهار كل أركانها لديه متى فقدت الهمة أوضاع الإباء. لذلك تحول الأمر لديه ركيزة جوهرية:المعنى أو اللا معنى:
" من يهن يسهل الهوان عليه ** ما لجرح بميت إيلام "
أو:
" ذل من يغبط الذليل بعيش ** رب عيش أخف منه الحِمام "
أو:
"كم تطلبون لنا عيبا فيعجزكم ** ويكره الله ما تأتون والكرم
ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي ** أنا الثريا، وذان الشيب والهرم".
بل إنه لمن الغريب الأغرب أن نجد المتنبي في سن مبكرة جدا ـ هي سن الصبى ـ ينصرف الأطفال فيها عادة إلى اللهو واللعب واللامبالاة، لكنه يخترق ناموس الطبع ليصدع قائلا في لهجة تحد، فقز من خلالها على عمره بما لا مثيل له:
" أيَّ محل أرتقي ؟ أي عظيم أتقي؟
وكل ما قد خلق الله و ما لم يخلق
محتقر في همتي كشعر’ في مفرقي!"
أو:
"إن أكن معجبا فعجب عجيب ** لم يجد فوق نفسه من مزيد"
ولا شك أن للزمن الرديء الذي عايشه المتنبي أثرا رئيسا في هذه الكبرياء، عساها تعوض له بعض الشعور بالانسحاق والمهانة. ففي شهاداتٍ لأدباء العصر ومؤرخيه ما يزعج كل ذي إباء ونخوة . فالدولة العربية الإسلامية "انفرطت حبات عِـقدها" حسب عبارة أحمد أمين ، والروم في "تهايج على المسلمين" كما كان التوحيدي على ذلك شاهد عيان، ورجال السياسة في قصف ولهو ، والشعراء يراؤون وينافقون حتى كأن الدنيا قد بات "شرارها شعراؤها"كما تأفف من ذلك أبو العلاء المعري . بل حتى الأمان قد فقد ، "لانسداد الطرق وتخطف الناس للناس وشمول الخوف وغلبة الرعب "
... فاللوحة قاتمة والأنانية الرخيصة غلبت على المصلحة العامة. كل شيء ذليل إلا المتنبي. فلذلك لم يجد من هو جدير بالاحترام والتقدير.
* الاستعداد الفطري للحركة إلى حد الشذوذ اللا بشري :
وهذا امتداد لما كنا نوضح. فالرجل متعاظم فوق القدرة البشرية؛ إن هو إلا آلهة، أو نصف آلهة ليس يطالها مكروه. وهذه السمات تمس المتنبي من أكثر من وجه:
أ ـ جـسـدا:
فحتى في الحالات التي يرغم فيها المرء على النزول من عليائه تحت وطأة المرض والضعف يرفض المتنبي ذلك، وكأنه يرفض أن يتساوى مع غيره، أو كأنه يعاف أصلا أن يكون كغيره ، فالدهر الذي هو كائن فيه كما قال عنه:
" ودهر ناسه ناس صغار ** ولو كانت لهم جثث ضخام
وما أنا منهم بالعيش فيهم ** ولكن معدن الذهب الرغام"
ففي قصيدة الحمى الشهيرة التي انتابته بمصر يستخـسر على نفسه أن يركن إلى لحظات استرخاء يتعطل فيها الرحيل وينقطع السفر:
" وملنيَ الفراش و كان جنـبي ** يـملّ لقاءه في كل عام
يقول لي الطبيب : أكـلت شيئا ؟ ** وداؤك في شرابك والطعام
و ما في طـبّـه أنـي جواد ** أضر بجـسمه طول الجَـمام
...فإن أمرض فما مرض اصطباري ** وإن أحمم فما حم اعتزامي".
ب ـ روحا ووجـدانا وفـكـرا :
لا شك أن هذه الأعباء الثقيلة التي يلقيها المتنبي على عاتقه ، وهذا الجهد الجهيد الذي يضني به بدنه ، هي نتيجة طبيعية لروح متوهجة وقادة نارها حميمة جهنمية ليست كل النفوس قادرة على احتمالها ، وهي لا شك كذلك إحدى تبعات عاطفة جياشة لا تني ولا تلين وتحلم بأقسى وأقصى ضروب المستحيل :
"أريد من زمني ذا أن يبلغني ** ما ليس يبلغه من نفسه الزمن"
فهل نعدو الصواب إذا ذهب بنا الفكر إلى اعتبار نفس المتنبي أعظم من الدهر نفسه؟
إن القرائن المؤيدة لهذا التوجه مبثوثة بكثافة في أشعار أبي الطيب ولا يحتاج معها الباحث على كبير عناء. ومن الأمثلة الأكثر إيضاحا لهذا الشأن ما قاله في رثاء أحد العظماء الذين شدوه إليهم وأغروا شيئا من كبريائه وشفوا بعضا من غليله، أبي شجاع فاتك:
" سبحان خالقِ نفسي كيف لذتُها ** فـيما النـفوسُ تـراه غـاية َ الألم
الدهر يَعجب من حملي نوائبَه ** وصبْـِر نفسي على أحداثِه الحُطُُمِ !"
لقد راوح المتنبي بين ما هو حركة جسم وما هو حركة فكر؛ فقد كان لديه "خير جليس في الأنام كتاب" وكان ممن "نظر الأعمى إلى أدبه" إضافة إلى اتخاذه "أعز مكان في الدّنى سرج سابح"، فقدّم لنا بذلك بطاقة تعريف غيرَ ذات نقصان حين صدع بأعلى صوته:
"الخيل والليل والبيداء تعرفني ** والسيف والرمح والقرطاس والقلم".
*عدم القناعة:
يبدو الرجل من النوع الذي لا يشبعه شيء.طمع يتلوه طمع، وظمأ يفرز ظمأ بلا حد ود. وقد يكون للطبع الذي جبل عليه أبو الطيب والذي بيناه سابقا دور كبير في هذا الشأن. فــ" في الجسم نفس لا تشيب بشيبه" كما قال في إحدى مدحياته البائية في كافور:
" ولكنّ قلبا بين جنبيَّ ، ماله ** مدى ينتهي بي في مراد أحدّهُ"
وإذا كان هذا الأمر يعـدّ عند العاديين عيبا ، فإنه في عرف المتنبي ضرب من الفضل بما هو امتياز واختصاص وانفراد وعبقرية:
"أين فضلي إذا قنعت من الدهــــــــ ** ـــــر بعيش معجَّـل التنكيد ؟"
أو :
"وللسر مني ، موضع لا يناله ** نديم ولا يفضي إليه شرابُ"
* رفض الموت:
إن المتنبي قد أخذه هاجس شبه جنوني بالخلود، حتى أصبح الموت عنده العدو الألد الذي ينبغي قتله . لذلك يتغنى في خيلاء كي يكيد أعداءه بأنه من حيث مات عندهم ،لا يزال حيا منتفضا على القبر رمز الفناء :
"كم قد قتلت وكم قد مت عندكم ** ثم انتفضت وزال القبر والكفن"
أو يتغنى كذلك بأنه من النوع الذي حير المحن والشدائد ذاتها حين رأته يخوض غمارها ويخرج منها بلا أذى:
"تمرست بالآفات حتى تركتها ** تقول : أمات الموت أم ذعر الذعر؟!"
ولا عجب أن يتعشق تعشقا كل الذين جسموا لديه البطل النموذجي أمثال" بدر بن عمار" و" سيف الدولة " و" أبي شجاع فاتك « لما جسّموه من بطولة وتحدّ وعشق للجهاد والاستشهاد. فلقد اخترقوا السائد في عصرهم وكانوا الاستثناء وهذا ما أخرجهم بلا شك من زمرة هؤلاء الذين احتقرهم أبو الطيب كشعرة مفرقه.
ففي إحدى سيفياته يقول:
" وقفتَ وما في الموت شك لواقف ** كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ** ووجهك وضاح وثغرك باسم"
* الحرية المطلقة:
قد لا نعدو الصواب إذا أطلقنا على المتنبي صفة العاشق لمبدإ " الرفض" إلى حد المغالاة. فكل شيء يعـدّ لديه قيدا، بما في ذلك الجسد نفسه، لكونه يصبح في كثير من الأحيان عائقا ومثبّطا يحُولان دون المرء وقدرته على الفعل والإنجاز. وهذا يعود أساسا إلى طبع أبي الطيب الذي سبق أن عرفناه عدوا للسكينة، ملتذا بالتعب، مستجمّا بالحركة:
" وإني لمن قوم كأن نفوسهم ** بها أنَف أن تسكن اللحم والعـظْما ".
حتى المكان تحول ضربا من السجن يضيق فيه المقام بما رحُب ، وهذا ما قد يفسر سر تعطش الشاعر إلى المغادرة في غير ما تردد ، فكان كل مكان مكانَه ولا مكان:
"غنيٌّ عن الأوطان لا يستخفّّـني ** إلى بلد سافَــْرتُ عـنه إياب
وأَصْدَى ولا أبْدِي إلى الماء حاجـة ** وللشمس فوق اليعْمَلات لعاب (1)"
وقد لخص كل هذا في الصدر القائل:
"أعز مكان في الدنى سرج سابح"
لما في السرج من رمزية بيّنة تحيل على السرعة والتجاوز.
* النفور من النقص والتوق إلى الكمال:
بل لعل الأصوب أن نقول ـ مقاربة لعالم أبي الطيب الباطنيّ ـ إنه لا يعترف أصلا بأنه من
البشر الخطّائين. لذلك يرى أن الجميع مطالبون بتعظيمه، وكل من لا يفعل ذلك فهو إما جاهل بحقيقة ذاته أو حاسد غيور:
" وكيف لا يحسد امرؤ علم ** له على كل هامة قدم ؟
ولذلك أيضا يرى أنه من البديهي أن يظل الإنسان الحقيقي يحمل معه عيوبه ونقصانه لأننا بالأساس مطالبون بأن نجسّم قدُراتِـنا كي نكون:
" ولَمْ أَرَ في عيوب الناس شيئا ** كنقص القادرين على التمام "
فمن غير المروءة أن يكون الإنسان قادرا على الكمال ولا يكتمل ، ولهذا يصبح الكمال قدرا محتوما لا بد أن يقدر علية المتنبي مادام إنسانا..
كل هذا يفضي بنا آليا إلى السؤال الرئيس:
هل تحرك أبو الطيب لمجرد أن يلبي متطلبات تلك "التركيبة " التي تميز بها طبعه ، فيكون همه ، كل همه في أن يتحرك، فتكون الحركة غاية في ذاتها؟
أم إن الحركة هي نفسها وسيلةٌ لغاية أخرى، هي إثبات الكيان ؟
من كل ما سبق تتجلى إرهاصات ما يمكن أن نسمّـيه "الإنسان المشروع "في شعر المتنبي إعلانا للحركة والعناء:
فـالجسد في تهيؤ للتحرك، والنفس متهيجة نَـفور من الجسِد ومن الانحباسِ فيه، والروح ملأى توقّـدا ويقظة، والفكر مفعَم حلما بالمجد. وفـي داخل أبي الطيب تعب حيّ يشوش عليه راحته و مشغل يفرض عليه السعي والبحث.
فما تحديد مفهوم المغامرة عند المتنبي؟
إنها السبيل إلى الشعور بالوجود وإلى إدراكه من ناحية وهي جوهر الكيان الحي من ناحية أخرى.
وإنّ الجمود بالتالي هو قتل للكيان وبتْـر له، وهذا من البديهيات.
" وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ** إذا استوت عنده الأنوار والظلم "
وكنه هذا الوجود هو التوازن الطبيعي معنى ومادة:
ـ المال والمجد من جهة:
" فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ** ولا مال في الدنيا لمن قل مجده "
ـ والتكامل الأرقى بين الرأي والشجاعة من جهة ثانية:
" الرأي قبل شجاعة الشجعان ** هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة ** بلغت من العلياء كل مكان".
فالمغامرة والمتنبي قد التصقا وتزاوجا قدرا واختيارا معا فلم يعد بوسعه ألا يغامر ويتحرك ما دامت ثنائية المادة والمجد وجهين لا فصل بينهما لحقيقة واحدة. وبدون ذلك يظل أبو الطيب ضالا لا يهتدي غريبا لا يتنمي وهو الأمر الذي ظل الرجل معه يعاني وطأته ويرزح تحت ثقل كوابيسه. فقد ضاعت كل سبل الوصول، وكل آفاق الارتياح.
ولكن غامر المتنبي بالفعل أم ظل الأمر لديه مجرد كلام لا يرقى إلى مستوى الفعل والتنفيذ؟
لم يكن أبو الطيب مجرد شاعِـرٍ يحلم وفصيحٍ يُعرب، بقدر ما ارتمى فعلا في غمار ساحة المغامرة من دون أن يكون لديه المال، السند الموضوعي لضمان النجاح.
فالحلم بالمجد كبير جدا، ولكن المال رديفه الأساسي غير موجود. فكيف السبيل؟
"سأطلب حقي بالقنا ومشايخٍ ** كأنهم من طول ما التثموا مُرْد"
كل هذا ـ لمن أدرك جيدا خفايا شخصية المتنبي ـ يفسر بجلاء، كثيرا من الأسرار التي قد تبدو أحيانا حتى ضربا من المتناقضات، بما في ذلك تذلل المتنبي الذي بلغ أقصى حدوده، وهو ما يوحي بأن أبا الطيب قد تنكر لأبي الطيب، بل أساء إلى جوهر ذاته وشوهها حتى التشظي وحتى كأنّ كل ما تغنى به المتنبي من عظمة وغلو في الزهو بالأنا ،إنما هو ضرب من الهذيان والمهاترات الكاذبة .
فهل تنـكّـر المتنبي للمتنبي ؟ وهل فسخ وجوده بمنتهى البساطة ودون وعي منه؟
فقد لمّح في مدحياته لكافور إلى ما يريد من عطايا وهبات، فأضفى عليه فضائل "البحر" و"السواقي" وأخرجه من لونه الأسود، وصبغه أبيض ناصعا فواحا كـ"المسك"، بل أضحكنا حين أسمعنا أشياء في منتهى الغرابة. ثم لم نلبث أن فهمنا أنه لا يعدو كونه شاعرا متكسبا متملقا قد ذاب في زحمة المتملقين .
فليس إلا أنه أمر سرياليٌّ أن يصدع المتنبي أمام الملإ ودون خجل من ذاته مخاطبا كافورا بقوله:
"تفضح الشمس كلما ذرت الشمـ ** س بشمس منيرة سوداء "
فليس من المعقول هذا الذي يقال. فما علم الإنسان أصلا وجود شمس سوداء ، وإن وجدت فلن تكون إلا تلك التي تغطّيها السحب الكثيفة فتحجبها عن العيان أو تلك التي يغيّـبها ظلام الليل فيبطل مفعولها من الإضاءة .
ويتمادى المـدّ ُ السريالي في فكر المتنبي صارخا، حين يوهمنا بأن الممدوح قد أصبح مبعث غيرة الملوك سحنته وبهائه ،حتى صاروا يشتهون أن تُـسلَخ جلدتُهم لتُستبدل بجلدة شبيهة بلون كافور:
"مَن لبيض الملوك أن تبدِل اللّـوْ ** نَ بلون الأستاذ و السحناء؟"
فما هذا اللون الذي تفرد به الأستاذ ؟
إنه هو ذات اللون الذي سيقول عنه المتنبي نفسه:
" وإنك لا تدري ألونـك أسود ** من الجهل أم قد صار أبيض صافيا "
ومن هو هذا الأستاذ، الذي تَغـنَّى به أيما تغن؟
إنه هو ذاته ذاك "الأسود المخصيّ مكرمة" وهو ذاته ذاك" الأسود المثقوب
مشفره"
وهو ذاته ذاك الذي:
"أذنه في يد النخاس دامية"...إ نه لون العبودية التي يحتقرها العرب بتفكيرهم العنصري المقيت.
فكيف يشتهي المرء ما يكره؟؟
وما هي رائحة كافور "المسكية" الفواحة التي أنعشت أنف المتنبي؟
إنها ليست سوى "النتونة" كل النتونة، إلى الحد الذي عافها الجميع، بمن فيهم "عزرائيل" ملَـك الموت ذاته:
" ما يقبض الموت نفسا من نفوسهم ** إلا وفي يده من نتنها عود!"
ومع ذلك.. فــقد هانت على المتنبي نفسه، وتذلل لكافور الإخشيدي بما لا يليق بأرخص إنسان عادي مغمور. فقد نزل عن كبريائه منحنِيَ الهمّة بل شحاذا مستجْـديا مستثيرا لنخوة الممدوح ،عله يتواضع ويجُود عليه ببعض بقيةٍ مما يشرب:
" أبا المسك هل في الكأس فضلٌ أناله ** فإني أغني منذ حين وتشرب؟"
وهو الذي قال في أكثر ما قال:
" يهون علينا أن تصاب جسومنا ** وتسلم أعراض لنا وعقول"
وقال ما هو أشد صلابة من هذا:
"من يهن يسهل الهوان عليه ** ما لجرح بمـيـت إيلام".
فكيف هانت على أبي الطيب نفسه إلى هذا الحد الغريب، المتنافر مع طبيعته وفلسفته في الحياة ومواقفه من الإنسان؟ وكيف سهلت عليه استباحة كرامته إلى هذا الحد الكافر تماما بمبادئه؟
لعلنا لا نكون قد أخطأنا السبيل أو تسرّعـنا في الحكم إذا قلنا بمنتهى الاطمئنان
الذي أفضى إليه البحث من داخل فكر المتنبي: إنّ كل ذلك هو عنوان "المغامرة" عينها وبرهان ما يمكن أن نسميه "التضحية". لكننا لا نعني بذلك المعنى البدائي للكلمتين، وإنما المقصود أن يختار المتنبي ذلك عن قصد إرادي ممزوج بسلطة مفروضة عليه لا قدرة له على مقاومتها، وهو الذي له في ذهنه أكبر الأحلام.
إنها ـ كما يقول خبراء الرياضة ـ طريقة للتقهقر لإجادة القفز:
( une façon de reculer pour mieux sauter.)
إلا أن المتنبي تقهقر وما أجاد القفز. وهذا ما يفسر سر انقلاب المتنبي على الأستاذ بل على نفسه قبل غيرها يصب عليهما معا جام غضبه لعله يغتسل من العار الذي شعر به في عمق وجدانه وتلافيف ضميره، بعد أن عرف الناس عنه أنه أرخى العنان وهو الذي طالما ادعى الصلابة، ونزل إلى بشريته بكل نقائص البشر ، وهو الذي ظل يتعالى يوهم الدنيا كلها بأنه " خير من تسعى به قدم " وأن كل مذمة له هي "الشهادة له بأنه كامل" وبأنه معجب و"لم يجد فوق نفسه من مزيد" :
"ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن ** يسيء لي فيه كلب وهو محمود
...ويلمها خطة ويلمّّّ قابلها ** لمثـلها خلق المهرية القود
وعندها لذّ طعمَ الموت شاربُه ** إن المنـية عند الذل قـنـديد".
ولهذا... وليس إلا لهذا، نرى المتنبي لأول مرة يعترف بطريقة أو بأخرى ببشريته، فيوقف نفسه أمام مرآة ذاته يحاسبها على غير العادة وهو ما يضاف إلى قائمة غرائبه:
" أريك الرضى لو أخفت النفس خافيا ** وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا"
لا شك أن الدارس لرحلة المتنبي الشعرية يلفت انتباهه أمر يبدو غريبا شاذا عن القاعدة، حين أفرد لكافور قافية الياء دون سواه ممن عرفهم المتنبي أجمعين، وهو الحرف الأخير في الأبجدية العربية.
فقد خصه بمدحية يتيمة شفعها بهجائية هي الأخرى يتيمة.فهل هذا محض صدفة أم إنه عمل غائيّ عن قصد وإضمار؟
قد تكون الصدفة وحدها هي التي لعبت دورا في هذا الأمر.ولكن هل تتكرر الصدفة مرتين ومع نفس المتلقي. فقد تكون القصيدة الأولى ولّدها الحال الشعري، حين كان أبو الطيب مأخوذا بهاجس المال والمجد، مزهوا بفكرة العظمة والتميز. وقد يكون تهيأ له أن حلمه ينتظره عند كافور فأفرده بقافية لم تكن لغيره، إيغالا في أن يغيظ سيف الدولة الحبيب المغضوب منه وعليه:
" حببتك قلبي قبل حبك من نأى ** وقد كان غدارا فكن أنت وافيا
وأعلم أن البين يشكيك بعده ** فلست فؤادي إن رأيتك شاكيا "
وقد يكون أراد أن يستفز بأقصى أبعاد الاستفزاز حفيظة الأستاذ كافور، لأنه محط الأمل في مرحلة متقدمة من عمر المتنبي بدأ معها يشعر بالإحباط وبأن الحلم ما يزال سرابا ووهما، وبأن نقطة البداية لم تنطلق به بعدُ:
" وغير كثير أن يزورك راجل ** فيرجع ملكا للعراقية واليا "
هي المغامرة فعلا أن يطلب المتنبي من كافور ما طلب من دون تلكؤ أو مواربة أو التواء، وكأنه في مرحلة قرر فيها أن لا انتظار ولا مضيعة للوقت فالعمر مثل ما يهب اللئام وقد فقد منه أكثر مما بقي. إنها " لعبة الكل في الكل" والخسارة استوت مع الربح ما دام حبيب النفس مفقودا:
"إذا أردت كميت اللون صافية ** وجدتها وحبيب النفس مفقود"
إلا أن أبا الطيب يكتشف ـ من منظوره طبعا ـ أنه خسر كل شيء من دون أن يربح
شيئا.( يذكر في هذا السياق أن الأستاذ كافور قد أكرم وفادة المتنبي بما لم يكرم به شاعرا من قبل: كاتبه بالمسير إليه وأخلى له دارا وخلع عليه وحمل إليه آلافا من الدراهم...)
**
فكيف العمل وكيف يكفر عن أكبر خطيئة ارتكبها في حق نفسه وحق كل الذين يتربصون به ويرصدون كل أخطائه ويعدون كل معايـبه؟ بل كيف سيُسكِـت المتنبي لسانَ التاريخ الذي سجل عنه وسيظل يحدّث بأنه فعل مع كافور ما لم يفعله مع أقرب أصفياء قلبه ـ سيف الدولة ـ حين أفرده بقافية هي يتيمة دهرها، حتى كأنها الدرة الفريدة في العقد؟
فكان لزاما على المتنبي أن ينسخ المتنبي.. أن يفسخ المتنبي.. أن يمسخ المتنبي.. أن يمسح المتنبي. وليس من سبيل إلا أن يقلب ذات السلاح سلاحا مضادا، لعل التاريخ يحفظ ذلك جيدا.
وهذا ما قد يفسر جليا سر اختيار أبي الطيب لنفس القافية والروي والبحر ليتوجه بالخطاب إلى نفس الشخص، لكن بلسان الهجاء هذه المرة في قصيدة من أقسى ما صبّ فيها الرجل نقمته بلا رحمة :
" أمينا وإخلافا وغدرا وخسة ** وجبنا أشخصا لحت لي أم مخازيا؟"
ففي بيت واحد يحشر مجموعة من المترادفات مجمعة، مع تفريعات معنوية يثري بعضها بعضا ويتمّمُه ويقويه. فالإخلاف دليل على المين وأحد أنواعه وهو تطبيق عملي بعدم الإنجاز. والغدر تصرف فعلي يؤكد المين والإخلاف معا. والخسة هي النتيجة الطبيعية لكل ما سبق. وكلها مثال صارخ لتأكيد الجبن الذي هو نقيض الشجاعة بما هي مروءة ورجولة وهي صفة لا تتأتَّى إلا لرجل عربي حرّ. وأين هو من كافور العبد ؟
كل هذا يضاف إلى رائحة النتانة المنبعثة من الأصوات ذاتها، انطلاقا من:
الحروف الخيشومية (الميم والنون):
مَــــــــــيْــــنَـنْ /إخلافـنْ /غـدرنْ / خسّــتــنْ / جبـنـــــنْ / أمْ ...
وصولا إلى الحروف الحلقية المعبرة عن الاختناق والألم كـالخاء والهمزة :
أمـيـنا / أمْ / إخـــــــلافا /خــــــسة/ مـخــــــــازيا/
وصولا إلى حروف الحرقة والغرغرة كالحاء والغـين : لــحـــت /غـــــدرا.
إنها حالة من الارتباك مع الذات يعيشها أبو الطيب، وحالة من الشعور بالتقزز إلى حد أنه صار يتأفف من نفسه ويحاسبها أعسر حساب على ما أجْـرمَت في حق صاحبها أو لعلها هي التي تشكو همها على ما فعله صاحبها حين هوى بها إلى الدرك الأسفل من الخنوع والاستكانة.
ولكن كل هذا ليس إلا نتيجة لعشق المغامرة في رحلة المجد والخلود، ليس يثـنيه عن الهدف شيء، حتى لو كانت ضريبة الصعود أن ينزل، وضريبة العزة أن يذل.
ألم يسبقه إلى ذلك أبو العتاهية حين قال:
" أرى لك نفسا تبتغي أن تعزها ** ولست تعزّ النفس حتى تذلها".
ولعل هذا ما يبرر حالة الإحباط القاتلة التي ظلت تلازم المتنبي في أغلب مراحل حياته، ولعله حين مر بـ" تجربة الذل "، استطاع أن يصل إلى نتيجة مفادها أنّ الحياة لن تكون أقـلّ من العدم:
" ذلّ من يغبط الذليل بعيش ** رب عيش أخف منه الحمام."
وهكذا انعكس الأذى النفسي على سلوك المتنبي غيْر تارك مجالا للمصالحة مع الدنيا ومع الناس.
حتى المرأة الحبيبة السرمدية الملازمة للشعراء فقدت سلطانها في شعر المتنبي أو كادت، لما صارت تمثله من عائق، وكذلك المدام ومجالس القصف واللهو. فالطريق هي غير طريق العاديين:
" وغير فؤادي للغواني رمية ** وغير بناني للزجاج ركاب."
وفي هذا من المجاهدة والحرمان ما هو من مقتضيات حلاوة المنشود:
"تريدين لقيان المعالي رخيصة ** ولا بد دون الشهد من إبر النحل".
إن المغامرة هي القدرة التي بها استطاع المتنبي أن يكون وأن يخلد، فكانت القوة. قوة من أراد ففعل وفرض مذهبا في الحياة والفعل. ولكنه بسبب هذه المغامرة عانى واشتكى، فكان الضعف. ضعف من أراد فعجز واضطر إلى الاستنجاد بمساعدات خارجية، معترفا بذلك أنه مفعول به فكان أن خرج فاعلا في الظاهر فكان مفعولا به في الباطن.
بذلك المزيج من الــ"أنا" المهيمنة فيه والـ"هو" المفروضة عليه بحكم أنه ليس واحدا قدم لنا المتنبي أنموذجا من الإنسان بكل خصائصه كما قدم لنا أنموذجا من التفكير الشرقي المتقلب عن وعي مرة أو عن غفلة مرة أخرى. هو تفكير الرجل العربي الذي يشعر في أعماقه بالعجز فيعلن القدرة ويرى الهوان في الاعتراف بضعفه، ولكنه يصطدم فعلا بالواقع فلا يستطيع درْأه فيشتكي في لغة الثائر ولهجة الغالب فيحار المحلل لهذا الضرب من النفسيات، ما لم يكن دارسا لهذا الصنف من الإنسان المتنبيِّ الذي لا يزال يحيا من بعض النواحي بأعماق العجز العربي الكامن فينا والمغلف بهالة النصر والفخار والمجد، كأكذوبة حلوة طالما استعذبناها.
فهل أبو الطيب هو الذي قـتَـلَـنا، فصرنا عاجزين بالفعل وهو الحي الكامن فينا بالقوة ؟
أم نحن من قـتـلْـنا أبا الطيب فصار مجرد مجد ضائع نحلم باسترجاعه ونتباكى على أطلاله، فضاع الماضي والحاضر والآتي؟
وأيّـا كان الشأن، فإننا في كل الأحوال نحتاج إلى شحنة من إباء المتنبي تدفعنا إلى الحركة والمغامرة حتى نستطيع أن نكون.
"وإني إذا باشرتُ أمرا أريدُهُ ** تدانت أقاصيه وهان أشدُّهُ."
صلاح داود.
تونس