أتى وجاء
أتى : بالقصر تفيد معاني المرور الخفيف والمفاجأة والمباغتة خلافا لفعل المجيء الذي يفيد العلم والانتظار والترقب والثقل .
وما كان ثقيلا على يوسف إحضار أخيه إليه ، ولم يسبق إلى النبي الأمي قبل القرآن علم بحديث موسى وحديث فرعون والجنود ولا بحديث ضيف إبراهيم ولا بحديث الغاشية ، وخف على قوم لوط ما يأتون من الفاحشة بالذكران عامة وبالرجال خاصة ، وخف على مريم قدومها على قومها وهي تحمل عيسى إذ قد علمت بالوحي وبتكليم عيسى إياها ما انتفى به الثقل وخشية العار ﴿ فأتت به قومها تحمله ﴾ ، وكان سليمان وجنوده قد أتوا على وادي النمل ، والعرب الذين عاصروا نزول القرآن قد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء ، وبنو إسرائيل بعد تجاوزهم البحر أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ، وأتى على كل إنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ، وكانت وجهة سليمان وجنوده غير وادي النمل فمروا عليه مرورا خفيفا وكانت وجهة العرب يومئذ إلى الشام في رحلة الصيف فمروا بديار قوم لوط مرورا خفيفا كمرور بني إسرائيل على عبدة الأصنام .
وخف على المكذبين الأولين العذاب في الدنيا الذي أنذرهم به نوح وهود وصالح وسائر الرسل بالآيات فسألوهم أن يأتوهم بالعذاب إن كانوا صادقين وكذلك خلفهم من مشركي قريش قالوا ﴿ اللهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ الأنفال
وخفّت على المشركين الذين عاصروا نزول القرآن الآيات الخارقة للتخويف والقضاء فحرصوا على أن تأتيهم الملائكة وأن يأتيهم بآية كما أرسل الأولون ، وسيأتي الناس أفواجا إلى المحشر يوم ينفخ في الصور فجأة فيأتي بهم الله أين ما كانوا .
وما كان للذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين لينفكّوا عن ضلالهم ﴿ حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة ﴾ وستأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس ، وسيُنْقَص فجأة من أطراف الأرض البعيدة عن أم القرى ، وسيأتي عذاب الله بغتة أي بياتا والناس نائمون أو جهرة ضحى وهم يلعبون ، وفجأة سيأتي الله بالفتح وبقوم آخرين ﴿ يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ﴾ المائدة .
أما المجيء وما يفيد من العلم والانتظار والترقب والثقل فلا يخفى حين يجيء أحدنا من الغائط لتفريغ حمله الثقيل ، وحين يجيء ركابَ البحر الريحُ العاصفُ ويجيئهم الموج من كل مكان ، وحين يجيء الأجل المرتقب الثقيل ، وفي مجيء الرسل قومهم بما لا تهوى أنفسهم من البينات فكَذَّبوهم ، ولقد ثقُل على لوط مجيءُ قومه يستبشرون يهرعون إليه ليفضحوه في ضيفه ، وثقلت على سليمان هدايا ملكة سبأ وثقل على القرية مجيء رجل من أقصى المدينة يسعى لنصرة الرسولين ، وثقل على مريم المخاض فأجاءها إلى جذع النخلة لتستمسك به ، وثقل مجيء الأمر بإغراق قوم نوح وبالريح العقيم وبالصيحة والحاصب ، ولا تسل عن ترقب فرعون مجيء السحرة وثقل الموقف واحتمال أن يغلبهم موسى ، ولا عن ثقل النذر التي جاءته ، ولا عن ما أحسّ به يعقوب من الترقب الثقيل مجيءَ البشير يحمل قميص يوسف ، وثقلت البشرى بالغلام العليم إسحاق على إبراهيم وزوجته إذ قد بلغا من الكبر مبلغا ، ولقد ثقل على أهل الكتاب أن ينزل القرآن على النبي العربي الأمي صلى اله عليه وسلم رغم ترقبهم كتابا منزلا من عند الله واستفتاحهم به من قبل ، وثقل على النبي الأمي صلى الله عليه وسلم حتى عبس وتولى أن جاءه الأعمى وهو يدعو زعماء قريش إلى الإيمان ، وثقل على المشركين الذين عاصروا نزول القرآن مجيء الرسول بالحق أي بالقرآن فسألوه أن يأتيهم بقرآن غيره أو يبدّله.
وسيثقل على الناس مجيء الحق الذي سيزهق به الباطل الموفور الممكن اليوم ، ويوم يجيء النصر والفتح من الله .
ولعل أثقل ما يترقب يوم يجيء ربنا والملك صفا صفا فيقوم الناس لرب العالمين ويُجَاء بجهنم فيتمنى كل أن لو قدّم لحياته .
وعجبي من أمة القرآن كيف لا تتهيأ لقول ثقيل فصل وما هو بالهزل ومنه قوله :
ـ ﴿ ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ﴾ يونس
ـ ﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ﴾ الأنعام
ـ ﴿ إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ﴾ يونس
ـ ﴿ ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر ﴾ القمر
ولقد اجتمع الإتيان والمجيء في القرآن كما في قوله :
ـ ﴿ قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ﴾ الأعراف ، يعني خف عليهم الإيذاء من قبل لفرط قنوطهم من انتهاء المحنة ، وثقل عليهم الإيذاء بعد مجيء موسى لاستبطاء النصر وترقبه .
الأستاذ الحسن محمد ماديك
http://murtaqa.net/viewtopic.php?f=2...409aa875#p1176