كان هنا وطن تتفتح فيه زهور الياسمين، ويتنفس الصبح فتنبعث معه رائحة العشب الندي، وكنت صغيرة أركض بين طرقاته، أتنقل كالفراشة في غوطته بين الورد الجوري، وزهر القرنفل بألوانه. وأشجار التوت وزهور أشجار التين، والتفاح والدراق والمشمش بأنواعه. أشتم رائحة الياسمين الدمشقي، وأتلمس في رفق شقائق النعمان وهي تلون العشب الأخضر بلون أحمر بهي. وأجري خلف "كسار الزبادي" نبات ثلجي اللون خفيف الوزن رشيق الحركة.
لوحة صنعها الخلّاق وأبدع، ما أجمل صنع الخلّاق. أغمض عينيك وسر واستمع لعذوبة صوت طيور الصباح ممزوجة برائحة القهوة في شوارع تضج بالحيوية، وأحاديث الناس اليومية عن السياسة المغمسة في رغيف الخبز وبرميل المازوت، وإسطوانة الغاز، علمت حينها أن كل أسباب المعيشة ترتبط في النهاية بدهاليز السياسة، وأن الحديث في السياسة محرم، وذنب لا يجب اقترافه. فاقترفه أبناء وطني بعد سنين. فتبدلت الأرض غير الأرض أن خاضوا جميعهم بالسياسة.
الآن كل من يتعاقب عليه الليل والنهار في وطني يقول: لو رأيته رأي العين لما عرفته، ليس من رأى كمن سمع!
ألا أعرفك! وقد خبرت شوارعك وحواريك، وذقت طعم ماء الفيجة فيك وبقين ودريكيش والعاصي والفرات؟ ألا أعرف قاسيون وبلودان وغابات كسب؟.
تلك مدينتي ألا أعرفها؟ ألا أعرف طعم التوت من شجرها، والخضار من أرضها؟ ألا أعرف عذوبة ينابيعها ونسبة الملوحة في ماء بحرها؟.
قالوا رائحة الدم غلبت رائحة الياسمين في شوارعها!
وطعم الموت غلب طعم الحياة التي كان يتفجر في أرجائها، واُقتلعت الأشجار كما اُقتلعت حناجر الأحرار والأطفال.
وغاب خرير مياه الأنهار خلف صوت الرصاص. وتقطع تغريد العصافير بين تحليق مروحية هنا وطائرة تقصف هناك.
أسواق الحميدية العتيقة والحريقة ومدحت باشا والبزورية، بدّلت بضاعتها أو تكاد فلا الأرابيسك ولا الصدف الشرقي ولا الأغباني مطلب الناس، كفوا عن الشراء وزاد الطلب على الأكفان.
وأفران الخبز ومقاهي الفكر يقابلها القناصة من كل جانب، يتربصون بمرتاديها
موتاً. فلكل أناس مأكلهم. فإن تضور بعضهم جوعاً ذهبوا بأفكارهم، فإما يقتلون طلباً للعيش، وإما يقتلون طلباً لحرية الكلمة والفكر. "فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا"
سورة النساء 141.
أبكيك يا وطن تموت لتولد من جديد، فكم طالت ساعات المخاض بك حتى يئس من يئس، وبقي على الأمل من بقي. يرددون قول الله تعالى:"حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِين
http://sakherat.com/%D8%B3%D8%A7%D8%...D9%86/364.html