الحضارة .. الثقافة .. العولمة .. الـدين (الحلقة الأولى)
مصطفى إنشاصي
هذا البحث تم إعداده عام 2006 وتم نشر مختصر له في مجلة (شئون العصر،
الحادية عشرة، الرابع والعشرون، يناير ـ مارس 2007)، وهي مجلة محكمة تصدر
عن المركز اليمني للدراسات الإستراتيجية، وهذا الرابط
http://www.ycfss.com/images/stories/pdf/time/24.pdf
تأخذ المفاهيم والمصطلحات حيزاً كبيراً في صراع الأمة مع الآخر اليهودي-
الغربي، وقد بات ما يُعرف باسم "معركة المفاهيم والمصطلحات" يشكل جزءً
مهماً من معركة الآخر معنا، الذي باتت أهدافه وغاياته في وطننا واضحة
المعالم، كما أنه لم يعد يُخفي نواياه في استهداف أغلى وأثمن ما تملك
الأمة، عقيدتها ودينها وقيمها ومكونات وجودها الأخرى. أضف إلى ذلك أن
المتأثرين بالفكر الغربي أو المتبنين للنهج الغربي في جميع فروع الفكر
والآداب والعلوم الاجتماعية والإنسانية من أبناء وطننا بعد مرور حوالي
قرنين عن بدء حركة الترجمة للإنتاج الفكري الغربي في وطننا، مازال السواد
الأعظم منهم لم يعيد النظر في كثير من المصطلحات والمفاهيم التي تمت
ترجمتها في مرحلة ما ترجمة خاطئة، وعلى الرغم من أنها أحدثت ومازالت
تُحدث في الأوساط العلمية والأكاديمية والفكرية وعلى صعيد الأمة والفرد
اختلاف واختلال في حقيقة تلك المفاهيم والتعاطي معها، ويحاول إعادة ترجمة
تلك المصطلحات الغربية آخذاً في الاعتبار أن لكل مصطلح في بيئته اللغوية
والتاريخية في مجتمع ما معناه ودلالته ورمزيته التي تختلف عنها في لغة
ومجتمع آخر.
كما نلاحظ أنه في السنوات الأخيرة وخاصة بعد انهيار وتفكك الاتحاد
السوفيتي كدولة عظمى، وبعد انتهاء حرب الخليج الثانية عام 1990، وانطلاق
ثورة الاتصالات العالمية وتحويل العالم إلى قرية صغيرة، كما يحلو للبعض
أن يردد ذلك عندما يريد أن يبرر للهزيمة النفسية والفكرية أمام الغرب
التي تعمقت في نفسه، ولاندفاعه أكثر مما مضى في التخلي عن مكونات هويته
الثقافية والوطنية، والتعلق بالحبال (الأطروحات والأفكار الغربية)
الذائبة في عصر العولمة وسيادة القطبية الواحدة، نلاحظ أن البعض لم يَعُد
يتخفى خلف أقنعة تُجمل كلماته وتُخفي حقيقة سمومه وسهامه التي يوجهها إلى
ظهر أمته وعقيدتها، ولكنهم شهروا أقلامهم سيوف ماحقة دون خجل أو حياء،
وكشفوا عن حقيقة وجوههم وتفاخروا بعلاقاتهم وارتباطاتهم الخارجية وتباهوا
بها، وأصبحوا يدعون ويمارسون علانية سياساتهم الهدامة والمدمرة لكل ما
تبقَ في الأمة ومجتمعاتها من عوامل قوة وتماسك ومقاومة وممانعة.
كما أنه منذ بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي ازدادت أهمية
المصطلحات والمفاهيم في معركة الآخر اليهودي-الغربي ضد الأمة والوطن،
مستفيداً مما أحدثته ثورة الاتصالات من قدرة على التأثير على عقول وأفكار
وتوجهات الجمهور المتابع للأحداث العالمية، وغدت المصطلحات وخاصة ذات
العلاقة بأبعاد الصراع بين الأمة والغرب اليهودي-النصراني تشكل خطراً
أكبر مما سبق من عقود الصراع الطويلة على عقول وتصورات وتطلعات وطموحات
أبنائنا والأجيال القادمة، وكثير منها يستهدف عملية مسح للدماغ العربي
والمسلم من أي نظرة عداء تجاه الغرب اليهودي-النصراني، وأقل أهدافه أن
يحدث بلبلة وتشويه لذلك العقل حول نفس القضية والمسألة الواحدة، وأن يشق
الصف والإجماع بين أبناء الأمة والوطن الواحد حول أبسط القضايا، فما
بالنا بأعظمها والتي تتعلق بالحقوق الدينية والتاريخية للأمة في وطنها
نفسه؟! وقد بدأ ذلك التمزق الذي حل بالأمة بعد تلك الهزيمة النفسية التي
أصابت الكثير من مفكريها ومثقفيها وقادتها السياسيين جلياً؛ حول التفريط
في حقوقها الدينية والقومية والوطنية في صراعها مع الآخر، وتلبس معنى
ومفهوم بعض المصطلحات التي تستخدم للتعبير عن أبعاد الصراع بين الأمة
وأعدائها على الأجيال المعاصرة كما اختلفت حوله الأجيال السابقة.
ففي العقدين الأخيرين اشتدت الهجمة اليهودية-الغربية على الأمة والوطن
وأسفرت عن بشاعة وجهها وأهدافها وغاياتها، وقد اتخذت طابعاً جديداً
قديماً إلى جانب شموليتها التي بدأت مع الحملة الفرنسية على الشرق
الإسلامي عام 1798م، فقد عادت الهجمة إلى أُسلوبها القديم الذي هو العنصر
الرئيس في الثقافة الغربية، ألا وهو: الاحتلال واستخدام القوة العسكرية
ضد الآخر لفرض نظمها ومناهجها وقيمها عليه بالإكراه؛ ومواصلة الهيمنة
والنهب لثروات الشعوب والأمم المستضعفة، واعتبار كل شكل من أشكال
المقاومة والممانعة ضدها (إرهاباً)! كما اشتدت صور الإساءة للإسلام ونبيه
محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بصور أسوأ مما درجت عليه في الماضي،
وعلى جميع المستويات والصعُد في الغرب، بدء من رجل الدين إلى السياسي
والمفكر والفنان ... إلخ, مدرجين ذلك تحت صور متعددة من الوثنية الغربية
الحديثة والمعاصرة، وعلى رأسها: وثنية حرية التعبير عن الرأي. وقد تعددت
القراءات لأبعاد الصراع الناشئ عن تلك الهجمة ومحاولات الغرب مسخ شخصية
الأمة وهويتها الثقافية التي تميزها عن غيرها من الأمم، وتحافظ على
وجودها كأمة بين الأمم وتزودها بالدفعة النفسية والمعنوية والشعورية لرفض
محاولات الغرب اليهودي-الصليبي السيطرة والهيمنة عليها وعلى مقدراتها
وإذلالها وقهرها؛ وذلك من خلال محاولاته استغلال الحالة النفسية
والمعنوية المهزومة والمنهارة من بعض أبناء الأمة، من الساسة والمفكرين
والمثقفين وأصحاب الرأي والنفوذ من الاقتصاديين وأصحاب رؤوس الأموال
الذين لم يعد للمال عندهم وطن؛ وفرض نظمه ومناهجه وقيمه وأخلاقياته
وثقافته بصورة عامة على الأمة تحت مسميات مختلفة، وهو الذي فشل وعجز عن
ذلك يوم أن كانت جحافله العسكرية تجثم على أرض الأمة والوطن في احتلال
غاشم لعدة قرون.
ذلك يدعونا بل يُجب علينا الاهتمام بهذا الحقل في معركتنا وصراعنا مع
الآخر، ويفرض علينا إعادة النظر في كثير من المصطلحات والمفاهيم التي
نتداولها على ألسنتنا وأقلامنا يومياً وتصحيحها، لأهمية تصحيح مفهوم
ومسار الصراع المحتدم اليوم بأشد أشكاله، الذي لن يَقنع فيه عدو الأمة
والوطن إلا بالقضاء على جميع مقومات وجودنا كأمة تملك مشروعاً نهضوياً
تحررياً حضارياً قادراً ليس على مواجهة وإفشال مشروع الآخر اليهودي-
الغربي فقط؛ ولكنه قادر على احتوائه واستيعابه وهزيمته إذا ما تجمعت قوى
الأمة وتوحدت ووعى كلٌ دوره في معركة المصير التي نخوض غمارها اليوم.
وقد تعددت القراءات لأبعاد تلك الهجمة؛ فمن قارئ لها على أنها صراع ديني،
وآخر يراها أنها صراعاً ثقافياً، وثالث على أنها صراع حضاري، ورابع يجمع
فيها البعد الديني والحضاري، وهناك من يفرق بين المصطلحات الثلاثة؛ وهناك
من يراها مترادفات عربية لمعنى ومدلول كلمة غربية واحد هي (Culture). في
هذه الدراسة سنحاول التعرف على معاني الكلمات الثلاثة ومدلولاتها لنحدد
موقفنا من حقيقة الهجمة وأبعاد الصراع.
وأعترف بقصور علمي ومحدوديته في موضوع هذه الدراسة، وأعترف أنني أطرق
باباً كان يجب أن أدعه لأهل الاختصاص، إلا أنها محاولة إلقاء حجر في
الماء الراكدة حول مثل هذه المفاهيم عله يحرك أهل الاختصاص ومن لديهم
القدرة على تناول تلك المصطلحات وإعادة النظر فيها، وإعادة تحديد مفاهيم
ومدلولات دقيقة لها من وجهة النظر الإسلامية وفي اللغة العربية في ضوء
المتغيرات التي حدثت منذ أول ترجمة لها إلى اليوم. إنها محاولة منا
لإعادة قراءة معنى ومدلول ورمزية تلك الكلمات وما يقابلها في اللغة
العربية من أجل تحديد معانيها بدقة قدر المستطاع.
قصة كتابة هذا البحث
في ثمانينات القرن الماضي كنا كإسلاميين وخاصة في فلسطين نطرح فكرة
"فلسطين القضية المركزية للأمة" وأن صراعنا مع الآخر اليهودي-الغربي هو
صراع "ديني حضاري" دون أن يكون لدينا كتب متكاملة تُعبر عن رؤيتنا وكان
الأمر مقتصراً على بعض المقالات أو الأبحاث المحدودة، وفي يوم استفزتني
مقالة منقولة في مجلة الحائط في مكان كنت متواجداً فيه لا تختلف عن نهج
الكتاب في النقل تلك الفترة لأنه لم يكن أيامها نعيش في عصر الكمبيوتر
ولنقول لا تزيد عن النسخ واللصق، ولكنها منقولة عن كتاب من الكتب التي
تجد في الصفحة الواحدة تواريخ متناقضة وخاطئة لأننا إلى اليوم مازلنا في
حاجة إلى إعادة التدقيق في جُل ما سبق كتابته سواء قديماً أو حديثاً ولكن
نجوم الفكر لدينا لا يهتمون بذلك إلا ما رحم ربي، ولحظتها عُدت لغرفتي
وكتبت نفس مضمون تلك المقالة ولكن بتواريخ صحيحة وبدون إذن المسئول عن
تلك المجلة أو لجنتها قمت بلصق الورقة على الزجاج فوق المقالة تماماً،
وقد قامت قيامة المعنيين ولم تقعد ولم أبالي بهم، وقد قررت بعدها أن
أكتب بحث مختصر عن تاريخ فلسطين أصحح فيه بعض التواريخ والمعلومات
التوراتية الخاطئة المتناقضة، وفعلاً بدأت في الكتابة ولكني وجدت نفسي
أتوسع على قلة المراجع إلى أن وضعت كتاب في صياغته المبدئية يتناول أبعاد
الصراع مع الغرب والعدو الصهيوني، جمعت فيه البعد التاريخي لأبناء وطننا
من القوميين والوطنيين، والبعد الديني لنا كإسلاميين، والبعد الحضاري إن
صحت التسمية لأن مراحل الصراع بين الإسلام والغرب هي نتاج صراع أتباع
دينين والحضارة مصطلح حديث لم يكن معروفاً سابقاً، وقد أخذ الصراع أشكال
متعددة ركزت على شقين منها، هما: التسلسل التاريخي للصراع العسكري وبعض
الأشكال الفكرية والاقتصادية التي نتجت عنه، والثاني أهمية فلسطين
وانتزاعها من جسد الأمة والوطن وزرع إسفين غريب فيها يقسمها ويمزقها
ويضعفها ...إلخ مما نحن عليه الأمة اليوم، وقد أطلقت عليه "البعد
الحضاري"، وطبعاً الكتاب إلى اليوم لم يرى النور وإن كنت أنشر أجزاء منه
من فترة لأخرى مستكملاً لها وربطها بالواقع.
وفي عام 2006 بعد أن فازت حركة حماس في الانتخابات التشريعية وقد كنت
أتعاون معهم وقتها إعلامياً وكما سبق أن قلت: أني نصحت لهم وحذرت وكتبت
أبحاثاً موثقة فيما نصحت وحذرت منه قرأها بعضهم قبل نشرها في مجلة مُحكمة
باليمن ونشرتها من فترة قبل نشر سلسلة حلقات محاضرة لي عن العلمانية،
حذرت فيها مما آل إليه حالنا سواء ما سبق أن أعلنه الأخ خالد مشعل وبعض
قيادات حماس وأكد عليه خالد مشعل في بيان أو المؤتمر الذي أعلن فيه عن
عدم ترشيح نفسه إلى رئاسة جديدة للمكتب السياسي لحركة حماس: القبول بدولة
في الضفة وغزة وعاصمتها القدس، وانتهاج نهج المقاومة السلمية بدون عنف!
وبحث آخر واقع الانقسام والتشظي والتمزق الذي يعيشه الوطن والجماهير في
الأراضي المحتلة خير دليل على ما حذرت منه فيه!.
بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006 فكرت في نشر "البُعد
الحضاري" الذي سبق أن أعددته في ذلك الكتاب على قسمين كل قسم منفصل عن
الآخر لأن المجلة فصلية، ألفت انتباه الأمة إلى أن فلسطين قضية الأمة وأن
المقاومة وأهل فلسطين هم طليعة الأمة، وعلى الأمة أن تأخذ دورها ولا تترك
أهل فلسطين يقودون المواجهة وجدهم، لأني كنت على يقين أن حماس ستنشغل في
ما حذرت منه من شراك صهيونية وغير صهيونية نُصبت للمقاومة، وسيتم ترويضها
على مدار الأيام كما سبق وأن روضوا حركة فتح بعد دخولها لمنظمة التحرير
الفلسطينية، إلا أني رأيت قبل نشر ذلك البُعد أن أقدم ببحث صغير موجز
أوضح فيه معاني أهم المصطلحات التي سيتم استخدامها في البحث: الحضارة،
الثقافة، الدين. إضافة إلى أننا نعيش اليوم في عصر الدعوة للعولمة التي
هي ذروة الشر في الحضارة (الثقافة) الغربية لم تكن مطروحة في ثمانينات
القرن الماضي بهذه القوة، ولا بد من تحديد معناها وهدفها وخطر الإسلام
عليها، فضلاً عن أنها عدو مشترك لنا كمسلمين وللمستضعفين في الغرب من
الغربيين! نعم؛ لأن الغربيين مستهدفين منها مثلنا فالغرب بعد أن قضى على
الطبقة المتوسطة في وطننا التي كانت هي التي تقود عمليات التحول والتغيير
وجعلنا طبقتين أغنياء غالباً مصالحهم مرتبطة بالغرب وفقراء، وأضاف بدل
الطبقة المتوسطة طبقة جديدة في مجتمعاتنا هي طبقة ما تحت خط الفقر، فإنه
يسعى إلى جانب عولمة العالم من خلال سيادة القيم السلعية المادية الغربية
إلى القضاء على الطبقة المتوسطة في الغرب وذلك ما أدركه بعض الغربيين
ممَنْ ينظمون المظاهرات والاحتجاجات ضد مؤتمرات العولمة في الغرب وآخرها
احتلال وول ستريت في نيويورك، ولوا أحسنا التنسيق بيننا وبينهم قد نستطيع
فعل شيء قريب ضد طغيان العولمة المادية التي هي ذروة الشر في الثقافة
الغربية!.
فكان هذا البحث الذي قارب المائة ورقة ونشرت مختصر له وسأنشره على حلقات
عله إضافة إلى تصحيحه لمعاني مصطلحات نستعملها يومياً تُرجمت ترجمة
خاطئة، نقدم تفسير مقنع للأجيال القديمة والحديثة لعمليات الحرث المتنوعة
التي يقوم بها الغرب على جميع الأصعدة والمستويات:
* حرث العقول لمسحها وغرس أفكاره فيها ليضمن تبعيتها المطلقة أو شبه
المطلقة له لتمكنه من استعباد شعوبها ونهب ثرواتها كما استعبد عقولهم!
* حرث الأرض للبحث عن ثرواتها وخيراتها لنهبها وسرقتها وتكديسها في خزائن
القلة من أغنيائه!
* حرث الأرض بأسلحته المتنوعة لتدمير كل شيء الإنسان والزرع
والجماد ...إلخ!
* حرث الغرب لكل شيء باحثاً عن إشباع نهمه للمال والمادة واستعباد الشعوب
وإذلالها!
فالكثيرين لا يعلمون أو يغفلون عن أن مصدر كلمة حضارة أو ثقافة في الغرب
هو (Cultur) أي حرث الأرض وزراعتها! وذلك ما سنلقي عليه مزيداً من الضوء
في حلقات هذا البحث.