لعبة القدر
لم تعبس الأيام بوجه أحدٍ أكثر منه ولم تعبث الأقدار بمصير أحدٍ أكثر منه فلقد التقى الحرمان منذ نعومة أظفاره إلى أن أصبح رجلاً
يجاوز الخمسين من العمر.
الشقاء قد نال منه الكثير وسلب عافيته فإن عينيه الغائرتين الذابلتين تشهدان بذلك فقد هللهما السواد وخبت شعلة البريق منهما من كثرة الإعياء والمرض.
كان يجلس أمين على صخرته المعهودة وأمواج البحر المتلاطمة تذّكره بأيام الطفولة الماضية, فكم من الساعات جلس بجوار والده يتأمل البحر, وكم من الأيام تمنى أن تحظى شبكة والده بصيدٍ وفير يؤمن له ولإخوته المترقبين بعيونٍ متلهفة وأفواه جائعة طعاماً يسّد رمقهم ويُصمت نداء الجوع الذي لا يعرف الاحتمال ولا الصبر.
كانت حياتهم زاخرةً بأيام العوز والحاجة, فالجوع قد حفر احرفه على أجسادهم الهزيلة ورسم آ ثاره على وجوههم النحيلة .
إنها حياةٌ قاسيةٌ تلك التي عاشها أمين وإخوته ولكّنه لم يكن مستسلماً أبداوكان قانعاً بمصيره راضياً بحياته واثقاً كلّ الثقة من أن يوماً لا بدّ سيحمل له السعادة والراحة وإن تأخر.
مرّت الأيام ومات والده مخلفاً وراءه سبعة أطفالٍ وأم مريضة لوحوش الفقر والجوع, فاضطرت أمه للعمل في المنازل لإعالتهم , ودام هذا الحال عشر سنين لم يتبدل فيها شيء سوى أن الأطفال الذين كانوا صغاراً قد كبروا واستطاعوا بصعوبةٍ أن يرفعوا ذاك الحمل الثقيل الذي ألقي على عاتق والدتهم التي تعبت من الخدمة في البيوت, فساءت صحتها وبدأ صراعها مع المرض الذي انتصر عليها اخيراً.
استيقظ أمين من ذكرياته وألقى شبكته في البحر وبدأ ينتظر كعادته كلّ يوم ولمّا طال انتظاره عاد شريط الماضي أمام عينيه ثانية .
يا للأيام لقد مضى ربع قرنٍ على وفاة والديه وها هو الآن وحيداً مع زوجته لا ولد له ولا أخ, فطفله الوحيد الذي وضعته زوجته ولد عليلاً ولم يرَ النور سوى بضع ساعات أما إخوته فكلهم منصرفون لأعمالهم وهمومهم وقلما يراهم.
رغم أن في الذكريات لوعةٌ وحسرة إلا أن أمين قد وجد فيها بعض السلوى التي تنسيه الحزن مما أصابه ويصيبه واليأس الذي يعتريه أحيانا من الانتظار الطويل للفرج الذي طالما انتظر أن يفتح أبوابه من دون جدوى.
وفجاة انقطع حبل الذكرى بنفضةٍ مذعورة ٍمن أمين الذي لا يدري ما الذي جرى.....إنها الشبكة نعم الشبكة لا بد وأن شيئاً ما قد علق بها فهو لا يقوى على رفعها فقد كانت ثقيلة على غير عادتها... ترى ماذا يفعل...؟ إنها تسحبه بقوة..أيتركها تغوص في الماء....؟ لا ..لا يمكن, إنه يحاول رفعها وشدّها بما بقي له من قوةٍ وعزم.... ولكن هل يستطيع.. ..؟ .لا.. وأخيرا لم يجد سوى الصراخ حلاً للخروج من هذا المازق:
-(أيها الشباب ..أيها الرجال..هلموا إلي.. ألا من مساعدة !أرجوكم.)
فهرعت إليه بسرعةٍ مجموعةٌ من الصيادين الشبان لإعانته بعدما سمعوا صراخه ورأوا صراعه مع شبكته فساعدوه على شدّها ورفعها ثم طرحها على الشاطىء.
أما أمين فلم يتمالك نفسه من الفرحة حين رؤيته للسمكة الكبيرة وهي تتخبط داخل الشبكة ناشدة الخلاص فتمتم منفعلاً:
-(السمكة ... المال آه ..آه ما أعظم سعادتي .!.لم أتوقع أن ياتي الخير هكذا فجاة ..شكرا شكرا لله..)
حقاً لقد كانت مفاجأة له فكيف لا وقد لمع الحظ أخيراً في سماء حياته, كيف يصدق ما حصل؟ وقد ظل ثلاثين سنة لا بل أكثر وهو على حالٍ واحدة لا تتغير ولا تتبدل... كان بالكاد يصيد بعض الأسماك القليلة يبيعها في السوق ويكسب منها مبلغاً ضئيلاً يشتري به حاجياتهم الضرورية من الطعام...كم تمنى وهو في هذه اللحظة لو الحياة ما تزال تدبّ في جسد والديه...وكم تمنّى لو يملك جناحين فيطير بهما سريعاً إلى زوجته ليزفّ لها بشارة الهناء التي ستطلق عصافير الفرح والحبور المغردة إيذاناً بانتهاء عهد الحرمان والأحزان.
ما إن أفاق أمين من دهشته وذهوله حتى ذهب مع بعض الرجال إلى السوق لبيع ما فاز به.
عاد أمين إلى بيته ودموعه تسبقه,.ولج عتبة الدار وهو يصيح وينادي:
-(أم عامر...أم عامر..تعاليّ..تعاليّ وانظري...)
أسرعت زوجته وقد فزعت لصراخه ولكنه ما إن رآها حتى ابتدرها قائلاً دون أن يفسح لها مجالاً للكلام:
-(انظري كيس النقود....انظري هذه الدنانير التي تتلامع كوهج الشمس....اسمعي...اسمعي صوتها وهي تضحك بين يديّ ضحكة ً رنانة لم أسمعها في حياتي قط ّ...) كان يتكلم كالذي أصابه مسٌّ من الجنون..يرقص ويدور في الغرفة وكأنه فتىً شاب...لم يأبه لكلمات زوجته وهي تحاول تهدئته.تابع كلامه قائلاً بلا اكتراث لحديثها:
-(سميحة..لقد ابتسم الحظ أخيرا بعد كآبةٍ طويلةٍ...لقد أمطرت السماء بالخير بعد جفافٍ مرير...آه..لقدضحكت الأيام لنا بعد حزنٍ قد خلته أبديّ أتعس أيامنا ودمّر حياتنا....أتصدقين...أتصدقين ما حدث؟)
اضطربت أم عامرمن كلام زوجها ولهجته فهي لا تعرف مدى صحة ما يقوله..هل هو صادقٌ فيما يزعم أم أنه يهذي من شدة تعبه ومرضه ..لشدّ ما تولاها الرعب والخوف عليه فصحته لا تحتمل هذا الانفعال الشديد ولكنّها ما عساها تفعل؟ إنه سعيد ولكنّ السعادة قد تضرّ به فهو مصابٌ في قلبه ومعرضٌ لنوبةٍ قلبيةٍ من حينٍ لآخر وفي أي لحظة انفعالٍ أو حزن....ماذا تفعل ..وأمين قد بدأ يترنّح من الإجهاد والعرق يتصبب من جبهته...إن آهات الالم وأنّاتها قد امتزجت بكلمات الفرح...
أخيراً وقع أمين,وقع صريعاً والفرحة داؤه والبهجة مرضه ,سقط وسقطت النقود من بين يديه حين تهاوى على الأرض فتبعثرت في أرجاء الغرفة,انحنت أم عامر على زوجها المحتضر الذي بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة وغمرته بكلتا ذراعيها وضمته إلى صدرها ذارفة دموعها التي أبت إلا أن تنهمر فوق جسده وتودعه.
مات أمين وترك زوجته وحيدة مع آلام ٍجديدةٍ وذكرياتٍ مريرةٍ بعد أن خلّف لها مالاً كثيراً لا يمكن له ان يعوّضها عن فقدان زوجهاأبداً. –انتهت-