جريمة على المسرح
حيّت جمهورها بانحناءة وابتسامة وقد توهجت وجنتاها بحمرة الخجل
والتواضع واتجهت تختال بردائها الأخضر الحريري الجميل وشعرها
الأسود الطويل لتجلس على كرسيها المعهود.
ما إن لامست يداها أصابع البيانو حتى انسابت الأنغام من بين أناملها
رائعة جميلة كانسياب الجداول في الغابات....... وصفق لها الجمهور طويلا
.....
كان ذلك في 28 تموز عام 2009، وقبل أن تغادر المسرح أطلق مجهول النار
عليها فأرداها قتيلة مضرجة بدمائها وهرب وسط هرج ومرج الجماهير المتدافعة
من باب المسرح خوفا وهلعا، وأسدلت الستارة فورا بانتظار رجال الأمن
وسيارة الإسعاف. وبعد حوالي ربع ساعة هرع رجال الأمن والمسعفون نحو
الضحية ورفعت الستارة، ولدهشة الجميع لم يكن هناك أثر لجثةٍ أو حتى لآثار
دماء، وكأن شيئا لم يكن.......
أخرج المحقق دفتره الصغير وسجل أقوال الشهود ممن كانوا يجلسون في الصفوف
الأمامية وأخذ يتمتم في سره: رصاصتان في جسم البيانو ورصاصتان خرقتا سقف
المسرح ثم أسدلت الستارة واختفت الجثة فمن المؤكد أن القاتل كان
يقصدها بالذات إذ لم يصب أحد غيرها بأذى ...... ثم وضع خطا تحت كلمة
"الستارة" وتساءل :
من ذا الذي أسدل الستارة؟ ولماذا؟ أيعقل أن يكون الحدث فصلا تمثيليا ؟
وإن كان الأمر كذلك فالرصاص كان حقيقيا، وسقوطها على الأرض وهي تنزف أمام
مرأى من الجمهور كان دليلا على إصابتها.
و في اليوم التالي رن جرس الهاتف في غرفة المحقق.
ألو:
تفضل وأوجز
أنا البستاني، لقد وجدنا جثة امرأة ملقاة على أرض الحديقة صباح هذا اليوم.
اذكر العنوان بسرعة، من هو صاحب المنزل؟
سحر الفالح
شهق المحقق لدى سماع الاسم، أغلق السماعة وأبلغ رجاله بالأمر وذهب بأقصى سرعة.
وهناك وجد أن الطبيب الشرعي قد سبقه وجلس يكتب تقريره:
"تمت وفاة الجني عليها مساء يوم الثلاثاء الواقع في 28 تموز برصاصة غادرة
اخترقت القلب".
واستدرك المحقق:
ألم تتوقعوا حضوري! ؟
عندها دخلت صبية وعقبّت قائلة: لقد تأخرت أو بالأحرى لقد تأخر البستاني
في إبلاغك. معذرة.
وما أن نظر إليها حتى انعقد لسانه من الدهشة.
- من أنـــت؟
- أنا سمر شقيقتها التوأم.
- أين الثوب الملطخ بالدماء؟
- لقد أمرت بإحراقه ونثرت الرماد بين ورود الحديقة. لم أعد أحتمل رؤية
دمائها على الثوب المثقوب. كما أن خبر اغتيالها تصدّر الصحف بالخط العريض
وأصبح موتها معلنا.
- فأجابها: ولكن هناك جريمة وتخضع للتحقيق فليس من حقك التصرف بالأثر.
- يكفي أننا فقدناها .
- قلتِ "إننـا" ماذا تعني؟
- أنا وابن أخي سالم.
- أين هو؟
- في كندا.
- متى يأتي؟
- لا أعلم.
- ولكني أريد أن أطرح عليكِ سؤالا. بمن تشكين؟.
- إني لا أعرف شيئا عن حياتها فأنا أقيم في كندا وجئت لأزورها وحدث ما
حدث، فلا أشك في أحد.
ترى هل قتلت بسبب الغيرة أم الانتقام أو بدافع السرقة؟
هذه هي الأسئلة الروتينية الأولى التي يسألها رجال الأمن عادة لتضييق
حلقة الاتهام والتركيز على أكثر الناس شبهة من الأقرباء والخدم
والمعجبين.
في البداية ظن رجال الأمن الجنائي بأن القضية سهلة، إلا أنه اتضح فيما
بعد أن الأمور قد ازدادت غموضا وتعقيدا، وانطفأ بصيص الأمل في العثور على
الفاعل.
دفنت الضحية وانفضت الجنازة ولم يلاحظ وجود أي شخص غريب عند الدفن، كما
لم يظهر دليل واحد يشير إلى القاتل، فالكل مشبوهون وبنفس الوقت لا مبرر
لتوقيف أيا منهم، وقد تم استجوابهم جميعا مرتين دون جدوى ونفوا جميعا
وجود أعداء لها.
وبذلك سجلت القضية ضد مجهول لعدم كفاية الأدلة، وأغلق الملف.
هذه القضية بالنسبة لمحقق شاب أراد أن يثبت جدارته ويحقق له مكانة في هذا
المجال حرمته من لذيذ النوم، فهي من أصعب القضايا التي واجهته، فكلما شعر
باقترابه من حل اللغز وقع في متاهة أكبر وكلما أمسك خيطا انقطع آخر ومع
ذلك لم يستسلم وجلس يفكر ويعيد حساباته من جديد. إلا أنه قرر هذه
المرّة أن يعمل بمفرده وبسرية تامة دون أن يُطلع أحدا على أي شيء. فقد
ساوره الشك في بعض العناصر التي تحيط به وتحاول أن تخذله وتبعده.....
وبعد عدة أيام من البحث والتفكير شيء ما شدّه إلى المقبرة فراح يتفقد
القبور بنفسه، وأصبح يتردد تارة على الفيلا وتارة أخرى على المقبرة
ويسجل ملاحظاته في دفتره الصغير .
المجرمون كزائري الليل يزحفون من أوكارهم للتنفس عندما يشعرون بالأمان
وليمارسوا نشاطهم الإجرامي من جديد إن وجدوا إلى ذلك سبيلا ....
في المطار- قسم الأمن العام والجوازات- وقفت صبية جميلة شقراء بنظارة
سوداء تنتظر دورها وفي يدها اليمنى جواز سفرها وبيدها الأخرى تجر حقيبة
أمتعتها. عندما وصلت إلى الكوة دفعت بجواز سفرها إلى الموظف المختص
وانتظرت. قلَب الموظف صفحات الجواز وختمه كالمعتاد ولم ينس أن ينظر في
وجهها مليا وهو يسلمها الجواز، ثم ترك مقعده على الفور.
في الطائرة جلست في مقعدها وقد انفرجت أساريرها، وتم الإعلان عن الإقلاع
وارتفعت الطائرة شيئا فشيئا إلى أن أخذت مسارها الطبيعي، وفجأة أعلنت
المضيفة عن وجود عطل فني في الطائرة وطلبت من المسافرين وضع الأحزمة
للهبوط الاضطراري.
وعلى المدرج وقفت المضيفة في نهاية السلم تستقبل الركاب وتهنئهم
بالسلامة، حتى إذا ما وصلت الشقراء استقبلتها المضيفة بترحاب زائد وشدت
على يدها مبتسمة، ثم ألبستها سوارا له مفتاح ولبست هي الآخر. ابتسمت
الشقراء ولم تعترض منعا لإثارة الجلبة أو لفت النظر مع قوة
المكابرة..........
في الواقع لم يكن هناك أي عطل فني، وإنما جاء ذلك كله تدبيرا من موظفي
الأمن العام للقبض عليها وتسليمها للسلطات المختصة.
وما إن وصلت حتى بادرها المحقق بسؤاله :
- ما اسمك؟
- سمر الفالح
- هل تعرفين سحر الفالح؟
- نعم، إنها شقيقتي التوأم.
- مهنتك:
- ربة منزل
- فقط؟
- فقط.
- ألا تجيدين العزف على البيانو؟
- لا.
- هل عرفت أنك رهن الاعتقال؟
- السبب؟
- لقد قتلت أختك
- انا ؟
- نعم، لقد قتلتِ أختك وأحييت الحفلة باسمها ثم افتعلت مسرحية
اغتيالك.أليس كذلك؟ كنت تستطيعين أن تسرقيها بدلا من أن تقتليها فواقع
الشبه بينكما لدرجة المطابقة كان كفيلا بحصولك على المال الذي تريدين.
- لم أقتلها، ثم إني لا أجيد العزف على الآلات الموسيقية. حضرة المحقق،
لقد شاهدتَ بأم عينك الحادث في المسرح وعاينتَ الجثة في الفيلا وشاركت في
الدفن، وأنا لم أخرج من البلد إلا بعد إغلاق القضية وبعد أن أذنت لي
بالسفر.
سمعَها وتابع قوله:
- لقد دعوتِ ابن أخيك إلى كندا لزيارتك لكي تقصيه عن مسرح الجريمة لأنه
هو الوحيد الذي يعرف كيف يميزك عن أختك، ثم انطلقت إلى هنا لتقتليها.
- وما علاقة الشَبه بالجريمة؟
- لقد قتلتِ أختك فبل ساعتين من الحفلة .
شيء لا يصدق! من أحيا الحفلة إذن؟ هل الموضوع مجرد اتهام؟ أنصحك
بالبحث عن القاتل الفعلي.
- إن من أحيا الحفلة هو أنت وليس سحر كما تدعين.
- أنت مخطئ ، وأكرر أنا لا أجيد العزف على البيانو.
- حسن، سأثبت لك استغلالك للشبه. عند المقارنة بين أشرطة الفيديو لعدة
حفلات سابقة أحيتها سحر وشريط الفيديو الخاص بك بتاريخ 28 تموز عام
2009، تبين أنك اقترفت خطأ ولم تنتبهي إليه أو أنك أدركته فلم تكرريه.
لقد قلبت صفحة النوتة الموسيقية بيدك اليسرى لمرة واحدة فقط ويمكن أن
يكون الأمر حينذاك مجرد صدفة. لذلك تعمدتُ أن أجلس إلى جانبك في الطائرة
لأراقبك عن كثب- لم تلاحظي وجودي لأنك كنت تعانين من القلق والخوف
وتنظرين في الساعة بين الحين والآخر وكأنك تعدين الدقائق والثواني على
أمل الوصول بالسلامة - لقد تناولت المجلة بيدك اليسرى وكذلك كأس
الماء والسيجارة أي أن الموضوع لم يكن محض صدفة .
ومن جهة أخرى، فإننا أخرجنا جثة أختك من قبرها وتبين للطبيب أنها قتلت
بضربة قاضية على مؤخرة الرأس باستخدام أداة معدنية ثقيلة. أما عن الثقب
المحدث في صدرها فلا يزيد عن كونه تمويها وتضليلا.
ونظرا للشبه الغريب إضافة إلى عزفك الرائع على البيانو استطعت أن تحيي
الحفلة باسمها وأن تنفِّذي بنفس الوقت مسرحية الاغتيال المزعوم تغطية
لجريمتك، وبخطف الجثة المزعومة ثم الادعاء باكتشافها ملقاة على أرض
الحديقة في اليوم التالي استطعت أن تقلبي السحر وألعاب الخفة إلى حقيقة
لأن الجثة الملقاة هي جثة أختك سحر. وحدث هذا كله بمساعدة الطبيب الشرعي
الذي افتعل ثقبا في صدر أختك بما يوحي للرائي بمصداقية جريمة المسرح،
ثم جلس أمامي يكتب التقرير الذي طلبته أنتِ. صحيح أنك ما زلت قادرة
على التملص من كل هذا لما تتمتعين به من دهاء عجيب، وصحيح أن كل ما
فعلته كان في منتهى الذكاء والإتقان وكنت على وشك الرجوع إلى
بلدك سالمة غانمة بعد أن تم تحويل أموال أختك إلى حسابك في كندا
إضافة إلى المجوهرات الثمينة، فلا جريمة كاملة إذ تكرّم شاهد غير
متوقع ووشا بك .
لا تنفعلي كثيرا ، لن أطيل عليك ، إن هذا الواشي هو القطة.
القطة؟
- نعم، قطة أختك هي التي أرشدتنا إلى مفتاح اللغز.
سمع البستاني المكلف بالمراقبة والمتابعة مواء غريبا فظن أن القطة تصارع
جرذا أو تقتل أفعى فتبع الصوت إلى أن وصل إلى باب الفيلا وبيده آلة
تسجيل. هناك كانت القطة تموء وتتمرغ بالباب، تريد أن تدخل، لقد أحسّت
بوجود أشخاص بالداخل فوقف إلى جانبها وسمع همسا يدور بين اثنين:
- لولا تقريري لكنت الآن تتأرجحين على حبل المشنقة، فما تعطينه لي ليس
مكافأة فحسب، إنه حقي، لقد أنقذت حياتك وأستحق نصف ما حصلتِ عليه.
- النصف كثير. أنا التي خططت ونفذت عملية القتل ودبرت مسرحية الاغتيال
وعملية الخطف وقصة الجثة الملقاة في الحديقة، ودفعت أتعاب الذين نفذوا
عملية الاغتيال المزعومة، وقبلها أقصيت ابن أخي عن البلد لأتحرر من
مراقبته. أنت تستحق قيمة التقرير فقط. وقد نقدتك مليون ليرة وهذا ليس
مبلغا صغيرا.............
- "ألا ترين معي أن لا داع للإنكار؟" قال المحقق.
- السؤال الأخير: لماذا قتلتها؟
- طلبت منها أن تدعمني لتسديد ديوني المتراكمة فرفضتْ بغلظة وتكبُر.ولم
تحاول ولو لمرة واحدة أن تسعفني. رجوتها وأخبرتها بأنني قد أسجن فلم
تهتم ولم تبد أي تعاطف
بل كانت تسخر مني.
- وما سبب الديون المتراكمة؟
- الإدمان على المنشطات والتسوق؟
- التسوق؟!
- نعم، فأنا مدمنة منشطات و تسوق، أشتري ما يلزمني وما لا يلزمني وحتى
أنني أستدين أو أسرق في بعض الأحيان، أنا فعلا مريضة بالإدمان ولا أملك
ثمن العلاج فكلفته باهظة وعلاوة على ذلك فقد هددني صاحب المنزل بإلقاء
حوائجي إلى الشارع. فكرهتها وحقدت عليها، وكبرت شجرة الشر في صدري ولم
أستطع لها دفعا، فدمرت نفسي حتى قبل أن أفقد أختي الوحيدة، أختي
التوأم......
- مؤكد أننا خسرنا عازفتين. كان عزفك رائعا، مع الأسف" قال المحقق وأغلق المحضر.
كتبتها سنا الخاني