الخطاب الثقافي في فكر مالك بن نبي
بواسطة مدونات فرانشيفال | 20 أبريل, 2017
تمهيد :
إن الحديث عن أي مشروع ثقافي أو فكري أو حضاري في العالم الإسلامي يفرض علينا أن نشير إلى إسهام المفكر مالك بن نبي في تحديد معالم ذلك المشروع بشكل أو بآخر، فمن خلال تنوع أطروحاته، وحيوية خطابه، وانفلاته من حدود الزمان والمكان، صار خطابه يمثل مرجعية ثقافية، وفكرية، وحضارية تقوم على أساس علمي، وتستمد مشروعيتها من دعامتين أولاهما تمثلت في الفهم الواقعي للتراث الإسلامي الذي يعمل على صناعة إنسان متجدد وفعال يساهم بما يمتلكه من قيم ومبادئ في بناء صرح الحضارة الإنسانية، وثانيهما تتمل في فهمه الصحيح لروح الحضارة الغربية التي تعنى بالإنسان بعيدا عن التهويل الذي يضخم تلك الحضارة ويحتفي بكل منتجاتها، أو يحقِّرها ويرفض دعواتها إلى المساواة، والعدالة الاجتماعية، والتضامن، واليوم وبعد مرور أكثر من أربعين سنة على رحيل المفكر مالك بن نبي ما يزال خطابه الثقافي محور الكثير من البحوث والدراسات العلمية، وما تزال معالم في مشروعه الحضاري الإنساني تنير درب الباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية، بل إن الغرب ظل يقتبس من فكره التنويري ليدعم أسس حضارته، بعدما أجمع أغلب المهتمين بمشروعه الفكري على حيوية أطروحاته وخصوصية منهجه، وإمكانية الاستفادة من رؤيته الحضارية في معالجة المشكلات المعاصرة؛ لأن تفكيره في حل المشكلات كان قائما على أساس علمي؛ فهو ينظر في المشكلة ويحدد أسبابها ثم يقترح الحل المناسب متطلعا إلى تنبيه الشباب العربي المسلم إلى ضرورة العودة بالمجتمع الإسلامي إلى حلبة التاريخ.
ملامح الخطاب الثقافي في فكر مالك بن نبي :
ظهر المفكر الجزائري مالك بن نبي في مرحلة حرجة من التاريخ الإسلامي، في الوقت الذي كان يعاني العالم الإسلامي الاستعمار، والجهل، والفقر، وقد أمكن له أن يدخل أعماق مشكلة المسلم ويحللها من جانبها النفسي، والاجتماعي، والاقتصادي، وأثار العديد القضايا الهامة مثل الدورة الحضارية، ومسألة الحق والواجب، والقابلية للاستعمار، « فإذا نحن نرى أنفسنا في ضوء ما كتب قديما كأننا لم نتقدم خطوة في فهم البلاء الذي ينزل بنا، ولا يزال ينزل، وأشد النكبات التي يصاب بها البشر نكبة الغفلة »، فهو يرى أن المجتمع يقوم في تنظيمه وحياته وحركيته على نوعية الأفكار المنتشرة في ذلك المجتمع؛ لأن مجموع الأفكار يمثل جزءا هاما من أدوات التطور في مجتمع معين، إنه يؤكد على أن خلاص العالم الإسلامي يتمثل في تطويع القدرات الكامنة في الشباب المسلم الذي لم يجد إلى اليوم الفرصة ليؤكد على قدرته على إقامة حضارة.
يتميز خطاب المفكر مالك بن نبي بميزة التنوع والثراء؛ فهو يشير مباشرة إلى علة العقل العربي الإسلامي الذي يرفض فهم مشكلاته في ضوء المنظور العلمي الصحيح وما يزال يكتفي بطرح أسئلة غالبا ما تكون بعيدة عن الأسباب الحقيقية لمشكلة التخلف الحضاري الذي يعانيه المسلمون، بل الإجابة تلك الأسئلة الأنطولوجية في جزء كبير منها غير يقيني ويحتمل التأويل الذي يفسح المجال أمام اجتهادات لا فائدة منها، ولعل الصدمة التي أحدثتها أفكار مالك بن نبي في أوساط المثقفين العرب لها مبررها، فهو يتناول مشكلة الثقافة من زاوية جديدة تماما لم يسبقه إليها باحث عربي؛ بل إن طريقة طرح الأفكار لا تختلف عما كان شائعا في الغرب الذي يعتمد علم الاجتماع في تحليل مشكلاته الاجتماعية، وعلى هذا الدرب سار ابن نبي الذي كان يتمنى أن تناول الموضوع وهو يملأه شعور داخلي أنه يصف واقعا اجتماعيا ماثلا أمامه في نظم بلاده، وفي فعالية السلوك حوله، وفي الترابط الواضح بين بني جلدته ومجتمعهم، ذاك الترابط الذي هو في جوهره التزام متبادل بين المجموعة والفرد.. بينما كان مالك بن نبي مضطرا إلى أن يقف موقف الباحث عن سبب أو أسباب هذا الالتزام في مجتمع فقد منذ شاعت فيه الروح الانعزالية التي وجدت فلسفتها في تلك الكلمة القتالة ” عليك بخاصة نفسك ” التي رددتها أجيال مسلمة عبر قرون ما بعد الموحدين وما يزال صداها يتردد في البيئة العربية الإسلامية إلى اليوم.
فإذا كان “فرويد” يعتقد أنه أوجد علما للعقل بما وصل إليه من نظريات في علم النفس، وكارل ماركس يعتقد أنه أوجد علما للتاريخ والمجتمع، فإن ابن نبي أوجد مفهوما علمي للثقافة والحضارة والنهضة وهذا بشهادة علماء الغرب قبل المسلمين الذين لم يكتشفوا فكر ابن نبي متأخرين، بل إن ما طرحه ابن نبي من مفاهيم ما يزال إلى اليوم يشكل صدمة عجز الفكر العربي استيعابها، ذلك أن معاصرة ابن نبي لمشاكل وأحداث مجتمعه العربي الإسلامي كان أحد الدوافع المباشرة التي جعلته يسعى إلى تقديم إسهام فكري وفق التحديات التي تطرحها تلك المشاكل والأحداث، فهو يؤسّس مشروعه الحضاري انطلاقا من فهم واقعي لخصوصية ثقافية صاغ من خلالها معظم أسئلته مفهوم الهوية، والثقافة، والأنا، والآخر، والنهضة، والحضارة، لذلك انطلق في فكره من منظور حضاري إسلامي يحيط بالمشكلة ويحللها ويدرسها، ثم يقدم التصورات، والحلول العلمية، والعملية لمسألة التخلف الحضاري في العالم الإسلامي، باعتبار غياب الحضارة الإسلامية الفاعلة المشكلة المركزية التي يتخبط فيها العالم الإسلامي.
ويبدو أن فكر مالك بن نبي شكل سابقة فريدة من نوعها في الفكر العربي الإسلامي اختلف عما جاء به المفكرون العرب المسلمون نضج بعدما وجد في البيئتين الثقافيتين العربية والأجنبية ما أمده تدريجيا بأدوات فكرية ساعدته على فهم الواقع العربي الإسلامي الذي كان يرزح تحت نير الاستعمار من جهة، وتحت المعتقدات الفاسدة التي ظهرتا نتيجة الفهم القاصر للدين والحياة، بل إن تفاعل عوامل مختلفة مع بعضها كان له علاقة مباشرة بمصادر تكوينه الشرقية، والغربية، وازدواجية ثقافته، أضف إلى ذلك تقلبه في بيئات تنوعت فيها العوامل السياسية، والاجتماعية من خلال رحلته إلى فرنسا ومصر وسوريا ثم استقراره بالجزائر، وهذا يتضح جليا من خلال جملة القضايا التي تناولها في مؤلفاته ومذكراته، لذلك « جاءت أفكار مالك بن نبي حول مفهوم الثقافة برؤية جديدة، لم تألفها المصطلحات المستوردة التي تمت صياغتها في إطار الفكر الليبرالي، أو في إطار الفكر الاشتراكي التقدمي ».
ويجب أن نفند هنا فكرة السعي إلى الشهرة التي قد يرمي بها بعض الناس مالك بن نبي، فلو كان يريد أن يصبح مشهورا لاختار أن يكون كاتبا محترفا في فن الرواية والقصة؛ لأن ذلك ما كان يستهويه ولكنه كان يرى في نفسه أنه صاحب قضية وسلاحه هو علمه، فقد أدرك أن ظهوره في بيئة مستعمرة ومنهكة حضاريا ومدمرة ثقافيا يمثل دافعا قويا إلى البحث عن أسباب مشكلة التخلف الحضاري الذي يعانيه المسلمون حتى صار لصيقا بحياتهم، وكان له ذلك في « ترجمة المقولات النظرية إلى صور أدبية مهمة صعبة وجليلة الشأن في عالمنا العربي المفتقر في حاضره إلى الخطاب الثقافي البسيط والشفاف والمقنع، لذلك لم يكن مستغربا أن [ تحظى كتب المفكر مالك بن نبي ] بالاهتمام الواسع لأعرض الشرائح المشكلة لجمهور القراء في مختلف أنحاء العالم العربي، اهتمام لا يمكن أن يقاس بمحدودية التداول التي استقبلت بها كتبه الفكرية .. والأمر لا يتعلق بالكفاءة المفاهمية التي تأسست عليها كتبه وحجم فعاليتها وتأثيرها، بقدر ما يتعلق بنوعية المتلقي في بيئة ثقافية لا زالت المشاريع النظرية فيها تناقش داخل الدوائر المغلقة للمثقف » في عزلة تامة عن البيئة الحقيقية التي أوجدت المشاكل التي تحتاج إلى حل جذري، بل عدم فهم المثقفين أنفسهم معالم المشروع الحضاري الإنساني الذي جاء به ابن نبي حال دون فهم واقعه، وحرمهم تهميشهم للرجل من استثمار فكره النير الذي كان سيغير أحوال المسلمين لو تمسكوا بتلك الخطة التي رسمها مالك بن نبي لإحياء الحضارة العربية الإسلامية من جديد.
نظرية الثقافة عند مالك بن نبي :
يقوم مفهوم الثقافة عند مالك بن نبي على الحاجة إلى التغيير، وإثبات الشخصية الاجتماعية للمجتمع، والتي يجب أن تكون على وصال مع رصيد المتوارث عبر الأجيال السابقة، لذلك يعطي تعريفا للثقافة بقوله: « مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل الفرد طباعه وشخصيته »؛ وهذا يعني أن ابن نبي لا ينظر إلى المثقف على أنه ذلك المتلقي لجملة من المعارف والعلوم، إنما المثقف هو ذلك المشتمل على مجموعة من القيم الاجتماعية والصفات الخلقية، والمبادئ الوطنية والتي يعمل بها من أجل تحقيق حياة متوازنة؛ ذلك أن الثقافة كمكتسب من شأنها تحصين الفرد من المثبطات، ومن الفلسفات الحضارية الأخرى التي تنتهي به إلى السيطرة والاستلاب الذي ينتهي إلى تهميش مهمة الفرد الأساسية في المجتمع، فتتضخم الأنا والفردانية، وتضمحل الهوية الثقافية، فيصبح الفرد تائها في دوامة المد الثقافي المخلوط، وبمثل هذه النظرة الثاقبة اختلف مالك بن نبي عن « كثيرا عن الدعاة المفكرين، والكتاب، فهو فيلسوف أصيل له طابع العالم الاجتماعي الدقيق الذي أتاحت له ثقافته العربية، والفرنسية أن يجمع بين علم العرب، وفكرهم المستمد من القرآن والسنة، والفلسفة والتراث العربي الإسلامي الضخم، وبين علم الغرب، وفكرهم المستمد من تراث اليونان، والرومان، والمسيحية ».
ويبدو أن مالك بن نبي يستمد فكره من إيمانه « بالعقل وبقدراته وطاقاته إيمانا لا نظير له، إنه ببساطة واسطته لإدراك الحقائق والمعارف التي تمكنه من تنظيم حياته وتشييد حضارته »، وهو في طرحه هذا، وبأسلوبه الذي تفرد به، وثقافته العربية الإسلامية / الغربية استطاع أن يوجه إليه أن أنظار جيل من طلائع شبابنا المثقف الذي يتوق إلى الإصلاح مع احتفاظه بقوة العقيدة، وسلامة التفكير، إنه يدرك أن الثقافة هي المهد المنشئ لشخصية الإنسان في أي حضارة كانت، وعليه، كان من الضروري استثمار هذه النقطة التي يرى” ابن نبي” أنها مشكلة المشكلات، تدخل في تنشئة الفرد الأولى، وفي منطق تفكيره، وفي عوامل اكتسابه للخبرات العلمية، وحتى في نمط حياته كيفما كان، والحال إذن هو العمل الدائب على تثمين المركب الثقافي للفرد الذي نسعى إلى إثراء أفكاره، وتكوينه دون أن نحدث فجوة، أو انفصاما في مكتسباته جميعها حتى تكون الدعامة المثلى لكل نهضة مبدؤها الاستفادة من الأخطاء السابقة الموغلة في تهميش القيم، والمكتسبات الحضارية، فخلاص « العالم الإسلامي يتمثل في تطويع الغرب لروح الإسلام، فقد كان فكر “مالك بن نبي” مدعوا لأن يلعب دورا معتبرا بعد الاستقلال، لكن هذا الدور كان محدودا بفعل عاملين: الأول هو نظريته عن قابلية الاستعمار والتي استغلها أعداؤه ضده عندما جعلوها نوعا من التبرير للاستعمار الثاني هو الظرف الخاص الذي عرفته الجزائر بعد عام 1962م، والذي تغلبت فيه إغراءات التجديد.. وكذلك إغراءات التقليد للغرب وأنماطه الحياتية مما صرف النظر عن هضم عصارة الحضارة الغربية، والاستفادة منها إلى أقصى حد. »
تشخيص خلل ثقافة الأنا وثقافة الآخر:
مثلت علاقة المسلمين بالغرب في خطاب التجديد الإسلامي محورًا مهمًا، ويكاد الحضور الغربي يكون حاضرًا في كل الخطابات الإسلامية منذ الغزو الاستعماري للعالم الإسلامي في القرن التاسع عشر إلى اليوم، وما ميز الدراسات الإسلامية التي اهتمت بالحضارة الغربية أنها لم تتجاوز ـ على كثرتها وتنوعها ـ تلك النظرة الأحادية التي اتسمت بها ثقافة رجل ما بعد الموحدين التي صور الغرب في صورتين متناقضتين؛ إحداهما تظهره في صورة الطاهر المقدس الذي بيده مفاتيح الحياة السعيدة بما امتلكه من أسباب الحضارة والتقدم والتطور، وثانيهما تظهره في صور المدنس الحقير الذي تمتد يده الآثمة إلى تنغيص كل نعمة أنعم الله بها على المسلمين وتحويلها إلى نقمة، فكثرت الخطابات المحذرة، والداعية إلى التعبئة العامة التي تفوت على الحاقدين من هم في سدة الحكم من الغربيين تكدير صفو حياة المسلمين ببث سمومهم وتحريك أذنابهم ممن هم في البلاد الإسلامية حتى ينفذوا مخططاتهم الهدامة، ومثل هذا الكلام صحيح حين يتعلق الأمر بالدين والعقيدة، ولكنه حكم لا يقبل التعميم، خاصة أن أكثر الأحكام التي يطلقها كثير من المسلمين على الحضارة الغربية، وعلى النظام الغربي لا يستندون فيها إلى علاقة الغرب بالدين الإسلامي، وإنما يستشعرون وجودها من مطالعاتهم المبتورة، ويؤسسون أفكارهم عن أحكام مبتسر، ويبنون رؤاهم عن تلك العلاقة السطحية ـ الوظيفية أو التجارية ـ التي تجمعهم بالغرب، وهذا قصور يعانيه المسلمون منذ قرون مضت، فهم يعممون أحكامهم دون أن تكون لهم بينة؛ فحينما عجز الفكر الإسلامي عن إدراك حقيقة الظواهر، لم يجد له بد من النظرة السطحية التي تنزلق على قشرتها.
وليس من شك في أن خطاب مالك بن نبي في بيان علاقة المسلمين بالغرب يعد محاولة مبكرة وناضجة في الفكر الإسلامي المعاصر والتي سعى من خلالها إلى تأسيس خطاب علمي يتجه إلى البحث في عمق الظاهرة بتتبع جذورها وصيرورتها، وآثارها وانعكاساتها على الواقع الإسلامي، بل وبحث سبل الإفادة من التجربة الحضارية الغربية في خصائصها، ومدى إسهاماتها في الحضارة الإنسانية وآثارها عليها، وكانت هذه المحاولة الجادة من مالك بن نبي محط اهتمام مفكرين ومؤسسات أكاديمية إسلامية وغير إسلامية وذلك لما وجدت فيها تحليل منطقي للتطور التاريخي للحضارة الغربية، وكيفية تشكل مفاهيم في الوعي الغربي، وانضوائها في نسق معرفي وحضاري عام.
ويرصد مالك بن نبي صاحب نظرية ( القابلية للاستعمار) وهو يحدد معالم الشخصية العربية الإسلامية المعاصرة أن مشكلة التخلف الحضاري في العالم الإسلامي لم يكن سببه الاستعمار فحسب، بل إن ثقافة إنسان ما بعد الموحدين هي أحد الأسباب التي عمقت هوَّة ذلك التخلف، أن تلك الثقافة كانت تفتقر إلى التوزان المادي والروحي الذي يبني المدنية الحديثة مما أحدث خللاَ في النظام الاجتماعي العربي والإسلامي، فنتج الإنسان يدور بعيدا عن فلك المفاهيم القرآنية، ويحلق بعيدا عن فلك المفاهيم المدنية ليصبح عاجزاَ عن التمثيل والإبداع، وبالتالي فشل في استثمار عبقريته للاستفادة من أرضه وزمانه.
لقد خسرت هذه ثقافة الإسلامية المنكسرة وراء أحكام متسرعة الإنسان الذي شكل اللبنة الأساس في بناء صرح الحضارة الغربية بعدما ضمنت له تلك الحضارة شروط العيش الكريم، وعززت لديه ثقته بنفسه، وحررته من قيود الكنيسة التي تحول دون إبداعه وتطوره، ويبدو أن مالك بن نبي ينطلق في معالم مشروعه الحضاري من النقطة الأخيرة؛ فإذا كانت الكنيسة أحد الأعنة التي حالت دون تطور الغرب حضاريا، فإن الأمر عندنا يختلف تماما ذلك أن الدين الإسلامي يمثل أحد الدوافع القوية التي انطلقت بالعرب في السلم الحضاري حتى وصلوا إلى مكانة حضارية جعلت منهم سادة العالم، غير أن الثقافة التي ظهرت عند إنسان ما بعد الموحدين راحت تعزل الدين عن الحياة، ووضعت له تحديدات حادت عن مفاهيمه الحقيقية للحياة.
معالم المشروع الحضاري الإنساني في فكر مالك بن نبي:
تتجلى معالم المشروع الحضاري الإنساني في دعوته إلى التغيير الثقافي الاجتماعي من خلال الاهتمام بالحالة الثقافية والفكرية والاجتماعية للشعوب الإسلامية في سلسلته مشكلات الحضارة، إذ نجده يركز في دراسته على عوالم ثلاثة هي:
أولا: عالم الأفراد ( الأشخاص ) الذي يمثل فيه الفرد الجوهر الذي تقوم عليه اللبنة الأولى في بناء المجتمعات؛ وذلك من خلال « الإيمان بالإنسان بوصفه المادة الأولية والعنصر المحوري لأي تطور أو فعالية فهو الغاية والوسيلة في الوقت ذاته وهو الذي يمثل نقطة التجاذب الرئيسة في أي عملية مفترضة لإعادة ترتيب العلاقة بين الذات وظواهر العالم الطبيعي »؛ فقيمة الإنسان هي التي تعكس علاقات المجتمع، وتكشف مدى ترابط أفراده، فإن كان أفراد المجتمع الواحد متحدين ويسيرون في تناغم اجتماعي ارتقوا في السلم الحضاري غير عابئين بالصعوبات التي قد تواجههم، ويشير ابن نبي إلى عبر هذا العالم إلى خطورة تفشي ظاهرة الانفصال بين الأفراد في المجتمع الواحد حين يسعى كل إنسان التخطيط والعمل بمفرده، فتسيطر عليه “الأنا” وتتحكم فيه، وتضيع الروح الجماعية التي كانت سائدة في فترة من الفترات في الشعوب الإسلامية والتي كانت أساس كل نشاط أو عمل، وبغياب الروح الجماعية تفسد العلاقات الاجتماعية، “والعلاقات الاجتماعية تكون فاسدة عندما تصاب الذوات بالتضخم، فيصبح العمل الجماعي المشترك صعبا أو مستحيلا، وتصبح عقدة “الأنا” أصبحت مسيطرة حتى تتحول مع مرور الوقت إلى مرض اجتماعي فتاك، ويطلعنا ابن نبي عن بعض النماذج من المسؤولين العرب الذين أصيبوا بعقدة الأنا، فبعد تخرجه مهندسا كهربائيا سنة 1935 تقدم إلى السفارة المصرية من أجل الحصول على تأشيرة الدخول، ولكنه فوجئ بذلك الموظف الذي كان يتمتع برفض طلبات الآخرين، يقول: « وتوسمت في الرجل طبيعة تجعله ينعم بألم الآخرين، ولا يتراجع عن شرٍّ قدره في نفسه ».
وينتقد مالك بن نبي فكرة تعلق الناس بالأشخاص على حساب الأفكار؛ ويرى أن الناس عندما يتعلقون بالأشخاص « أكثر من تعلقهم بالمبدأ؛ فإنهم يرون الإنقاذ من الحالة التي هم فيها بـ ( البطل القادم ) دون أن يقوموا بجهد يذكر؛ فالخلاص لا يتم بتجميع أناس على مبدأ يدافعون عنه ويتفانون فيه، بل بالرجل الذي يجمعهم ويوحدهم. وقد تتجسد الأفكار بأشخاص ليسوا أهلا لحملها، فتحسب أخطاؤهم وانحرافاتهم على المجتمع الإسلامي، أو على الإسلام ».
كما يؤكد ابن نبي على ضرورة وحدة أفراد المجتمع الواحد؛ لأن تطور المجتمع أو تخلفه، سوف يكون له تأثيره في شبكة علاقاته الاجتماعية، وتلك العلاقات يعكسها الأشخاص بتصرفاتهم؛ لأنه لا يُتاح لحضارةٍ في بدئها رأسمال، إلاَّ ذلك الفردُ البسيط الذي تحرَّك، والترابُ الذي يمدُّه بِقُوتِهِ الزهيدِ حتى يصلَ إلى هدفه، والوقتُ اللازم لوصوله، أما إذا تفككت وحدة الأفراد مع بعضهم البعض فإن هذا نذير بانهيار المجتمع، وحينئذ لا يبقى منه إلا ذكرى مدفونة في كتب التاريخ، وعديدة هي المجتمعات التي عرفت التحلل والفوضى الاجتماعية، وما أصابها هذا التحلل إلا عندما تفشى مرض الفرقة في جسدها الاجتماعي، بل إن بعض المظاهر الاجتماعية تخدعنا فيبدو المجتمع في ظاهره ميسورا ناميا، بينما تكون شبكات علاقاته الاجتماعية مريضة، فلو تعرض ذلك المجتمع إلى أبسط هزة فإنه سيتداعى وينهار كجدار يريد أن ينهد.
إنّ الجماعة البشرية الملائمة والمستعدة لتحريك الفعل الحضاري وإنشاء مجتمع « عندما تشرع في الحركة، أي عندما تبدأ في تغيير نفسها من أجل الوصول إلى غايتها، وهذا يتفق من الوجهة التاريخية مع لحظة انبثاق حضارة معينة، أما الجماعات الساكنة فإنّ لها حياة دون غاية، فهي تعيش في مرحلة ما قبل الحضارة، وخلاصة القول:إنّ الطبيعة توجد النوع، ولكن التاريخ يصنع المجتمع، وهدف الطبيعة هو مجرد المحافظة على البقاء، بينما غاية التاريخ أن يسير بركب التقدم نحو شكل من أشكال الحياة الراقية وهو ما نطلق عليه اسم الحضارة ».
ثانيا: عالم الأفكار عندما تقرأ للمفكر مالك بن نبي تحس أن الرجل يتألم بقدر ما يتأمل في كتابته، وكأنه يقول إن الثورة تلد من رحم الأحزان، وأن الإنسان يحتاج إلى الإحساس بالألم ليدرك الخطر الذي يتهدده، بل إنه يؤكد عبر كتاباته أن « أفكارنا يجب أن تولد دائما من الألم، وعلينا ـ بما يشبه الأمومة ـ أن نشاركها بكل ما لدينا من الدم، والقلب، والحماسة، والبهجة، والهوى، والوخز، التأنيب، والضمير»، أما إذا كانت أفكارنا لا تخدم مشروعنا الحضاري، ويغلب عليها طابع التسرع فإنها حتما لن تحقق الهدف الذي يرمي إليه المجتمع، وسترمي به في سلة التخلف و« عندما يكون المجتمع في حالة تخلف قد يصل الأمر إلى طغيان عالم الأفكار؛ فعندما لا يستطيع المسلم القيام بعمل مثمر يلجأ إلى البحث في الأفكار المجردة النظرية التي تأخذ طريقها إلى التطبيق، وبدل أن يتكلم عن معاناة الناس ومشاكلهم والتخطيط لمجتمع أفضل، فهو يتكلم عن الماضي الذي له صلة بالحاضر، أو ينتقل إلى معارك وهمية ليكون هو أحد أبطالها »
ثالثا: عالم الأشياء إن « الإيمان بالعالم الطبيعي بوصفه العالم الحقيقي الذي ينبغي التمسك به واستكشاف القوانين التي ينتظم وفقها وما يتبع ذلك من تراكم معرفي يسخر للسيطرة على الطبيعة وتطويرها واستغلال مواردها ومكامن الغنى فيها لخدمة الإنسان »، وهو الذي يدفع بالمجتمع نحو ذرى التقدم والتطور والنهوض، و« عندما يكون مجتمع في حالة نهوض لا بد أن يحقق الانسجام والتوازن بين هذه العوالم (الأشياء، الأشخاص، الأفكار) ولكن الحقيقة أن النزعة (الكمية) هي المسيطرة، فلا يسأل المؤلف عن الموضوع الذي تناوله، وإنما يسأل عن صفحات الكتاب، وعندما تريد إحدى المصالح الحكومية تجهيز مقرها، تزوده بعدد خيالي من المكاتب، والموظف الكبير يحب أن يكون في مكتبه أربعة هواتف وخمسة أجهزة تكييف »،وهذا يعني أن توفر الأشياء لوحدها دون من يحسن استخدامها في إطارها الاجتماعي الذي يعود بالفائدة على الفرد والمجتمع لا يمكنه أن يبني حضارة، « وإذا كان مجتمع ما قبل التحضر فقيرا في عالم الأشياء، فإن مجتمع ما بعد التحضر مكتظ بالأشياء ولكنها خالية من الحياة »، وإذا كان مالك بن نبي في مشروعه الحضاري الإنساني يؤكد على ضرورة التغيير التاريخي مِن خلال إنتاج العوالِم الثلاثة إنتاجا متوازنا يراعي خصوصية المجتمع العربي الإسلامي، فإنَّ انسجام وَحدة التغيير التاريخي مع الغايةِ منها ضروري، ذلك يجسِّد الحضارةَ في الواقع، “وهذا الشَّرْط يستلزم كنتيجةٍ منطقيَّة وجود “عالم” رابِع، هو مجموعُ العلاقات الاجتماعيَّة الضروريَّة، أو ما يُطلق عليه “شبكة العلاقات الاجتماعيَّة”، وتَنطلق عملية التغيير التاريخي مِن الفرد؛ مصداقا لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]
وإذا تأملنا علاقة العوالم الثلاثة ببعضها البعض (عالم الأفكار وعالم الأشخاص وعالم الأشياء) وجدنا أن كل عالم من العوالم الثلاثة متعلق بالأخر، ذلك أن كل علاقة غير سوية بين أفراد المجتمع الواحد تولد فيما بينهم عقدا كفيلة بأن تحبط أعمالهم الجماعية، والتي سوف تظهر في فساد العلاقات الاجتماعية، وهو ما يفضي إلى فساد “عالم الأشخاص”، وهذا يعني أنه من الطبيعي أن يتأثر “عالم الأفكار” و”عالم الأشياء” بفساد “عالم الأشخاص”؛ وبالتالي يحدث تخلخل في البنية الاجتماعية وينتج عنه بالضرورة سقوط “عالم الأفكار”، فينزل المستوى الفكري لدي الفرد العادي ولدى النخبة أيضا، وبالتالي فإن الضرر يكون كبيرا لأن المجتمع سيخسر العوالم الثلاثة وينتهي الأمر إلى السقوط والزوال أمام أبسط هزة يتعرض لها، وإذا أردنا أن نمثل لذلك بمثال إيجابي ننظر في المجتمع الياباني الذي دمر أثناء الحرب العالمية الثانية تدميرا كبيرا، ولكنه خلال وقت قصير استطاع هذا المجتمع أن يلملم جراحه ويعيد بناء نفسه ويؤسس عالما جديدا، من خلال ذلك التوازن العجيب بين عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء الذي نجده في هذا المجتمع المثالي.
د. عادل بوديار
كاتب