[B][RIGHT][SIZE="5"][COLOR="Purple"][FONT="Arial Black"]قصيدة النثر : المفهوم والجماليات
مقاربة نظرية

( 1 )
قصيدة النثر ، هذا الشكل الفني الذي بات يحتل مساحة كبيرة في النتاج الشعري العالمي عامة ، وفي المشهد الشعري العربي المعاصر خاصة . ولعل الكثيرين يعترضون على المسمى المطروح " قصيدة النثر " ، ويرون أنه يحمل التناقض في بنيته ، فكيف يكون قصيدة ؟! وكيف يكون نثرا ؟! وهذا مؤسس على قناعة أن القصيدة ، وفقا للموروث الثقافي الإنساني ، لابد أن تؤلف على أوزان وإيقاعات ، وأن النثر يخلو من هذا الوزن . وهذا يعود بنا إلى التفرقة البسيطة بين الشعر والنثر ، فالشعر موزون ، والنثر يضاده . أي وفقا لتعريف قدامة بن جعفر المتوارث للشعر بأنه : " كلام موزون مقفى " ، وهو تعريف مختلف عليه كثيرا من قبل النقاد القدامى والمحدثين .
ومن ثم يكون التساؤل : لماذا نعد مصطلح قصيدة النثر يحمل التناقض ؟ لماذا لا يحمل التقارب ؟ لماذا لا يكون الجمع بين هاتين الكلمتين وسيلة لجمع ما يميز القصيد وما يميز النثر ؟
هذا السؤال يتناول القضية بطريقة معكوسة ، فبدلا من الاختلاف الذي يحمله طرفا المصطلح ، سيكون النقاش دائرا في دلالة الإضافة في هذا المصطلح بين الكلمتين . أي أن هذا الشكل الأدبي يجمع جماليات شكل القصيدة الممثلة في : الصورة والتخييل والرمز والرؤية المكثفة وتوهج اللفظة وعمق الرؤيا وشفافيتها. وجماليات النثر الممثلة في : التحرر من أسر الوزن الشعري ، والانطلاق في آفاق التحرر اللفظي والتركيبي ؛ فالنثر فيه الكثير من الحرية الرؤيوية واللفظية .
( 2 )
لقد خالف النقاد العرب القدامى تعريف قدامة بن جعفر الذي يحدد الوزن والقافية كإطارين مميزين للشعر ، وهذا هو الناقد العظيم " عبد القاهر الجرجاني " يورد في كتابه دلائل الإعجاز واقعة حوار حسان بن ثابت ( رضي الله عنه ) مع ابنه ، حيث سأل حسان ولده : ما الذي يبكيك ؟ فقال الابن : لسعني طائر كأنه ملتف في بردى حبرة . فقال حسان : لقد قلتَ الشعر ورب الكعبة .
ويورد – عبد القاهر – أيضا واقعة الأعرابي الذي سئل : لمَ تحب حبيبتك ؟ فأجاب : لأنني أرى القمر على جدار بيتها أحلى منه على جدران الناس .
ويستخلص عبد القاهر من هذا الموقف : أن الشعر يمكن أن يوجد دون أوزان. أي أن الشعرية الحقة لا تتوقف عند الوزن ، بل هي التخييل المعبر عن أحاسيس متقدة ، ورؤيا نافذة ، شديدة العمق ، ويكون التعبير الجميل مطيتها .
فمن خصائص الشعر : التخييل ، الأحاسيس ، جماليات الكلمة والتركيب ، الرؤية الشفافة .
( 3 )
لقد أضافت سوزان برنار في كتابها المرجع " قصيدة النثر من شارل بودلير وحتى الآن " خصائص عدة لقصيدة النثر وهي :
- الإيجاز : وتعني : الكثافة في استخدام اللفظ سياقيا وتركيبيا .
- التوهج : وتعني الإشراق ، أي يكون اللفظ في استخدامه متألقا في سياقه ، كأنه مصباح مضاء ، إذا استبدلناه بغيره ينطفئ بعض البريق في الدلالة العامة وفي الجمال التركيبي النصي .
- المجانية : وتعني اللازمنية ، أي يكون اللفظ غير محدد بزمن معين ، فالدلالة متغيرة ، حسب السياق والرؤية والتركيب ، وتكون قصيدة النثر ذات دلالة مفتوحة ، يمكن أن تفهم على مستويات عدة .
- الوحدة العضوية : وتعني أن يكون النص كلا واحدا ، ونترك وحدة البيت، ويكون النص كله وحدة واحدة ، لا يمكن أن يقرأ بمعزل عن أي جزء من أجزائه .
إذن " قصيدة النثر " تتخلى عن موسيقية الوزن والإيقاع ، لصالح بناء جماليات جديدة ، وأساس هذه الجماليات : تجنب الاستطرادات والإيضاحات والشروح ، وهي ما نجده في الأشكال النثرية الأخرى ، وتبقي على قوة اللفظ وإشراقه ، فقصيدة النثر : تؤلف عناصر من الواقع المادي ( المنظور ) حسب الرؤية الفكرية للشاعر ، وتكون هناك علاقات جديدة بين ألفاظ النص وتراكيبه ، هذه العلاقات مبنية على وحدة النص وحدة واحدة ، ذات جماليات مبتكرة تعتمد على رؤية الشاعر للواقع المادي الخارجي بمنظور جديد ، تنعكس هذه الرؤية على علاقات الألفاظ ، وبنية التراكيب ، وقوة التخييل ، وجدة الرمز .
وهذا ما يقود في النهاية إلى إثارة الصدمة الشعرية – كما تصفها سوزان برنار- ، هذه الصدمة ناتجة عن التلقي للنص الشعري ، واللذة في هذا التلقي الناتج عن التأمل في بنية النص ، وروعة جمالياته ، ورؤياه الجديدة .
( 4 )
إن مصطلح " الصدمة الشعرية " يطرح آلية جديدة في فهم قصيدة النثر وتلقيها، ذلك أنه يتناول قصيدة النثر من منظور المتلقي ، هذا المتلقي هو المستهدف الأول للمبدع . فيكون السؤال : لماذا نعشق الشعر ؟ وتكون الإجابة : إن الشعر يدخلنا في حالة من الوجل النفسي ، ناتجة عن جماليات النص ، وشفافية المشاعر ، وروعة الأسلوب ، والنغمية المتولدة في الألفاظ والتراكيب وتلك العلاقات الجديدة التي أبدعها الشاعر بين الألفاظ والتراكيب . وهذا ما تحققه قصيدة النثر ، بدليل أنها امتلكت الكثير من المشروعية والقبول لدى المتلقين في العالم منذ ما يزيد على قرن ونصف القرن .
وتكون " الصدمة الشعرية " إحدى أبرز المعايير في تلقي قصيدة النثر ، حتى لا يعد أي هذيان أو افتعال أو تراص لفظي ، قصيدةً نثريةً كما يفعل البعض ، فقصيدة النثر شكل أدبي ، يحقق الدهشة أو الصدمة ، وهذا يتوقف على إجادة الشاعر في التقاط رؤية جديدة ، مصاغة ببنية جديدة ، قوامها الصور والرموز والتوهج اللفظي والتركيبي .
( 5 )
ومن المهم التأكيد على أن مصطلح " قصيدة النثر " يخالف بعض الشيء مسمى الشعر المنثور ، فقصيدة النثر شكل أدبي اكتسب رسوخا ، وتنظيرا واضحا، استقرت معه الكثير من الأطر الجمالية . أما الشعر المنثور فيختلف عنه، فهو عبارة عن كتابة الشعر دون وزن ، وهو الأساس لقصيدة النثر المعاصرة ، ويكاد تعريفه يتوقف عند ملامح بعينها أبرزها : التخلي عن الوزن والقافية ، والإبقاء على روح الشعر المتمثلة في الإحساس المتقد ، والصورة الخلابة ، واللفظ المنغّم . وهي محاولات تعود إلى أشكال مصاحبة للمدرسة الرومانسية للشعر ، التي ظهرت في مطلع القرن العشرين ، واستوت على يد جماعة أبوللو الشعرية ، وقد كان الشعر المنثور أو النثر المشعور أحد أشكالها ، وقد امتاز بكونه مكتوبا على هيئة الشعر ، ويعتمد على وحدة البيت ، ونغم الألفاظ ، وجمال الصورة ، وتألق العاطفة ، أي نفس مفاهيم الشعر الرومانسي وآلياته . وهو بلا شك الأب الشرعي لقصيدة النثر في الأدب العربي المعاصر ، ومن المهم قراءة تطور قصيدة النثر في ضوء تجربة الشعر المنثور السابقة .
ويجدر بالذكر أن الشعر المنثور ، يخالف بكل شكل من الأشكال ما يدونه البعض من الخواطر المكتوبة ، فالشعر المنثور نص عالي الشاعرية ، يدور حول رؤية جديدة أساسها الوجدان المتقد والجمال النصي ، أما الخاطرة فهي نثرية الطابع ، تعتمد على وصف لحظة نفسية ما ، عبر جمل وتراكيب تمتاز بالإسهاب وتخلو من الشعرية في اللفظ ، وقد تغرق في الوصف البصري لما هو مادي .

_______________________________________
عن الرابط
http://www.mrafee.com/vb/showthread.php?t=7113
****************************************
قصيدة النثر ما هي ؟
نقلا عن موقع
www.elaph.com
نقلاُ عن الأستاذ عبدالقادر الجنابي
في مؤتمر قصيدة النثر الذي انعقد في الجامعة الأمريكية في بيروت لثلاثة أيام في يومالسبت 20 آيار 2005
1- صحيح أن مصطلح قصيدة النثر كان شائعا منذ القرن الثامن عشر. فوفقا لسوزان برنار أن أول من أستخدمه هو اليميرت عام 1777، ووفقا لمونيك باران في دراستها عن الايقاع في شعر سان جون بيرس ،أن المصطلح هذا يعود إلى شخص اسمه غارا في مقال له حول "خرائب" فونلي ، وذلك عام 1791. وفي دراسة قيمة ، صدرت في باريس عام 1936 ،
حول "قصيدة النثر في آداب القرن الثامن عشر الفرنسية"، يتضح أن المصطلح كان متداولا في النقاشات الأدبية. على أن بودلير أحدث تغييرا في مصطلح قصيدة النثر، وأطلقها كجنس أدبي قائم بذاته ،بل أول من أخرج المصطلح من دائرة النثر الشعري إلى دائرة النص: الكتلة المؤطرة ولم يكن اعتراف بودلير بمرجعية اليزيوس برتران في هذا المجال اعتباطيا أو مجرد اعتراف بالجميل . وإنما كان تلميحا إلى "معجزة نثر شعري" كان يحلم بانجازها. ذلك أن اليزيوس برتران ، هذا الشاعر الرومانتيكي ، قد ترك تعليمات إلى العاملين على طبع كتابه "غاسبار الليل" ، أن يتركوا فراغا بين فقرة وأخرى مشابها للفراغ المستعمل عادة في تصميمات كتب الشعر، وبهذا يكون أول من التفت إلى تقديم نص نثري ملموم ومؤطر في شكل لم يُعرف من قبل.
كما أن بودلير كان واضحا أنه يعني شيئا جديدا غير موجود ، وذلك عندما كتب في رسالته الشهيرة إلى هوسييه ، "من منا لم يحلمْ في أيام الطموح بمعجزة نثرٍ شعري". إذن من الخطأ الكبير أن نحاول العثور على أشكال لقصيدة النثر البودليرية في ماضي النثر الفرنسي . ذلك أن بودلير في مشروعه نحو لغة شعرية تستطيع ان تتقاطب وما يتجدد مدينيا في شوارع الحياة الحديثة ، جعل كل الشظايا والقِطَع التي كتبت قبله ، تنام كأشباح في ليل النثر الفرنسي ؛
آثارا توحي ولا تُري أية إمكانية نظرية تأسيسية.
2- من الخطأ الشائع اعتبار قصيدة النثر تطورا للنثر الشعري الكلاسيكي الفرنسي وتكملةً له.
ذلك أن ما كان يُطلق عليه قصيدة نثر هو أعمال روائية تتوسل محاسن البديع وتستعير إيقاعات النظم ، لكي ترتقي إلى مصاف الأعمال الشعرية. بينما قصيدة النثر هي قصيدة أداتها النثر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن، أولا، السبب وراء الفكرة التي تقول أن ظهور قصيدة النثر كان تصديا لطغيان العروض ، هو أن النثر، أداة قصيدة النثر، خال من كل قواعد عروضية وبالتالي يمنح حرية أكبر للشاعر لكي يعبر عن انفعالاته الباطنة.
وثانيا : أن تصاعد الرومانتيكية أعطى معنى جديدا لمفردة "الغنائية" lyrique. فبعد أن كانت تُطلق على الشعر الذي يُنظم بقصدِ التغنّي به في موضوعات أو الرواية أو السرد القصصي على أوتار القيثارة القديمة المسماة بالليرا أي القيثارة ، (وهذا يعني ان عنصر الموسيقى جزء حاسم في صياغتها) ... صار لها معنى جديد اعتبارا من الربع الأول من القرن التاسع عشر،
هو: الوظيفة المشاعرية كالحسية المُعبَّر عنها بالصور، بالعاطفة الفردية وأحاسيس الفرد الداخلية ، وباتت مصطلحا يطلق على كل عمل أدبي حتى النثر (وفقا لقاموس ليتريه) يعبر عن الوجدان والعواطف ومتحرر كليا من مضمرات الموسيقى : واقترِحُ كلمة "الوجدانية" كمقابل لـ Lyrique لكي يتضح هذا التغيير الانقلابي والحداثي في الحسية الشعرية التي مهدت الطريق لظهور قصيدة النثر.
3- قصيدة النثر ولدت على الورقة أي كتابيًّا وليس كالشعر على الشفاه أي شفويا. لم ترتبط بالموسيقى كالشعر ولم يقترح كتابها أن تُغنّى ، ولا يمكن أن تُقرأ ملحميا أو بصوت جهوري
يحافظ على الوقفة الإيقاعية القائمة بين بيت وآخر/ سطر وآخر كما في قصائد حركة
"النظم الحر" (وأقصد Vers Libre، لأن ترجمة هذا المصطلح بـ"شعر حر" يخلق سوء فهم مفاده أن الصراع بين الشعر Poésie والنثر، بينما في الحقيقة الصراع هو بين النثر والنظم). إن غياب التقطيع أو التشطير في قصيدة النثر يشكل علامتها الأساسية.ففي النظم الحر، في نهاية كل سطر / بيتٍ فراغ يسميه كلوديل البياض.. وهذا البياض هو لحظة تنفس إيقاعي ضروري لجمالية القصيدة المشطّرة ،كما يتغير فيها الإيقاع من شاعر إلى شاعر بسبب هذه الوقفة القطع في سير الإيقاع ،هذا البياض يمنح القصيدة الحرة هيئتها الشعرية ، بينما قصيدة النثر تكتسب هيئتها وحضورها الشعري من بنية الجملة وبناء الفقرة... والبياض غير موجود (رغم وجود الفواصل والعلامات فيها لأسباب يقتضيها بناء الجملة) إلا في نهاية الفقرة التي تجعل القارئ مستمرا في القراءة حتى النهاية.
وألا ننسى أن أغلب قصائد النثر تتكون من فقرة واحدة ، وبعضها من فقرتين. علينا ألا ننسى أيضا أن "الشعر" كلمة عامة وشاملة يمكن أن تطلق على أي شيء ، بينما كلمة قصيدة تدل على وجود مستقل، بناء لغوي قائم بذاته...
4- قصيدة النثر لا يختلف بناؤها عن قصر المتاهة المذكور في الأساطير اليونانية. يمكن لشاعر قصيدة النثر أن يبدأ من أي مدخل يشاء :
"كان يا ما كان... ""عندما كنا... ""ذات ليلة، عندما.... "
أو على طريقة الشاعر الصديق عباس بيضون ، التي تختار الدخول على نحو مفاجئ :
"الأربعة النائمون على الطاولة وسط الجبال لم يشعروا بخيال الطائر وهو يتضخم في الغرفة.."
المدخل إذن سهل جدا ، ما هو صعب المنال في كتابة قصيدة النثر هو الخروج/ نهاية القصيدة.
لا يكفي أن تعرف كيف تبدأ فحسب وإنما عليك أن تعرف كيف تخرج من ، أي تختم القصيدة ،
كما يقول روبرت بلاي.
5- شاعر قصيدة النثر يَعرفُ مسبقا وذهنيا وإلى حد ما حجم الكتلة/ مساحة القَصر. ذلك أن قَصر المتاهة بناء مكون من حيطان تتعاقب وتتقاطع؛ قصيدة النثر فقرة مكونة من جمل تتلاحق بحدةٍ شديدةٍ هبوطا مما تدفع القارئ إلى أن "يستقرئ العواطف البعيدة أو يجسّ الرِعدات الدقيقة... مستضيئا بالجملة اللاحقة ليُبصر السابقة"، كما قال بشر فارس في تلخيصه عن نوع من القصة القصيرة دون أن يدري انه كان يعرف قصيدة النثر.
6- على أن هناك عنصرا مكونا أساسيا الذي فقط من خلاله يمكننا أن نُميز قصيدة النثر عن باقي الكتل ، النصوص والأشعار النثرية. إنه اللاغرضية (والبعض يترجم gratuité بالمجانية). وهو أشبه بالخيط الذي أعطته أريان إلى ثيسيوس الذي بقي يتتبعه حتى عرف طريقه الى المخرج من المتاهة.
الاختصار brièvetéإذن ، هو نتيجة تقاطب عنصرين اساسيين يعملان داخل قصيدة النثر،
كل وفق حركته ؛ قاعدته : الحدّة intensité حيث السرد المتحرك المنقطع السلك بين حائط وآخر، جملة وأخرى ، يشدنا بسلسة واحدة من البداية حتى النهاية دون أي تباطؤ.. واللاغرضية gratuité ، هو سلك الخيط الذي يقود من المدخل / البداية إلى المخرج /الخاتمة وعلينا أن نتتبعها وإلا سنضيع في متاهة نثر شعري له ألف رأس وألف ذيل ، بينما غايتنا كتلة "لا رأس لها ولا ذيل" كما وضح بودلير..تكمن شعرية قصيدة النثر في هذه اللاغرضية... المجانية. فالنثر بحد ذاته غير قادر على التخلص من وظيفة الوصف بغرضية منطقية. فبفضل عنصر اللاغرضية، يتخلص السرد الذي هو سمة رئيسية في قصيدة النثر، من جفوته، ومنطقيته النثرية، فهو هنا ليس وصف مخطط روائي يريد أن يصل إلى نتيجة ما ، وإنما لغرض فني جمالي محض. عندما يبدأ أنسي الحاج قصيدة له بـ"ذلك العهد يدُ ماموت لم تكن ظهرتْ..." "ذلك العهد" ليس هنا لغاية سياقية تاريخية معلومة ، وإنما لخلق إيحاء جمالي لحدث غير موجود.
7- يجب ألا نخلط بين قصيدة النثر والشظية الفلسفية كما عند نيتشه، ففي هذه الشظايا/ الكتل النثرية القصيرة، ثمة قصد فلسفي وغرضية واضحة ، أو متسترة وراء موعظة ما.
قصيدة النثر هي النثر قصيدةً : كتلة "يتأتى قصَرُها من نظامها الداخلي ، ومن كثافتها النوعية ومن حدتها المتزنة". ليس لها أية غرضية، بل خالية من أي تلميح إلى مرجع شخصي :
كتلة قائمة بذاتها.. أو كما كتب الشاعر الفرنسي ادموند جالو عام 1942،"قطعة نثر موجزة على نحو كاف، منتظمة ومرصوصة مثل قطعة الكريستال يتلاعب فيها مائة انعكاس مختلف
... إبداع حر لا ضرورة أخرى له سوى متعة المؤلف ، خارج أي تصميم ملفق مسبقا ، في بناء شيء متقلص، إيحاءاتُه بلا نهاية، على غرار الهايكو الياباني"
8- "تنطوي قصيدة النثر" النثر، كما تقول سوزان برنار، "في آن على قوة فوضوية،هدامة تطمح إلى نفي الأشكال الموجودة، وقوة منظِمة تهدف إلى بناء (كلٍّ) شعريٍّ؛ ومصطلح قصيدة النثر نفسه يُظهرُ هذه الثنائية". في قصيدة النثر، إذن، توتر كامن يطيح بأية إمكانية توازن بين نقيضين بقدر ما يحتضنهما. وهذا يعني أن قصيدة النثر، كما تقول بربارة جونسن في دراستها الرائدة عن ثورة بودلير الثانية، تتسم بقوتين: إذا الشعرُ هو عَرْضٌ ذو سمة بمواجهة النثر كعرض بلا سمة واضحة، فقصيدة النثر إذا، تتميز بقوتين متعارضتين: حضور ضد غياب السمة و"إحالة الى قانون الشعر" ضد "إحالة الى قانون النثر"... فقصيدة النثر لا هي نقيض ولا هي توليف، إنما هي المجال الذي اعتبارا منه تبطل وظيفة الاستقطابية وبالتالي التناظر بين الحضور والغياب، بين الشعر والنثر". ومن هنا يتفق معظم النقاد على أنهم أمام جنس أدبي شاذ غرضه تهديم الأنواع genres . ناهيك من أن شكلها الوحيد الأوحد، ينطوي أيضا على بعد تهديمي بصري وبالتالي مفهومي ، يقوم بنسف الأفكار المسبقة والعادات المفهومية لدى القارئ الذي ما أن يرى أبياتا أو عبارات مقطعة حتى يصرخ أنها قصيدة، إذ في نظره ليست نثرا.
8- سيداتي سادتي : ما هي قصيدة النثر؟ إنها كل هذا وليس.
لكن الشيءَ المؤكد هو انها نقيض قصيدة النثر العربية السائدة التي لا تلبي مطلبا واحدا مما أتفق جل النقاد عليه، رغم كل الاختلافات بينهم، بشأن قصيدة النثر. هناك أنماط من قصيدة النثر: البارناسية، الرمزية، التكعيبية، السوريالية، الظاهراتية، والأمريكية الغارقة بقضية اللغة والسرد الغرائبي. لكن في كل هذه الأنماط، الشكل واحد أوحد: كتلة قوامها نثر متواصل في جمل تجانس أي نثر آخر.
9- بطبيعة الحال يحق لكل شاعر أن يكتبَ كلٌ وفق نبض أحاسيسه وصوته الخاص، وليسمّ مخلوقاتَهُ كما يشاء، فقط عليه أن يَعرفَ إن مصداقية الشكل والمضمون هي عين ثقة الشاعر بما يقول. وقد يعترض شاعر على أن التسمية ليست ضرورية، ربما، لكن لماذا يسمي "قصيدة نثر" عملا اعتنى بتقطيعه موسيقيا متوسلا كل المحاسن البديعية التي ترفضها قصيدة النثر...
بل حتى شدد على وقفات تُعتبر عاملَ بطءٍ إذا استخدمت في كتلة قصيدة النثر؟
أليس اعتباطا أن يسمّيَ شاعرٌ يكتب عادةً أشعارا موزونة، كلّ قصيدة لا يتمكن من ضبطها عروضيا، قصيدة نثر وليس شعرا فحسب! وكأن الشعرَ في نظره ليس سوى تفعيلات قُررت سلفا.
10- رفض الحدود المرسومة لا يتم إلا عندما يعرف الشاعر ما هي هذه الحدود، وبماذا تتميز...حتى يكون لرفضه فضاؤه هو، مُنقى من كل شوائب التسميات التي كانت من طبيعة تلك الحدود المرفوضة. لقد وقف بروتون ضد فكرة الأجناس الأدبية، معتبرا أن الشعر تعبيرٌ عن استرداد المخيلة البشرية لحقوقها، وليس جنسا أدبيا خاضعا لقوانين مدرسية.... ومن هنا لم يسمّ كـُتـَلهُ النثرية قصائد نثرية رغم أن النقادَ يعتبرون بعضَها قصائدَ نثرٍ بامتياز!إن الإصرار على تسمية عمل جوهرُه يتعارض ، شكلا ومضمونا، مع ما يتميز به هذا الاسم، لهو في نظري، تعبيرٌ عن اعتباطية العمل نفسه.
_______________________________________

لحظة في ظل القصيدة النثرية المعاصرة للأديبة فاطمة الزهراء العلوي


{الشعرالمعاصرهو منعقد الأهوال في الثقافة العربية منذ الخمسينيات إلى الآن} * محمد بنيس
ولعل أهم إشكال واجهته القصيدة ووقف عنده السؤال كثيرا هو " البيت " كسكن للنص الشعري
فإذا كان الناقد القديم يعتبر البيت المفرد أساس بناء النص { والبيت من الشعر كالبيت من الأبنية } *ابن رشيق ..
فان هذا البناء هو "سجن " مع البيت الجديد "البيت الحر" ومن هنا جاءت التسمية ،وطالب رواد التحول البنيوي لشكل القصيدة في ربطها ربطا عضويا دالا ومدلولا بالانطلاق والحرية إلى آفاق شكل يتلاءم ومستجدات العصر حيث الشاعر مطالب إن يجد طرقا أخرى ليقول كل مواطن الحياة الجديدة
يقول يوري تينيانوف{ إن " البيت الجديد" كان حسنا ، لا لأنه " أكثر موسيقية أو " جودة" ولكن لأنه كان يوجد حيوية في العلائق بين مختلف العناصر .وهكذا فإن النمو الجدلي للشكل ،وهويعدل ارتباط مبدأالبناء بالعوامل المتصلة به، ينقذ فيه الوظيفة البنائية }*بنيس
يذهب "أدونيس " قائلا في هذا الصدد وما يتلاءم معه{ ليس الشعر استعادة بل شهوة.وكما أن الطفل يلعب لكي يبطل أن يكون طفلا ، كذلك الشاعر يكتب ليكون مايشتهي وليمتلك حياته الحاضرة.فالشعر يضعنا دائما على عتبة زمن آخر،بدء جديد لحياة مختلفة .إنه مغامرة ،لكنها مغامرة فرح ورجاء .وكل مغامرة تربطك بالمستقبل }
{ما ورثته عن آبائك اكتسبه بغية امتلاكه ..} فالإقامة في القصيدة القديمة والبيت القديم ليس معناه استنساخه حرفيا ولا الابتعاد عنه نهائيا بل مساءلة هذا الإرث للإقامة فيه مع متطلبات المستجدات الحديثة
بمعنى ربط العلاقة العضوية مركزية ما بين الدال والمدلول في أعمق رباطهما وخلفياتهما المتناصرة بقوة التركيب اللغوي
لأن { المعنى هو فعالية العلاقات التي ينتجها الكلام.يكون المعنى غنيا بقدر نا تكون هذه العلاقات غنية. وفي هذا الحيز ، يمكن القول إن " الشكل " هو المعنى .النقد ، في بعض وجوهه ، هو الكشف عن هذه الفعالية}أدونيس.
فهل إشكالية القصيدة اليوم هي إشكالية غياب نقد ؟؟؟
يجيب ألقاسمي وهو شاعر وفنان تشكيلي مغربي عن هذه العلاقة الوطيدة ما بين الكتابة والقراءة لكشف خيط ماورائيات الكلمة في أوجهها المتعددة قائلا{ الكتابة هي في الأخير نتاج تساؤلات حيث يلتقي التفكير بالكلام إلى جانب التفكير بالتركيب أو إبداع رموز لتتحول جميعها إلى عمل بصري معين، او نص شعري معين ..}
وهنا العلاقة الجدلية ما بين القراءة والكتابة ما بين الدال والمدلول ..
{ القراءة التي لا تربط جدليا ما بين سؤال الإرجاع والواقع هي قراءة لا تنتج } نجيب العوفي.
فالبيت الجديد سيأخذ هذا المعيار الثقيل في بنيوية هندسة القصيدة ، شكلا ومضمونا قراءة وكتابة ، كلحظتين منفصلتين زمنا ، متصلتين قراءة
{ البيت الجديد هو مسكن لذات كاتبة جديدة لها مستلزماتها كما لها تاريخها الخاص بها ، بيتا لكل الأزمنة ولا لكل الذوات } احد النقاد .
وكتجربة مقراة ما بين البيتين في الزمنين القصيدة القديمة والحديثة المعاصرة لتبيان أهمية التداخل العضوي ما بين الدال والدوال في التجربة الجديدة ، امرئ القيس وصلاح عبد الصبور والموضوع المرأة / الحبيبة لنقارن على سبيل التبيان
يقول عبد الصبور
جارتي مدت من الشرفة حبلا من
نغم
نغم قاس رتيب الضرب منزوف القرار
نغم يقلع من قلبي السكينة
نغم يورق في نفسي أدغالا حزينة
ويقول امرؤ القيس في نفس سياق الكلام عن المرأة
أفاطم مهلا بعد هذا التدلل
وإن كنت أزمعت صرمي فأجملي
أغرك مني أن حبك قاتلي
وانك مهما تآمري القلب يفعل
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي
بسهميك في أعشار قلب مقتل
في المقطع الأول مع شاعرنا عبد الصبور نلاحظ تجاوب المفردات { والمدركات وتتجاوب والإحساسات ،فيغدو المسموع مرئيا والمرئي مسموعا والمحسوس معنويا والمعنوي حسيا.والاستعارة المكنية الأساسية تتحول إلى استعارة مرشحة تتولد منها تشبيهات واستعارات فرعية متداخلة ، موقعة توقيع تفعيلة الرمل /فاعلاتن/ / التي تتاو بالمعنى الموزع على قافية ثنائية ترد على القافية الاستهلالية } د.جابر عصفور / مجلة العربي.
بينما مع شاعرنا امرئ القيس فلغة الحب {هنا ماخوذة من لغة الحرب . والحب هنا هو هو نفسه حرب:معركة- تخطيط ، هجوم على المكان الذي تتحصن فيه المرأة المحبوبة ، حصار ...إلى أن تستلم..
لكن منذ أن تستسلم يسقط هو، الفاتح ، أسيرا بين يديها ..وتلك هي المفارقة في معركة الحب .الأسر هنا معنوي ، يرمز له امرؤ القيس ببكائه قرب دار الحبيبة ، وبالتوسل اليها ان تجمل ..} ادونيس
والدلالات التي توشحتها المدلولات ما بين المقطعين بينة وواضحة
فرغم اللحظة الحانية مع امرئ القيس وتوسلها فلم ترقى لغته إلى جوانيات اللحظة الحانية مع صلاح عبد الصبور في المقطع الاول وعمق الصورة .. فهنا توحد الرؤية العضوية ما بين الذات الكاتبة والمخاطبة الحبيبة مابين البراني والجواني ما بين الشكل والمضمون ..
تقول خالدة سعيدة {أن تمتاز القصيدة بالوحدة العضوية ، يعني ان تكون نسيجا حيا متناميا .وهذا مرتبط بصفة أخرى أظهرت في أواخر الخمسينيات.وكان السياب من بين القائلين بها هذه الصفة – هي القصيدة – الرؤيا." النهر والموت" نموذج للقصيدة الرؤيا } خالدة سعيد .حركية الإبداع .
إلا أن البناء الحر كمسكن للقصيدة ، للغة سينفجر مع الرومانسيين وهذا ما اسماه "جبران خليل جبران" {الإبداع والابتكار} يقول في هذا الصدد { ...فمستقبل اللغة العربية يتوقف على مستقبل الفكر المبدع الكائن – أو غير الكائن – في مجموع الأمم التي تتكلم اللغة العربية .فإذا كان الفكر موجودا كان مستقبل اللغة عظيما كماضيها ، وان كان غير موجود فمستقبلها سيكون كحاضر شقيقتها السريانية والعبرانية ..} جبران الأعمال الكاملة نقلا عن بنيس.
ففي الخطاب الشعري المعاصر تقوم شعرية الإيقاع على أسبقية الدال وربما{ كان الإيقاع هو الدال الأكبر } لأنه ليس دليلا فهو يـُبـَنـْيـِنُ الخطاب كدال وبما ان الخطاب { غير منفصل عن معناه فان الإيقاع غير منفصل عن معنى هذا الخطاب} ميشونيك .
النثر والقصيدة النثرية أعتقد بأن البداية كانت منذ امرئ القيس وبشار بن برد منذ الأوائل....
ثم كبر السؤال مع الشاعر المعاصر وقبله الرومانسين ،عن بناء النص الشعري { وتعدد أنماط بناء النص أساسا ثم التأملات والتحليلات النظرية المواكبة للمارسات النصية تثبت التساؤل ، تنحته وتهبه شكلا متحركا لا يـَنـِي عن تغيير مكانه .أساس التساؤل تولد عن الانشغال بتحديث الشعر العربي ثم تحول الى هم لدى الرومانسيين العرب في بناء نص شعري له شجرة نسبه في القديم العربي " الموشحات" أو " الحديث الأوروبي " السوناتة"}
إذن فالتغيير لا ينسلخ نهائيا من خيمة العطاء الخليلية فالموسيقى تحكم بنية النص النثري ومن أساسياته الفنية
التساؤل أكبر من تحديث على مستوى الشكل هو في بعده الأنطلوجي علاقة ما بين { الإنسان واللغة والكون} هو "مسالة وجودية " بالدرجة الاولى
وأدونيس مثلا في استيعابه لوظيفة اللغة الشعرية أصبحت معه لغة مفارقة وبنية معزولة عن الاعتيادية { لغة تحتمي بلعبتها الداخلية وهي تقيم احتفالا ل " كيمياء الشعور"
لقد انتقل الشاعر المعاصر ، من قيد الشكل الى مضمون النص وربطه هذه العلاقة العضوية ما بين سؤال الإبداع وسؤال الإرجاع ،فتغيرت وفق ذلك وظيفة اللسان كمحرك لآلية الكلام والتعبير .
فالشاعر لا يفكر { في القاعدة حين يكتب .اللغة فيه قبل القاعدة } حيث ينحت كلماته من حضوره الواقعي ومن { سياق وجوده الثقافي – الإجتماعي ، من التموج اللغوي – الحياتي الذي يتحرك داخله وينمو فيه .بل ان هذه الكلمات تفقد دلالاتها المعجمية ، حتى أننا نشعر ، فيما نقرؤها ، أننا لا نقرا كلمات ، وإنما نقرا أصداء حروف ، أو نقرا شحنة نفسية وتخيلية وفكرية ، ترشح ُ من هذه الحروف وعلاقتها ن حتى لتبدو الكلمات أفرغت كليا من معناها المعجمي أو مما وضعت له في الأصل اللغوي } ادونيس
وهنا المفارقة بين الشكلين البيت القديم والقصيدة اليوم.البيت الحر والسكن الحر ..
ويضيف ادونيس في نفس المقام { أميز بين نوعين من الشعراء
الأول يمكن وصفه بأن اللغة هي التي تكتبه ن وهو من يكون قابلا ، يتبنى الموروث بمفهوماته ، وطرائق تعبيره .لا يطرح حولها أي سؤال .ولا يبتكر أي اعتراض.
والثاني هو من يمكن القول عنه بأنه يغير طرق الكتابة ن ويمارسها في الوقت نفسه قراءة مغايرة لنتاج الماضي.وهو في ذلك، يغير الرؤية السائدة للعالم عبر الشعر .وهنا ينحصر الدور التعبيري للشعر:فيما يغير الشاعر إشكال التعبير ، يغير طرق الإدراك والرؤية في العلاقة بالأشياء والزمن ..}
أن الأسس النظرية لحداثة الشعر المعاصر { يستحيل اختزالها في عنصر أو نسق أو محور.وانفتاح مغامرة ، هذا الشعر ، بحثا عن حريته وحداثته، لم تأت دفعة واحدة ، ولا خارج الواقعي والكوني ...} محمد بنيس .
ومع ذلك فتجربة الشعر المعاصر سمة المختبر الشعري { لقد أعطت للفردي والكوني ان يتجانسا في الفضاء النصي } يضيف بنيس قائلا دائما
ولا يزال السؤال مفتوحا على كل منافذ العطاء في القصيدة الشعرية اليوم وعبر تجلياتها من خلال الانفتاح على كل قضايا المجتمع .
أحبتي هذه نظرة من سياق مجمل الحديث عن إشكالية تطور القصيدة واللغة في المتن الشعري المعاصر حاولت أن أكون لحظة استماع لمواكبة هذا التطور من أقلام مبدعة ناقدة أسست لهذه الصيرورة
والأمثلة لم تكن حصرا بل على سبيل سياق الكلام .



إشكالية الإيقاع في قصيدة النثر

حين سئل أبو حيان التوحيدي : لم لا يطرب النثر كما يطرب النظم ؟ أجاب لأننا منتظمون فما لاءمنا أطربنا " وهذا الرأي يلخص الموقف التذوقي والنقدي للشعر في التراث العربي منذ قصائد العصر الجاهلي وحتى وقت قريب ، أما تجربة قصيدة النثر فقد نظر أصحابها إلى جوهر الشعر وتعاملوا معه لامع قوانينه التي تغيرت تبعا لاختلاف الذائقة وإيقاع الحياة . وهم يرون أن الشاعر الحقيقي لا يقف عند شرطي الوزن والقافية بل تنطلق رؤاه من نقاط تعبيرية وفنية تخضع لموهبة الشعر . يقول باشلار عن تشكل التعبير الشعري والصورة الشعرية (( هي بروز متوثب ومفاجئ على سطح النفس ، لا تخضع لاندفاع داخلي وليست صدى للماضي ، فمن الصعب معرفه على أي عمق يتم رجع الأصداء وكيفية تلاشيها )) .(1)
ومما لاشك فيه إن من أهم عناصر البنية النصية في المفهوم الشعري سواء في قصائد الشعر الحديث والمعاصر أو الشعر القديم هو ما يمكن أن نطلق عليه ( مصطلح نظام الأصوات ) ليضم في نطاقه الوزن والإيقاع وضروب الترجيع والتكرار والوقفات والنبرات والتردد والإقدام والعلو والدنو .
إن كل ما من شأنه أن يحدث في النص تموجات وذبذبات باعتبارها جميعا إذا اتسقت وتناغمت ووظفت وجعلت في نسق أحدثت ضروبا من الموسيقى المقيسة على وفق النظام العروضي القديم أو على وفق أي نظام إيقاعي آخر جديد ينبع من إيقاع الحياة أو إيقاع العمل دون أن تكون له صورة مسبقة الصنع . وبذلك يشمل فهمنا هذا جميع أنواع الشعريات الصوتية التي تلتزم في صياغتها اسلوب الأداء الموسيقي في عنصرين رئيسيين : هما التناغم والانسجام . (2)
من المعلوم أن دراسة الظواهر الشعرية معزولة كدراسة الإيقاع أو الصورة أو الرؤيا لايمكن أن تخلق لها خصائصها وسماتها المتفردة التي تصلح معايير التفريق بين أنماطها بل إن ما علينا هو دراستها ضمن مفهوم شبكة العلاقات التي تشكل البنى الكلية .
لقد لاحظ ( كمال أبو ديب ) ملاحظة ذكية في هذا الصدد وهي انه كلما أمعنا في الشعر في الاعتماد على الصورة الفنية ابتعدنا عن التركيز على موسيقية الأداء والعكس صحيح .(3)
برغم التطور البطئ للإيقاع على المستويين النظري والعملي (( فأن دارسي الشعر الحديث في ضوء علاقته بالموسيقى والإيقاع مازالوا يبدءون من نقطة الصفر ، مازالوا يتحدثون عن مسائل الوزن والقافية والعروض الخليلي وغير الخليلي وطبيعة الشعر العربي وجوهر الإيقاع وماهيته وضرورته أو عدم ضرورته للنص الحديث .(4)
ولهذا فمن المسلم به أن الشعرية بصورة عامة لايمكن أن تهمل عنصر الإيقاع بسبب وجود علاقة بين الإيقاع وبين العصر لأنه جزء من حركة الحياة يتغير بتغيرها ويلبي حاجاتها ولوجود علاقة صميمية بين أشكال التعبير الشعري وبين تغيرات الإيقاع وتحولاته .
في اعتقادي – كما يعتقد الكثيرون – إن أولئك الذين يرون أن الإبداع الشعري لا يكون بالتحلل من التقاليد أو القيود ولا سيما الوزن والقافية ويحملون الرأي العام بأنه يطالب بشعر يطرب له ويصفق له حين يسمعه هم بالتأكيد واهمون لأن ذلك ببساطة يلغي فعل الزمن حين يجعل من الإبداع القديم النموذج الأسمى الذي يصبو إليه كل إبداع .
إذاً فإشكالية الإيقاع هي جزء من إشكالية الموقف في التراث . ولكن الأمر قد تطور كثيرا فحين بدأت نازك الملائكة في كتابها ( قضايا الشعر المعاصر ) تؤسس لإيقاع التفعيلة معتمدة الأبحر الصافية ، نجد أنها ما لبثت أن أجازت استعمال الأبحر الممزوجة في مقدمة طبعته الرابعة .(5)
مما حدا بالناقد محمد النويهي في كتابه ( قضية الشعر الجديد )(6) لأن يلفت النظر إلى مسألة ( النبر ) ثم خطا كمال أبو ديب في كتابه ( البنية الإيقاعية في الشعر العربي ) إذ بين أن موسيقى الشعر ليست وقفا على عروض الخليل وان أبحره لا تمثل إلا وجهة نظر وحيدة الجانب في القضية . (7)
وإذا عدنا إلى التطبيق والنصوص الشعرية فسوف نراها قد تجاوزت ما اقترح لها من إيقاعات تجاوزت الوزن وتجاوزت حركة التجربة الشعورية التي هي أساس النص القائم على التفعيلية لتبني لها مع قصيدة الحداثة – قصيدة النثر – أنظمة صوتية مغايرة تعتمد على العين والمكان وإيقاع التأمل والتلقي : إلى درجة إن النص أصبح نصا يشاهد ويرى ويتأمل حلت فيه العين محل الأذن والصمت محل إيقاع الحركة ، حتى أصبح النص بمثابة تسجيل الحالة وليس التعبير عنها فقط وبمفهوم آخر برز في النص الشعري إيقاع الصورة بدلا من إيقاع الغناء وبسبب هذا الإيقاع اتجهت الكتابات الشعرية نحو التوزيع والمساحات البيضاء والإشارات والأسهم مما يذكرنا بان طريقة القول هي الأكثر أهمية مما يقال وبالتالي فهي الأكثر شعرية وهذا الرأي يذكرنا برأي الجاحظ الذي عرضه في ( البيان والتبيين ) من أن المعاني موجودة على قارعة الطريق وان العبرة بالصياغة وطريقة الأداء.
لابد أن هنالك هاجس تجريبي لشعراء قصيدة النثر ليراهنوا على قوة التأثير وهو التجريب في الشكل أو اللغة والسؤال هنا هو هل هنالك بلورة شكلية استقرت عليها قصيدة النثر يقول جمال جاسم أمين في كتابه ( أسئلة النقد ) إن مثل هذه المسألة تعود بنا إلى ضرورة التذكير بأن قضية الإشكال هي توصيفات نقدية مقترحة لتحقيق غاية الشعر الأمر الذي يجعل من الشعر بوصفه جوهرا هو المطلب الأساس وعلى الشاعر أن يتحرى هذا المطلب بأساليب .. على وفق ما تتطلبه ظروف تجربته الشعرية . (
ويقول أيضا ( إن لغة النثر اقرب إلى التأملات الذهنية من نبرة الوزن ولعل هذه المسألة هي إحدى الطروحات التي اعتمدتها قصيدة النثر في تكريس مشروعها النظري ).(9)
على هذا الأساس فان المعرفية التي تنحاز إلى النثر هي على الضد من الإيقاع لأنها تؤدي إلى إضعافه ، إذ لايمكن فصل الحقيقة الشعرية عن تعبيرها ، لقد أدركت بعمق أن المشكلة الشعرية مرتبطة بمشكلة اللغة ارتباطا وثيقا . وحيث أن آلية الشعر الموزون المقفى أكثر دقة من الكلمات نفسها فان هذه الآلية تعلو على التوافق بين الصوت والمعنى وبين الفكرة والإيقاع فالتجربة الشعرية تترجمها اللغة .
ينبغي أن نطمح دائما إلى أهداف تتعدى أهداف النثر العادي الشائع وان نبتعد عن الصفات المجانية والغموض وان نتخلص من كل تزويق لفظي وزخرفة ترسمها العناصر المختلفة بأسلوب تنوع النبرات وعلاقاتها برسم الجملة الشعرية .
يبدو أن الانسجام العام في القصيدة هو الذي سوف يعطي لها ( نغمتها ) الخاصة بها لكي نحرص على وحدة الجو العام ونتلافى كل تنافر مقزز في الأصوات للحصول على بنية متوازنة لجسد القصيدة . علينا أن نستخدم النبرات الإيحائية لاغناء القصيدة .
نحن نستفيد الآن في قصيدة النثر من شكل حر جدا ، مفتوح لنستقبل فيه كل القياسات الموسيقية تلك التي تتعدى حدود التقرير المجرد .. ذلك أن الانطلاقة المفاجئة اللاهثة المبنية على أسس هندسية معمارية خلابة سوف تعطي للقصيدة روحا وجسدا ، وتكسبها وجودا أدبيا خاصا .
فقصيدة النثر نشاط ذهني حقيقي يحرر الفرد ويفترض فلسفة بأكملها عن العالم ، وقد أعطت زخما جديدا للشعر ، لأن هنالك عوالم مجهولة تفتحها وفجوات واسعة في العالم المرئي تحاول أن تقتحمها بعيدا عن الفردية المتحمسة ، ولأنها محاولة ناجحة لتخطي الامكانات الطبيعية للغة ، إنها تحاول تحفيز عدة عوامل في آن واحد كما هو الشأن في مقطوعة موسيقية ، فالأذن إذا كانت قادرة على سماع عدة أصوات في آن معا فان الذهن لا يستطيع متابعة أكثر من موضوع في وقت واحد إذ لابد من وجود مدة زمنية ليكون هنالك بعد فضائي للانسياب اللغوي . وبناءً على هذا لابد لقصيدة النثر أن تمارس ذلك الانسياب التزامني كي تبدو كأنها وميض مكثف جدا أكثر من كونها بناء في الزمان .
أن الإيقاع النثري هو خلق لغة شعرية جديدة أكثر مرونة وتنويعا يتكيف مع حركات الروح الغنائية وتموجات الخيال ورجفات الضمير ، حيث انه من الممكن إعطاء النثر إيقاعا وتناسقا في قصيدة جيدة الرصف وذلك بأحكام البناء الإيقاعي الخلاب من خلال الرغبة في إيجاد طرق صورية تعطي إيقاعا ملحوظا بهندسة محكمة .
يقول – اوليفيه – معرفا الإيقاع بأنه ( اجتماع أزمنة عديدة تحتفظ فيما بينها بنظام ما وببعض النسب )(10) في هذا التعريف نجد أن اوليفيه يشير إلى عنصرين رئيسيين هما ( نظام محدد ) و ( نسب ) وتعلق سوزان برنار قائلة ( بوسعنا القول إن الإيقاع سيولد حينما يكون نظاما محددا وعلاقات تناسب ملموسة في المجموعات الإيقاعية الطويلة تقريبا أو المتعددة التي تشكل وحدة من الدرجة الأولى ( بيت شعر ) أو من الدرجة الثانية ( مقطع ) لأن الجزء الإيقاعي – وهو ما يسميه الرمزيون ( التفعيل الإيقاعي ) تشكله كلمة آو مجموعة كلمات يكون المقطع الأخير فيها مشدداً . (11)
اذاً فنحن نبحث عن تأثيرات إيقاعية حيوية ومدهشة في قصيدة النثر ، وأيضا نبحث عن عناصر شعرية في النثر بطريقة الإيقاع النثري لنحصل على نتائج شعرية جديدة تماما ، وبناء على ذلك سيكون بمقدور النثر الإيقاعي أن يدخل ( الحدث ) في الشعر عن طريق المفردات وبناء الجملة الشعرية .
إن الإيقاع في قصيدة النثر ينبغي أن يخضع لقوانين غير القوانين التي تدير النثر الخطابي ليكون كيانا فنيا من أهم صفاته الوحدة العضوية والتركيز والشفافية المهمة لإثارة الهزة الشعرية .
إن نتاجا شعريا – أي نتاج – ينبغي أن تحكمه ( علاقات ) سواءاً على الصعيد الأفقي ( السياقات النغمية ) أو على الصعيد العمودي ( التناسقي ) بين مختلف الأصوات / الرنين – المعنى – الإيحاءات .
وأخيرا إن قصيدة النثر في أدبنا العربي الحديث – على الرغم من حداثة عهدها / قد أعطت نماذج رائعة وهي تتجه إلى صيغ أكثر حيوية ، وهي أداة شعرية جديدة ، إنها قبل كل شئ علم عروضي جديد مبني على الإيقاع وليس على البحر مما يمنحها خصوبة فهي ليست مجرد شكل انتقالي بقدر ماهي صيغة إيقاعية جديدة.
الهوامش :
1. سوزان برنار- قصيدة النثر
2. يوسف جابر- قضايا الأبداع في قصيدة النثر
3. كمال أبو ديب – الشعرية
4. نعيم اليافي – أطياف الوجه الواحد
5. نازك الملائكة- قضايا الشعر المعاصر
6. محمد النويهي – قضية الشعر الجديد
7. كمال ابو ديب – البنية الأيقاعية في الشعر العربي
8. جمال جاسم أمين – أسئلة النقد
9. 9- المصدر اعلاه
10. سوزان برنار – قصيدة النثر
_______________________________________

عن الرابط
http://hass.ace.st/montada-f43/topic-t18.htm
**************************************
ثلاث حوارات حول قصيدة النثر
بقلم : محمود الأزهرى

مضى قرن ودخلنا نحن العرب في قرن جديد أو ألفية جديدة ، وهناك الكثير من القضايا المعلقة بين سماء الله وأرضه – وربما كل القضايا – فالحسم الموجود في الزمن ليس موجودا في الزمانيين .
ومن بين القضايا الكثير المعلقه : قضية قصيدة النثر . أنقبلها أم نرفضها ؟ وهي قضية تعكس أزمة المجتمع بوجه عام وتعكس أزمة المثقفين بوجه خاص ، وازدواج معاييرهم وتوتر علاقتهم بالسلطه من جهة وبالمعرفه من جهة أخرى لذلك لم يكن مدهشا لي أن يدور نقاش ساخن حول قصيدة النثر تحت عباءة مؤتمر قنا الأدبي الثاني أثناء مناقشة ديوان الخيط في يدي للشاعر الشاب فتحي عبد السميع ،
هذا الحوار الذي كان أطرافه الرئيسون ثلاثة الأول د. كمال نشأت الثانى الشاعر أمجد ريان والثالث الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي وكأن القدر اختار الثلاثه بعنايه دون تدخل من الهيئة العامة لقصور الثقافة ليمثل الأول والثاني طرفي القضيه الرفض والقبول وليمثل الثالث مذهب الوسطيه الذي هو مذهب الأمة/السلطة/العقيدة ! والحق أن الرافضين كانوا أكثر حماسا وأضخم صوتا ، وأشد حزما وحسما ، وكأنهم يحاربون من أجل الحفاظ على آخر بقعة في الأندلس ، فهم يخافون على الأجيال الجديدة من التلوث ، والكفر، والضحالة الفكريه ، وقنا – هذه الصخرة القديمه – آخر ما تبقى من الأرض فإذا سقطت في أيدي الحداثيين فعلى الدنيا السلام .. كان هذا المفهوم منتشرا في ثنايا كلام المحافظين على الشرع الحنيف ، واللغة العظيمه ، والتراث الفذ العبقري ، الذي تركه لنا أجدادنا (فنحن أمة ليست من همل الأمم) كما يقول د.كمال نشأت ! وهؤلاء الرافضون للكتابه الجديدة ولكل جديد – بسبب فشلهم في العثور على أسباب حقيقية موضوعيه للرفض نابعه من مناقشة الشيء المرفوض نفسه نجدهم في حالة اتحاد وحلول مع الدين – السلطة مما يشكل ثالوثا مقدسا – الفرد/الدين/السلطة – فهم يلبسون عباءة الدين ، ويتكلمون بالعصا وتاج السلطة على رؤوسهم والكراسي تحتهم ، ذلك لأن المناقشة العلمية ستؤدي بهم إلى الفشل والتسليم المطلق بالحرية لذلك هم يلجؤون إلى مخاطبة هذه الجموع الغفيرة من الأمة - الجموع المحرومه من أدنى مستويات التعليم والمعرفة والتي – لذلك تصدق كل ما يقال لها خاصة إذا كان حول تخريب العقيدة ومحاربة الإسلام ، وهدم اللغة ونحن للأسف – بسبب ضعفنا قابلين لتصديق كل شيء يحاك ويدبر ضدنا من الأمم الأخرى الكافرة التي تمدنا بالعنب والعناب وأنا لا أعرف كيف يتدخل الإسلام في قصيدة النثر ؟ فيحكم عليها - كشكل للكتابه قبولا أو رفضا .. هي أو أي شكل أدبي آخر . إنني أتحدى أن يثبت أحد شيئا من هذا ؟ إن الكتابه (مقال – بحث – شعر – روايه – مسرحيه .. الخ شكل ووسيله ولا حكم للوسائل إلا بمقاصدها .. يمكن أن يتدخل الشرع في المحتوى / المضمون .. إذا كان مناهضا له ومخالفا بشكل تقريري مباشر واضح الدلالة أما ما عدا ذلك فلا تدخل . "أنتم أدرى بشئون دنياكم" فالشعر في نظر الإسلام : كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح إذن الشعر كلام فقط دون شرط الوزن أو القافيه . والرسول عليه الصلاة والسلام حين كان يتمثل ببعض أبيات الشعر كان يتعمد تغيير ترتيب بعض مفرداتها حتى يكسر الوزن لأنه لو قال شعرا موزونا فربما ظنه البعض شاعرا – كما كان متهما بذلك – تبعا لتقاليدهم الجاهليه التي تجعل الوزن شرطا للشعر ولكن رغم أن الرسول كان يكسر الوزن فيما يستشهد به من شعر فإن هذا الكسر لم يخرجه عن حيز الشعريه فالصحابه يعرفون إن ما يقوله الهادي شعرا ، والعلماء والفقهاء حين يوردون ما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم يذكرونه على أنه شعر : إذن فالوزن أو عدمه أمر راجع لتقاليد الناس وأعرافهم لا دخل للشرع في شيء من ذلك .
وإلا فإنه سيكون شرعيا أن نرفض السينما والمسرح والإذاعة والتليفزيون وشريط الكاسيت وإسطوانة الليزر والإنترنت والقصة والرواية رغم محاولات التأصيل – لأن هذه الأشياء جميعا أتت لنا من الفرنجه ! وحتى لو ثبت إن قصيدة النثر كتابه تحمل العبارات الجنسية المقززة وتتهجم على الدين وعلى الذات وهو يرفضها لذلك ! ماذا لو جاء واحد وكتب من خلال قصيدة النثر : السيرة النبويه وغزوات الرسول عليه السلام ومعجزاته – ورحلة الإسراء والمعراج – وعذاب القبر ونعيمه والحوض والميزان والصراط – وأحوال الناس يوم القيامة الحداثيين منهم وغير الحداثيين هل سيقبلها الرافضون وإمامهم د.كمال نشأت أم لا ؟ الحقيقة إن هذه الاتهامات باطله من أساسها لأنها لو صدقت – تهم الإلحاد والتآمر مع الغرب وهدم اللغة – على أصحاب قصيدة النثر فإنها ستصدق بأثر رجعي على مبتدعي الشعر الحر ، فإن كل ما يقال عن قصيدة النثر وأصحابها قاله – بمطابقة غربيه – التقليديون – ومازال الأزهريون يقولونه عن الشعر الحر وبدع صلاح عبد الصبور ورفاقه .. وهجرهم لعمود الشعر العربي ، ولجوئهم للغه السوق والحوانيت والمقاهي ، واستحضارهم للتراث الفرعوني والإغريقي بما يؤكد حربا شعواء على الحضاره العربيه والإسلاميه – لغة وعقيدة !! وهذه الاتهامات الأخلاقيه ساقطة – وللأسف – فإن بعض من يتشدقون بها لا نصيب لهم من الأخلاق أصلا : ومن حقنا بالتالي – أن نسأل عن الدافع الحقيقي للرفض – وفيما أرى – يرجع ذلك لسوء العلاقة بين الفرد في وطنه والسلطة التي تحكمه ، فالرافضون كانوا حتى زمن قريب من المجددين والداعين إلى التحرر من قيود الجمود والتخلف ، وحصلوا بعد كفاح – على مكاسب أدبيه ومقاعد في السلطة (رئيس مجلس إدارة – عضو في لجنة – رئيس تحرير – صحفي كبير – مرشح وزير .. إلخ ) المهم هناك كراسي يجلسون عليها ، وهم يعرفون أنهم لم يصلوا إلى هذه المواقع إلا بعد طرد من كانوا عليها خارجها بعد أن ظهر أنهم جامدون غير قابلين لمعايشة الواقع الجديد ، وهم يعرفون أن كل من غادر الكرسي فإنه يصير كما مهملا لا يلتفت إليه أحد بعد أن كان ناقد الوطن .. وشاعر الأمة .. ورمز العروبة ولا يجد حتى ما يكفل أدنى عيشة كريمة له ! إذن فمن مصلحتهم المحافظة على كراسيهم حتى يعيشوا أولا وحتى لا يفقدوا احترام الناس لهم ، وتقديرهم لشاعريتهم الكبيرة ، وعبقريتهم الفذة ! كيف يحققون البقاء لأنفسهم ؟ من خلال إيهام السلطة والشعوب غير المتعلمة أن الجديد قصيدة النثر في حالتنا – ضد الدين ، وضد قيم المجتمع وثوابته ويحمل بذور المؤامرة مع الآخر ، والبسطاء يرفضون كل ما يمس عقيدتهم الفطرية دون مناقشة ، والسلطة تريد الإبقاء على أنفاس الشعوب مكتومة فحتى لا تتنفس الشعوب يجب بقاء الوضع على ما هو عليه ولذا فلا أمل في تغيير حقيقي لو كانت العلاقة صحية بين الفرد والسلطة لأمكن الاعتراف بالجديد ، والابتعاد عن رفضه ، وخلق الأباطيل لتبرير الرفض .
ولقد تساءلت وكثير من الشباب حول أخلاقية أن يستغل د. كمال نشأت ديوان شاعر شاب ليعيد علينا ما نعرفه عنه مسبقا حول رفضه لقصيدة النثر ! لقد ظهر بشكل واضح أنه لا يعنيه الديوان بل إنه قال : إن ما بين يدي ليس ديوانا بل هو كلام مجموع في كتاب وهو نثر عادى أسمع في الشارع كلاما أفضل منه – فإذا كان الأمر كذلك فلماذا شغل الدكتور نفسه بدراسة كلام عادي ؟ وهل من الأخلاق أن يروج لكتبه فيأمرنا في حوار خاص – أن نشتري كتابه المطبوع على ورق فاخر مصقول وبتسعة جنيهات فقط ! وكلما أراد أن يناقشه الشاعر فتحي عبد السميع في شيء مما يقوله قال له الدكتور : متوجعش دماغى . أنتم هنا في قنا طيبون اسمع الكلام اللي أنا باقولهولك لمصلحتك – حاضر يا باشا ؟ وطوال الحوار لم يتمكن فتحي من إكمال جملة واحدة ومع ذلك فالدكتور يطلب منه ألا يوجع دماغه ذلك لأنه يعتبر رأيه حوال قصيدة النثر مشروع بقانون واجب النفاذ . وليس غريبا بعد ذلك : أن يكون نقد د. كمال نشأت لديوان فتحي عبد السميع " الخيط في يدي " منصبا على القيم الأخلاقية فمثلا يعجب في صراخ وحدة من قول الشاعر : لو ابتسم هذا القادم وقال لي صباح الخير سأحطم صدغيه . بقى دا كلام يا جماعة . واحد غلبان مبتسم ودود يقولك لك صباح الخير تحطم صدغيه تنشب يديك في وشه كده إزاي . وهنا يشير الدكتور بيديه وكأنه يحطم شيئا – يعني أنا لو قابلت فتحي وقلت له صباح الخير يبوظلي وشي يا أخي طيب ماتردش عليه . ما هذه العدوانيه ؟ هل الدين أمرنا بذلك ؟ لقد أخذ د.كمال وقتا كبيرا وهو يشرح لنا أن هذه هي سمات الحداثة من يقول لهم صباح الخير يضربونه . وكيف يقول الشاعر / ملعونه أمي / جردتني من ثديها وزينته لقاتل زوجها برضه دا كلام بدل من الإحسان إليها هي التي حملت وربت وكبرت – أي جعلت فتحي كبيرا أو قالت الله أكبر – يكون جزاؤها اللعن ، طيب بلاش الإحسان مش هنتكلم عن النزعة الإنسانيه في الأدب . يبقى محايد على الأقل الواد فتحي دا عدواني يصح إنه يقول المرأة التي انتهكتها سأخنقها أو ما معناه – يغتصبها وكمان يخنقها هل هذا شعر – المفروض يتزوجها ولو عرفيا وبعد كده تخلعه – اسمعوا دي كمان ابننا فتحي يقول : مثل جبل سرقوا خصيتيه .. هذا تشبيه يبعث على الضحك .. نكتة مثل حكاية أبو لمعة الأصلي ، لا يمكن تخيل جيل يملك خصيتين ! الشعر لازم يكون قريب من الواقع "وهكذا يستمر الدكتور في شرحه لبعض نصوص الديوان مبتعدا كل البعد عن جماليات النص ورؤيته الكلية متلقيا للنص بآلية قديمة أحادية ، في الوقت الذي ندعو فيه لقراءة الشعر القديم برؤية جديدة ، تحاول أن تعطينا مستويات أخرى للدلالة .
وجاء بعد ذلك – دور الشاعر أمجد ريان الذي انبرى للدفاع عن قصيدة النثر كما كان متوقعا ولكن غير المتوقع من الحداثي أمجد أن يكون هادئا في رده ، لقد ارتاح الحضور لمقدمته : حول أهمية قبول الآخر ، والرضا بالتعدد الفكري –وتجاور الأشكال الأدبية وعدم قضاء أحدها على الباقي ولكنه سرعان ما صدمنا حين قال : إن كتابة " الخيط في يدي تعتبر ما بعد حداثية ! يا رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين إحنا لسه مخلصناش من الحداثة ، نخش كده على طول في الـــ ما بعد الحداثة . وهذه إحدى مشكلات النخبة المثقفة في عالمنا العربي : إنهم يصدمون أمتهم مرة واحدة دون تمهيد وقبل تكوين قاعدة تقبل الرأي الجديد فالتنظير النقدي سابق عندنا على الكتابة الإبداعية ؟ هل هو أمر مفروض علينا أن نطبق على أنفسنا كل ما نترجمه ؟ لقد صدم أمجد ريان كثيرين بإطلاقه مصطلح الـ ما بعد على ديوان فتحي عبد السميع مما دفع الشاعر درويش الأسيوطى إلى أن يسأل : متى بنيتم دورا فوق الحداثة ؟ يا جماعة بالله عليكم هل شروط الحداثة تحققت كفلسفة كاملة في حياتنا ومجتمعاتنا ؟ حتى نقفز عليها ونتجاوزها ؟ إن الكثير لا يفهم من الحداثة إلا هدم الوزن في الشعر وهذا اجتزاء – حسب معرفتي – غير صحيح إن شروط الحداثة لم تتوفر لدينا أساسا وهنا استعير كلمة الأستاذة / فريدة النقاش : الحداثة كنا ومازلنا ضيوفاً عليها لا أصحاب بيت .
تكلم بقوة بعد ذلك الشاعر الكبيرأحمد عبد المعطي حجازي : الذي حاول الإمساك بالعصا من المنتصف : فهو ليس صديقا لقصيدة النثر : وهو يرفض الاسم قصيدة / نثر لأن الشعر لا بد له من ركنيين (1) اللغة المجازية (2) الوزن ، ولكنه مع ذلك يقبل المسمى – ويتمنى له الخلود كما تخلد نثر التوحيدي والنفري ورغم رفضه لا يجد تفسيرا لإقبال الشباب عليها وحضورها المكثف في كتابتهم ، ووقوف بعض " النقاد معها !! طبعاً رغم تقديرنا الكبير للعقاد وقد كان أحد المجددين في الشعر هو ورفاق الديوان وحربه ضد شوقي وحافظ شهيرة إلا أننا لا نقبل موقفه من شعر صلاح وحجازي وإحالته له للجنة النثر ، وتذكر الحادثة كدليل على الجمود وعدم تقبل الجديد والثبات عند آليات التلقى القديمة .. وبالتالي إن الشاعر الكبير حجازي لا يريد أن يكرر موقف العقاد نفسه فتصبح حكاية الذي كان مرفوضاً شاباً صار رافضاً بعد أن صار شيخاً ورمزاً من رموز الوطن وصاحب سلطة ومكانة يحسد عليها - السلطة مرة أخرى - ولا يمكنه الموافقة تماماً على كتابة الشباب ! فيناله ما ينالهم من الاتهامات الباطلة .. إذن الوسطية " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " أما فيما يخص الركن الثاني للشعر كما ذكره حجازي وهو الوزن فمن حقنا أن نسأل أي وزن ؟ أهو الوزن المأخوذ عن الخليل .. ؟ ولكن الأوزان التي جمعها الخليل أنما هي الأوزان التي وجد العرب قد قالوا شعراً عليها وهذا لا يمنع أن تكون هناك ايقاعات أو أبحر أخرى ولكن العرب لم يقولوا شعراً فيها فهل نحن ملزمون بسبعة عشر بحراً فقط ؟ هذا إذا سلمنا بمفهوم الوزن كما هو عند الخليل ومشكلاتنا عدم تكاتف الجهود لنشر المعرفة فمازلنا نسمع عن بحوث في المغرب العربي والمشرق كذلك عن مفهوم الموسيقى الشعرية عند بن سيناء ومفهوم الوزن عند بن حازم القرطاجني والكلام عن الايقاع الداخلي . هناك معرفة جديدة ولكنها مبعثرة ومشتتة تماماً مثل تبعثر الأمة العربية وتشتتها في كل شيء ! لقد ذكر الشاعر الكبير حجازي أن أوربا أو ربما فرنسا لم تستسلم لقصيدة النثر ورجعت للوزن وأن أراجون بعد كتابته للنثر رجع ليكتب شعراً موزوناً وأذن فهل على الحداثيين العرب أن يختصروا الطريق ويرجعوا للوزن ؟ هل أراجون مقدس ؟ ماذا يعني هذا هل الشاعر الكبير يؤكد تبعيتنا للغرب يعني إذا رجعوا عن أمر نحن أخذناه عنهم فيجب علينا أن نرجع عنه نحن أيضاً حتى لا نكون ملكيين أكثر من الملك ؛ مرة ثانية الشرق/ الغرب ، ومع ذلك فقد كان لكلام حجازي أثر طيب في النفوس لأنه ابتعد في رفضه عن الأحكام الأخلاقية بل وعاب على د. كمال نشأت اعتماده عليها في نقضه للقصيدة الحداثية كما عاب عليه حدته وصوته العالي في مقابل صوت القاعة المخنوق واعتمد على بنية النص ومكوناته الأساسية وهو أمر يقبل الاختلاف بخلاف الأخلاق فانما أن تكون صالحاً أو حداثيا !
عموماً وجود حجازي بيننا في قنا جعله يطمئن على مستقبل الشعر في مصر الأمر الذي يعكس فيما يبدو أزمة في القاهرة / المركز ، طبعاً نحن نعرف أن القاهريين استغلوا فرصة المؤتمر ليكرسوا لرؤاهم وليعبئوا أدمغتنا بها وكأننا تلاميذ المدرس الشاطر .. المدرس الشاطر هو الذي يقدر على ضمنا لصفه ، والسير خلفه ، لقد وضح أنهم لا تعنيهم كتابتنا في حد ذاتها سواء د . كمال أو أ.أمجد وإنما اتخذت الكتابة ذريعة لفرض النظرية .
* محمود الأزهري : كاتب وشاعر مصري

قصيدة النثر ومنظومة الحس العربي
كتبه د. ميلاد متى
نقلاً عن الرابط
http://egyptianpoetry.jeeran.com/Mil...a%20alnasr.htm
ما توقفت قصيدة النثر عن إرباك القراء و الناقدين معا ً، منذ ظهورها " رسميا ً " في القرن التاسع عشر في فرنسا مع شارل بودلير ، حين نشر Paris Spleen سنة 1869، كقصيدة نثر ، و التي قال فيها M.Riffaterre : " نوع أدبي يحمل إردافا ً خُلفيا ً كإسم " . و مع ذلك فإن بودلير نفسه شاء أن يقدّم التعريف الأول لهذا النوع " كأعجوبة النثر الشعري ، موسيقي ّ ، و مع ذلك دون وزن ، و من دون قافية . مِطواع ، إلا أنه صارم ٌ و عاصف ٌ إلى حد يتماثل فيه مع نبضات الروح العاطفية ، مع اليقظة الحالمة في مدّها و جزرها ، و مع وخزات الضمير " .و يبدو أن بودلير بعد هذا التعريف الرومانسي المبهم ، قد فتح الباب لنـزعة أدبية سيعزّها و يدللها شعراء في الشرق و الغرب ، كنوع مثالي به يملأون رغبتهم القوية في تعقيدات تركيبية و تأنقات أسلوبية ، حتى أن أية محاولة تعريف واحد كلي ٍّ لهذا النوع ستنتهي بالفشل . أما تعريفRiffaterre فيحمل إشكالية الشعر و النثر منذ أن ظهر الشعر و النثر . فيتضارب مفهوماهما المعجميان التقليديان في أسئلةٍ أقلّها : كيف يكون النثر شعرا ً ؟ و العكس : كيف يكون الشعر نثرا ً ؟ والأصح : كيف نستخرج من النثر شعرا ً ؟ .هذا إذا سلّمنا أننا نملك معايير النثر و الشعر و مفاهيمهما المحددة . وإذا سلّمنا أننا نمسك بناصية الأدب الذي لا يزال غامضا ً، حتى أن أحداً اليوم ، لم يعد يكلّف نفسه مشقة البحث عن تعريفات جديدة له .
يقول ميخائيل نعيمة : " اللغة في القاموس مومياء . أما على ألسنه الناس و شفاههم فكيان حي يزخر بأمواج الأفكار و الخيالات ، و يلتهب بكل أصناف الميول و الإحساسات " فلا عجب إذا ً ، إذا قرأنا عن النحو في قصيدة هي ألفية ابن مالك الشهيرة . و لا عجب إذا عرف القارئ أن طبيباً لبنانياً كتب أطروحته في الأمراض الجلدية شعرا ً، و باللغة التشيكية ، وزنا ً و قافية ً .
الشعر و النثر صنعتان كلاميتان تتقاطعان و تتمازجان ، تنـزلقان باستمرار الواحدة نحو الأخرى , كمن عقباهما على قشرة موز. و حتى لا نغالي في استحالة التعريف ، فإننا نستطيع القول أن قصيدة النثر تبدو للوهلة الأولى مركّباً يستطيع أن يحتوي بعض أو كل ميزات الغنائية . عدا أنه مكتوب ٌ نثرا ً – بالرغم من أنه لا يُعد ّ كذلك – على مساحة الصفحة . هذا المركّب يختلف عن النثر الشعري بقصره و تضامّه . و عن النثر الحر بانعدام الوقفات (=الانقطاعات ) في السطر الواحد ( باعتباره بديلا ً عن البيت أو الجملة ) ، و عن المقطع النثري القصير بما فيه من ايقاعات واضحة ، و تأثيرات صوتية و مجاز و تخيّلات و كثافة في التعبير . و قد يحمل أحيانا ً قوافي داخلية و تعاقب إيقاعات ٍ ( = أوزان ) سريعة . و يمتد طوله عامة ، من نصف صفحة ( مقطع أو مقطعين ) ، إلى صفحتين أو ثلاثة.
هذه الميزات تنطبق على القصيدة النثرية الغربية كما تنطبق على القصيدة النثرية العربية ، و التي سمّاها بعض الدارسين بـ " شعر الحداثة " ، أو " الشعر المعاصر " . و هما تسميتان طغيا إبّان و بعد الإخفاقات و الانكسارات و النكسات العربية الكبرى سياسيا ً و اجتماعيا ً في أواخر الخمسينات و الستينات . فولدت قصيدة النثر العربية من رحِمَي ِ السياسة و المجتمع المهترئين العقيمين آنذاك ، ثائرة ، رافضة ، فاضحة ، هاجمة ، مدمّرة ، محطمة الشكل اللغوي و المضمون التراثي . تغذّيها الثقافة الغربية ولا سيما الفرنسية كما عند أنسي الحاج و بول شاوول .
و برزت رؤيوية سريالية . و أحيانا ً كثيرة ً، هلوسية ، هذرية ، فوضوية عابثة ، لا تهدف إلى شيء ، سوى ربما ، إلى جمالية الغريب و المألوف و اللامنطق .
إلا أن قصيدة النثر العربية اليوم ، وبعد تجربة دامت أكثر من أربعين سنة ، تبدو أكثر نضجا ً و التصاقا ً بالحياة ، تبدو أكثر شفافية ً و هدوءاً . تغلب عليها المعاناة الغنائية من دون أن تتخلى عن نبرتها الثورية المبطنة بالألم ، حيث تتداخل فيها التأثيرات الحضارية و الثقافية .
لقد باتت ملاذا ً لطالبي المساحات الحرة ، حيث لا قوانين و لا معايير تعبيرية مُلتزمة و مُلزمة . هي ملاذ يوافق الحس العربي من حيث :
1- أيدولوجية الفوضى : فوضى في السياسة و المجتمع والاقتصاد . و حتى في الفنون ، و أهمها فوضى الغناء و انحطاطه ، فحدّث ولا حرج .
يقابلها فوضى القصيدة : التراكم و الغموض و الإغراب . و فوضى الشكل : كتابة أفقية ثم عامودية ، ثم انحدارية مائلة ، متقطّعة :
هل يذكر النهر ؟
كانوا يسمونه وردة الميتين
و يمشون خلف المياه
إلى
آخر
العمر
ها هو يمضي بطيئا ً
إنها – أي القصيدة – شِعر ٌ أشعث ، كالشعر الأشعث : مغبرّة ، متغيرة ، متلبدة و منتشرة .
2- الضغط : و منه الاقتصادي و الديني و الذكوري . يقابله كبت ٌ كلامي و انقطاع فجائي أحيانا ً، و ضغط في المعاني و عدم اكتمال الصورة .
3- الرفض : الداخلي غير المُعلن و مخالفة الواقع . فالقصيدة رفضية ، غاضبة ، مغلّفة بالانزياح نحو الممنوع و المُحرّم بلغة اللبس و الإبهام تارة ً ، و بالجرأة و الوقاحة و العُجمة و السوقية طورا ً Vulgarism حتى في قصائد النساء الشاعرات اللواتي سفرن عن وجوههن و لغتهن ّ في آن ٍ معا ً .
4- حال العُدم (= الفقدان ) و العَدَم ( ضد الوجود ) ، لحلّ معضلة الإنسان العربي . أنتجت قصيدة العبثية و اللامنطق و الهلوسة . متخذة ً من الدفق الخيالي و الرؤيوي ركيزة الإبداع .
كل هذا و أكثر ساهم و رفد قصيدة النثر . و عندنا ، أن البحث عن مبررات و عوامل خارجية لتعريف هذا النوع الأدبي ، لا يكفي و لا يمكن تعميمه . فإن بعض كتّاب قصيدة النثر ، ممن خلقوا لأنفسهم عالما ً خارج عالم السياسة و الاقتصاد و الدين ، قدّموا إبداعات ٍ يمكن تصنيفها في باب الفن للفن ، و شعارهم النـزعة الجمالية .
و على هذا ، فإن أفضل مقاربة علمية عملية لقصيدة النثر ، هي تلك المبنية على تعاليم الألسنية ، بحيث يتفكك هذا المركّب إلى عناصره اللغوية الأساسية : من الأصوات ( = الإيقاعات ) ، إلى الحقول المعجمية ، إلى الوظائف الكلامية ، إلى الأنماط النصية ...
و في رأينا أن هذا النوع Genre تمكن دراسته من خلال المقارنة بين الأنواع الكلامية الأخرى : النثر و الشعر و النثر الشعري و الشعر الحر . لأن قصيدة النثر توصّلت إلى التعبير عن روح الشعر متخطية ً القواعد الشكلية المتعارف عليها للنظم التقليدي .
و يُنظر ُ من حيث التخصص - في : كتابة المقطع و الكلام المنقطع ( = غير المُنهى ) ، و استقلالية النص الذاتية . كما يُبحث ُ في التماسك ووحدة المقطع ، و الكثافة و الفعل الشعري القوي . و الهندسة المشغولة : البناء – التطوّر – التوازي – الأصداء و تأثير الانغلاق . و تنوّع الأنماط الكلامية و أشكال الكتابة : السردي ، الوصفي ، الحواري و التأملي ... و أيضا ً في تنوّع التصنيف: الغنائي و الملحمي و الخارق . ولا ننسى الكتابة الشعرية ( = الأسلوب ) : الصور و الإيماء و الإيجاز و الغموض ، و اللمح و المجاز و عدم الملاءمة الدلالية ، و القيمة الرمزية و التشكيلية ...
و بعد ُ، فإننا نستذكر قول ستيفان مالارمي Stephane Mallarme وقد أحسن الإصابة : " الشعر في كل مكان من اللغة ، في كل مكان حيث الإيقاع ، ففي ما نسميه النثر ، شعر من كل إيقاع ٍ يمكن تصوّره ، و بعضه رائع ٌ . و في الواقع ليس هناك من نثر : هناك الألف باء ، ثم الأشكال الشعرية ، أقل أو أكثر صرامة ً ، و أقل أو أكثر إطنابا ً . ففي كل محاولة تعبيرية ( = أسلوب ) أصول شعرية ".
قصيدة النثر هي هذا الشعر في لغة ما . هي حاضرة حضور الأنواع الأخرى التي سبقت و لا تزال . و ستكون أنواعٌ أخر لشعرٍ آخر في لغةٍ أخرى . ما دام هناك مادةٌ هي اللغة ، و ما دام هناك صانع ٌ / شاعرٌ / فنانٌ / ثائرٌ