الهوية اللغوية


د. بوبكر جيلالي
bobaker jilaliيتركب مصطلح "الهوية اللغوية" من لفظتين مرتبطتين على سبيل الإضافة والاقتران لضرورة وعلاقة وظيفية بين طرفي المركب، وظيفة لا تتحقق في غياب أحد الطرفين، طرف اللغة وطرف الهوية.
ولما كانت اللغة هي كل نظام من الإشارات والرموز يمكن أن تكون وسيلة للتعبير والتواصل، واللغة خاصية إنسانية لما فيها من جوانب عاقلة ونفسية واجتماعية وحضارية، فاللغة لها هويتها تتحدد بخصوصيتها الرمزية والدلالية والنسقية، وتتعدد اللغات وتتباين على أساس هوية اللغة ذاتها وذاتيتها التي تتميز بها وتتحدد مكانتها بين أقرانها من اللغات، واللغة كهوية رمزية نسقية خاصة ترتبط بالهوية في معناها العام على سبيل التأثير والتشكيل والتمثيل.
ولما كانت اللغة أداة تفكير وتعبير وتخاطب وتواصل وتفاهم بين أفراد بني البشر باعتبارها خاصية إنسانية، تعبر عن أي حراك تاريخي ثقافي أو حضاري وتخزن منتجاته في الذاكرة الفردية الجماعية، وهي وسيلة نقل التراث والثقافة والحضارة من جيل إلى آخر ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى وبين الأمم والشعوب، فهي تشكل أحيانا المقوّم الوحيد الجوهري والأساسي وفي أحيان أخرى تمثل أحد المقومات الجوهرية والأساسية التي قامت عليها العديد من القوميات والأمم مثل اللغات الأروبية واللغة العربية واللغة الهندية وغيرها.
اللغة الواحدة بنسقها الرمزي والعلمي والمنطقي والدلالي وبأبعادها العقلية والنفسية والاجتماعية والثقافية والحضارية والدينية وغيرها وفي سياقها التاريخي توحّد الشعور بالانتماء المزدوج إلى اللغة وإلى كل من يحملها ويتكلّم بها بعد تشكّل هذا الشعور وتقويته، الشعور بالانتماء إلى اللغة وإلى الجماعة البشرية التي تتحدث بها، هذه الوحدة وما تنطوي عليه من ترابط وتماسك تقوم في الذهن أولا كفكر ونظر ثم تتحول إلى ممارسة وواقع وعمل، هكذا تشكلت الهويات اللغوية البشرية في عالمنا الحديث في أوربا الغربية وفي غيرها، مثل الهوية الألمانية والهوية الإنجليزية والهوية الإسبانية والهوية الهندية والهوية العربية ...إلخ. وكل هوية من هذه الهويات قامت على لغة ما.
ولما كانت الهوية هي كل ما يتميز بالوحدة والثبات والدوام لا يتعدد ولا يتغير ولا يزول في الكائن البشري على المستوى الفردي والاجتماعي وفي غيره من الكائنات على اختلاف أنواعها مادية كانت أو فكرية أو روحية، فالهوية تعبّر عن حقيقة الكائن وماهيته، وفي غياب الهوية غياب للحقيقة غموض الماهية على مستوى الأفكار والأشياء والأشخاص، ومن هنا تقوم أهمية الهوية لدينا وحاجتنا الملحة إلى اكتشافها في الموضوع أي موضوع، مثلما هو الحال في تحديد هويات الأفراد وهويات الشعوب وهويات الطوائف وهويات الأعراق وغيرها.
استنادا إلى مدلول الهوية وإلى مدلول اللغة وبالإضافة والاقتران والتركيب قام مصطلح الهوية اللغوية المركب من لفظتين لفظ الهوية ولفظ اللغة، ويعني المصطلح كل ما تتميّز به لغة ما من خصائص ورموز وإشارات ودلالات وعلاقات فكرية ومنطقية ونفسية واجتماعية خاصة بها تميزها عن غيرها من اللغات الأخرى، وتمثل لسان جماعة بشرية ما قد تتميز بها الجماعة عن غيرها من الجماعات البشرية الأخرى. والهوية اللغوية بهذا المعنى تظهر بمظهرين مظهر ذاتي تعبر به عن كيانها اللغوي ووجودها وحقيقة هذا الوجود بين اللغات ومظهر آخر موضوعي تعبر به عن القوم الذي ينطق بها ويعبر بها عن أغراضه وعن هويته الثقافية والتاريخية والدينية وغيرها. فاللغة العربية علوم ونسق من الألفاظ والاشتقاقات والأساليب والعلاقات والروابط المنطقية والسيكولوجية والقواعد لها أصلها وتاريخها ودورها ومكانتها، علوم اللغة ونسقها يُعبّران عن هوية اللغة العربية، ويحملان ثراث وثقافة وتاريخ وتطلعات الجماعة البشرية في الحاضر والماضي، فهي ذات هوية مزدوجة هوية لغوية ذاتية وهوية فردية واجتماعية وإنسانية.

جيلالي بوبكر