المدح في الشعرالعربي القدیم
نشأته وتطوره وشروطه وبناء قصیدته
٢٣ أيار (مايو) ٢٠١٠بقلم محمد شرفبياني
بقلم : محمد شرفبیاني «طالب دکتوراة في قسم اللغة العربیة وآدابها بجامعة آزاد الإسلامیة فرع علوم وتحقیقات طهران»
الأستاذ المشرف : الدکتور فیروز حریرجي
الأستاذ المشرف المساعد : الدکتور سیّد إبراهیم دیباجي
ملخص البحث:
أتطرق في هذا المقال إلی المدح في الشعر العربي القديم، وأتحدث عنه لغةً ثُمّ أُبَیِّنُ نشأته وتطوره وشروطه، وما یکمن في هذا الغرض الشعري من غُلوّ ومبالغةٍ، ثُمّ أقف قلیلاً عند القصیدة المدحیة وبناءها مستشهدا ًبالنصوص الشعریة وذاکرا ًأسماء المادحین والممدوحین.
الکلمات الرئیسة:
المدح، الشعر، الغرض الشعري ، الفنّ، التکسّب، العطاء.
المقدّمة :
أنواع الشع ثلاثة : الشعر الغنائي أوالوجداني؛ وهوما یستمده الشاعر من طبعه وینقله عن قلبه ویُعبّربه عن شعوره، وشعر قصصي ؛ وهونظم الوقائع الحربیّة والمفاخر القومیّة في شکل قصة کالإلیاذة والشاهنامة، وشعر تمثیلي وهوأن یعمد الشاعر إلی واقعة فیتصور الأشخاص الذین جرت علی أیدیهم ویُنطق کُلّاً منهم بمایناسبه من الأقوال وینسب إلیهم ما یُلائمهم من الأفعال.
والشعر العربي من قدیم أیّامه کان مزیجا من الوصفي والغنائي والقصصي . والوصف رکنٌ مهمٌ طرقه الشعراء القدامی في شتّی أبوابه وأغراضه فکانوایصفون مایَرونه في البادیة من حیوان وطبیعة کما کانوا یتوهمون صورا ًبلیغةً في أخیلتهم فیجعلون منها صُوراً حسیّة، ویخرجون من الوصف إلی القصص القصیرة یتحدّثون فیها عن مغامراتهم الغرامیّة أوعن معارکهم وغزواتهم أویروُن شیئاً من الأخبار والأساطیر ممّا انتقل إلیهم أونشأ في بادیتهم. إلا أنّ خیال الجاهلیین لم یتسع للملاحم والقصص الطویلة فهذا النوع من الشعر یحتاج إلی حروب طویلة والعرب یعتمدون علی الغزووالوقائع القصیرة کما یتطلب رویّةً وتفکیراً والعرب أهل بدیهةٍ وارتجالٍ، ویتطلب الإلمام بطبائع الناس والتحلیل والتطویل والعربي یشتغل بنفسه عن الآخرین ویفکّر بوجوده ویمیل إلی الإختصار وعدم التعمق في البحث.
وقد اقتصر الشعرالعربي القدیم علی الفخر والحماسة والمدح والهجاء والرثاء وأغراض أُخری کالغزل ووصف الطبیعة والخمریّات والحِکَم والمواعظ. فالمدح في الشعرالقدیم کان من الأغراض الرئیسة لاتصاله بالحیاة القبلیّة ؛یُدافع الشاعر فیه عن قبیلته ویمدح ساداتها وفرسانها ولایجد الشاعرغضاضة في هذا المدح لأنّه یعود إلیه وهوفرد من أفراد قبیلته. وفي ما یلي أتکلم عن الموضوعات التالیة:
1ـ المدح لغةً واصطلاحاً
2ـ نشأة المدح وتطوّره.
3ـ شروط المدیحة.
4ـ الغلو ّوالمبالغة في المدیحة.
5ـ بناء القصیدة المدحیّة.
1ـ المدح لُغةً واصطلاحاً:
جاء في کتاب القاموس لفیروزآبادي : مَدَحَه کَمَنَعَه مَدحا ًومِدحَةً : أحسَنَ الثَّناءَ علیه….والمَدیحُ والأُمدُوحَةُ ما یُمدَحُ به، جمعُه : مَدائِح، وأَمادیح . [1] قال أبوذُؤیب مُستعمِلا ً کلمة المِدحَة والأمادیحَ:
لَوأنَّ مِدحَةَ حَيٍّ أَنشَرَت أَحَدَاً
أحیا أبوّتکَ الشُّمَّ الأمادیحُ [2]
ذکر ابن منظور في اللسان : المَدح نقیض الهجاء، وهوحُسن الثَّناء [3] وفي اصطلاح أهل الأدب، المدحُ هووصف الشَّاعرغیرَه بالجمیل والفضائل وثَناؤه علیه.
2ـ نَشأَة المدح وتطوره:
قال الدکتور بدوي : «لم یکن هذا الباب من بین أبواب الشّعرالعربي في أوّل نشأته، وأکبرالظّنّ أنّه تأخّر في الوجود عن کثیر من فنون الشّعرالتي یتغنّی فیها الشاعر بعاطفة قد یمة شخصیّة». [4] ولکنّي لا أُوافق هذا الرأي وأری أنّ المدح یرجع إلی أقدم ممّا ذکره الدکتور بدوي، وکما قُلتُ في مقدمة هذا البحث المدح کان من الأغراض الرئیسة، إذ أنّ هذا الغرض الشعري من آنَس الفنون للعاطفة الإنسانیّة وأقربها . ألیس الإنسان مُنذُ أن التفت إلی الآلهة وعَبَدَها وأثنی علیها، عرف هذا الفنّ وخَلَقَه ؟ وأ لیست الأمُّ منذ أن أحسّت حنان الأمومة ورأت الطِّفلَ في حِضِنها وأُعجِبَت بجماله وتأثرت بحرکاته فأثنت علیه وعدَّدَت محاسنَه ورقّصته بأُغنیتها، عَرَفَت هذا الفَنّ وأنشأته ؟ فالفَنّ من حیثُ الاتّصال بالعاطفة قدیمٌ وعریقٌ لکن التُّراث العربي لم یحفظ لنا منه في ثوبیه الأصلیین شیئا کما حفظ لنا سائرالفنون، ذلک لِأَنََّ الدّواعي لِحفظ المَدح في ثوبه القدیم لم تکن قویّةً مثل سائر الفنون.
ولَعَلّنا لانبعد من الحقیقة إذا ادّعینا أنّ للمدح صورةً أُخری قدیمةً امتزجت بفنّ آخر وهوالغزل، أ لیس الغزل في الأکثر هوالثَّناء علی الحبیب وبیان الأحزان والأشواق ؟ فاحتجبت المَدح تحت عنوان الغزل وقلّ الالتفات إلیه من حیث أنّه مدح، حتّی ظُنّ أنّه فنّ جد ید لم یکن له أصل قدیم، وکذلک نری المدح في طیّات الفخر، وبلُغة أَخری یُعَدّ المدحُ من الفخر فماکان «عمروبن کلثوم» في معلّقته إلّا مُفاخراً بقومه مادحاً لهم وکذلک «الحارث بن حلزة» في دفاعه عن بني بکر . هذه هي صور للقدیم من المدح، ثُمّ تطوّر المدح وشقّ طُرُقاً أخری کما نراه الیوم في الأدب العربي، فوضع الشّعراءُ مکان الآلهة والطِّفل والحبِّ الملوکَ والأمراءَ والأصدقاءَ وغیرَهم، إعجاباً أورغبةً أورهبةً.
نهج شعر ُالمدح في بدایة هذه المرحلة الأخیرة منهجهه القدیم، فجری مع إعجاب الشاعربشخصیّة الممدوح والتأثُّر بفضائله ومآثره، أوالشکرلیدٍ علیه لم یستطع أداءَ حقّها إلاّ بالشعر تعظیماً أوتخلیداً لها، فلم یکن للشاعر مطمعٌ وراء مدحه هذ ا. لعلّ خیر َمثالٍ لذلک مدحُ «إمرئ القیس» بني تمیم لمّا أجاروه، فقابلهم الشاعر ُبالمدح وشکرَهم تکریماً. فقال:
کأنّي إذ نَزلتُ علی المُعلّی
نَزلتُ علی البَواذِخِ مِن شَمام
فما مَلِکُ العراق علی المُعلّی
بِمُقتدر ٍ، ولا مَلِکُ الشآم
أقرَّ حَشا امرِئ القیس بن حُجرٍ
بنُوتَیمٍ مَصابیحُ الظَّلام [5] فلَمّا جاء «زُهیربن أبي سُلمی» ورأی فضلَ «هرم بن سنان» و«حارث بن عَوف» في حَسم النزاع بین قبیلتَي «عبس وذُبیان» الذي دام أربعین سَنةً وأنتج لکُلّ منهما أضراراً فادِحةً، وشاهَد ما قام به هذان السیّدان في إطفاء نائرة الحرب، وماتحمّلا من أعبائها بأموالهما في دماء القتلی، وکانت ثلاثة آلاف بعیر [6]؛ أُعجِبَ بشخصیّتهما وتأثّرعمیقاً بمساعیهما الحمیدة، وامتلأ قلبه وصدره بعظمتهما، فهاجت قریحته وماجت عبقریته فمَدَحَهما بقصائده الرئعة ومدائحه الخالدة . فمنها:
تَدارکتُما عَبساً وذُبیانَ بَعدَ ما
تَفانَوا ودَقُوا بَینَهم عِطرَ مَنشِمِ
فأصبَحَ یَجري فیهمُ مِن تِلادِکُم
مَغانِمُ شَتّی مِن إفال المُزَنَّم
یُنَجِّمُها قومٌ لِقَومٍ غَرامَةً
ولَم یُهریقُوا بینَهم مِلءَ مِحجَمِ [7] وکان حَظّ ابن سنان فیها أکثر مِن ابن عَوف . فهما وإن قابلا مدائح زُهیربالجوائز والصّلات، لکن الذي ساق الشاعر إلی إنشاد تلک الأمادح الباقیة هوإعجاب زُهیرٍ بشَخصیتهما الفذَّة، لا التکسُّب بالشّعر. لم یکن المدح عند زهیرعَبرةً قَصیرةَ واجهها مِن غیرتَمهید مثلَ امرئ القیس، بل أصبح عندَه هَدفاً سعی وراءه وبذل فیه جُهدَه وصرف فیه مِنَ الزمان شهورَه وحولَه، ولِهذا اشتُهر بعض من قصائده بالحَولیّات. ثُمّ نری المدح لایتوقّف عند الإعجاب بشخصیّة الممدوح، بل یَخضَعُ لِبَواعِث أخری کالرَّغبَة في نعمةٍ والرَّهبة مِن نقمة . هذا هو«النّابغة الذبیاني» یَطَأ بلاطَ الغَسّانیّین وملوکَ الحیرة، یَمدَحُهم ویَقبل صِلاتِهم، فَیخضع للنّعمان بن المنذر ویکسب مالاً جسیماً حتّی قیل إنّه کان یأکل ویشرَب في صحاف الذَّهب والفضّة . من هنا تحوّلَ المدح إلی وسیلة لتکسّب المال، یزور به قائلُه أربح الأسواق ویعرضه فیها. وبالتالي فقد صارالمدحُ في أواخر العصرالجاهلي إلی التّکسب الدَّنيء إذ کان تأثیره عظیماً في الأشخاص والقبائل یرفع شأن الخامل ویحط من الشریف ویرفع من قبیلة ویحط من قبیلة، فنری قبیلة «بني أنف الناقة» ترتفع بشعر «الحُطیئَة» وکانوا یخجلون باسمهم:
قَومٌ هُم الأنفُ والأذناب غَیرُهُم
ومن یُساوي بأنف النّاقة الذنبا
وجاء «الأعشی» وجعل الشعر َمَتجراً وقَصَد به أقطارَ الأرض ونواحیها الشاسعةَ حتّی بَلاط ملوک العَجم، ونال عطایا وجوائزفیها. فجری المدح في هذا المَجری، وجاء الآخرون من الشعراء واقتفوا منهج القدامی منهم کالأعشی، فعمّت البَلوی في الاستجداء بالشعر بینهم، فأصبحوا یَستَجدُون بشعرهم الخلفاءَ والمُلوک، یطلبون ذلک في صراحةٍ بَعدَ أن کان الشّاعر یأنف من السؤال الصّریح ؛ ومع کُلّ هذا فالشاعرُ العربي وخاصةً الجاهلي کان یُحافظُ علی کرامته في مدح المُلوک والسادات، فَلَم یتذلّل لهم وهوفي أشدّ الحاجة إلی عطائهم .کما نری في شعر«عديّ» و«النّابغة» وحتّی «الحُطیئة» الذي صوّر بؤسه وضعفه،غیرَ أنّه کان یرهب بلسانه أکثر من أن یتذلّل.
وهناک عدداً من الشُعراء أنفُوا من أن یَتّخذوا المدح غَرَضَاً من أغراضهم، ک «جمیل بن معمر» و«عُمربن أبي ربیعة» و«العباس بن الأحنف»، لکنّهم بجانب الآخرین کقَطرةٍ مِن بحرٍ وعَبرَةٍ مِن نَهرٍ، وأنّ بلوی الإستجداء عَمّت مُعظَم الشعراء. [8]
3ـ شُروط المَدیحَة:
کانت المدیحة في بدایة أمرها حُرّةً کغیرها، لم تَخضَع لقرار ولم تَعرف قیداً، أنشأتها الأحاسیسُ الصّادقة وغَذّتها القریحة الهائجة، فلما استولی علیها المتکلّفون وتوسّل إلیها المتّجرون ومَلَکها النّاقدون، أخذوها وغلّوها وخَضعُوها لِقواعد وأصولٍ وضعوها هم أنفسهم.
یقول «قُدامة بن جعفر» : «لما کانت فضائل النّاس من حیث إنّهم ناس، لا من طریق ما هم مشترکون فیه مع سائرالحیوان، علی ماعلیه أهل الألباب من الاتّفاق في ذلک إنّما هي : الَعقل والشَجاعة والَعدل والعفّة، کان القاصد لمدح الرجال بهذه الأربع الخصال مُصیباً والمادح ُبغیرها مُخطِئاً . ویمکن أن یقتصر شاعرٌ علی بعض فلا یُعدّ مُخطِئاً بل مُقتصراً، أویتّکئ علی بعض ویُفرط فیه أکثرمِن غیره» [9] ثُمّ إنّه لما رأی الشعراء قد تَفنّنوا في المدح وتناولوا فضائل أَخری، کالقناعة والسماحة والحمایة والصبر علی المُلمّات وغیرها، تکلّف في إرجاع هذه الصفات إلی تلک الفضائل الأربع.
فقدامة کما تری یَضعُ أمام المَدح دائرةً ضیِقةً تتضمنُ الفضائل النّفسیّة فقط، وهي : العقل والشجاعة والعدل والعفّة، وأمثلة مِن النّاقدین تأییداً لِنظریّته.لکن «ابن رشیق القیرواني» لایُوافقه، فیقول : «وأکثر ما یُعوّل علی الفضائل النفسیة التي ذکرها قدامة، فَإن أُضیفَ إلیها فضائل عرضیة أوجسمیة کالجمال والأُبّهة وبسطة الخُلق وسعة الدنیا وکثرة العَشیرة کان ذلک جیّداً . إلاّ أنّ قُدامة قد أبی منه وأنکره جُملةً ولیس ذلک صوابا، وإنّما الواجب علیه أن یقول: إنّ المدح بالفضائل النفسیّة أشرف وأصحّ، فأمّا إنکار ما سواها کرّةً واحدةً فما أظُنُّ أَحداً یُساعده فیه ویوافقه علیه» [10] وجدیرٌ بالذکر أن نَعترف أنّ تیّار الشعرالعربي طوال تاریخه کغیره مِن الآداب جری مع الظروف السائدة علی بیئَته، فانعکس علیه في کلّ عصر ما واجهته تلک البیئة من الحیاة الاجتماعیة والسیاسیة والدینیة والاقتصادیة، والمقوّمات الخَلقیِة والخُلقیّة قلیلاً أوکثیراً. ومن البدیهي أنّ الحیاة بأقسامها وکذا القیم الرائجة فیها کانت دائماً في تطوّر وتحوّل . فما راقه الإنسان منها أمِسَ وأُعجِبَ به یکرهه الیَوم ویَطرده وما أَحَبّ أن یتّصف به في الماضي وتنافس علیه یتَبَرّأ منه الآن ویُنفّض ثیابه من غباره . فالقِیم الممدوحة في العصر الإسلامي غیرُ القیم المقبولة في العصر الجاهلي، فلا یَصحّ لَنا أن نُعَیّن لشعر المدح نِطاقَاً خاصّاً نُوصِي الشاعر أَن یُحافِظَ علیه وننقد شعره به. وممّا ذکروا من شروظ المدیحة أیضاً أن یکون آسلوبُها جزلاً، وألفاظها نَقیّةً مُختارةً لا ابتذال فیها ولا سُوقیّة، وأن تکون مُتوسِّطة الطول إذا قیلت في مدح عظیمٍ خَوفاً من سآمته . وأن یُعطَی فیها کلُِّ شخصٍ حقَّه ویُوصَف بما یستحقّه، فمثلاً یُمدح القائد بالجود والشّجاعة وما تَفرّع منهما؛ والقاضي بما یُلائم مع العدل والإنصاف، وتقریب المظلوم وتبعید الظالم، والکاتب بحُسن الرَّویّة وسرعة الخاطر وشدّة الحَزم وقِلّة الغَفلة وجَودة النظر للخلیفة والنیابة عنه في المعضلات بالرأي. [11]
إذا ترکنا النُّقّاد ووقفنا عند الشّعراء أنفسهم وبَحثنا عن وصایاهم في هذا الفنّ، رأینا «أبا تمّام» هکذا یُوصي «البُحتري» : «إذا أخذتَ في مدح سیّدٍ ذي أیاد فأشهر مناقبه، وأظهر مناسبه، وأَبنِ معالمه وشَرّف مقامه، وتقاضَ المعاني واحذر المجهول منها. وإیّاک أن تشین شِعرک بالألفاظ الزریّة، وکُن کأنّک خیّاط یَقطع الثیاب علی مقادیر الأجسام». [12]
4ـ الغُلوّ والمبالغة في المدیحة:
وصف «عمربن الخطاب» (ره) «زُهیراً» بأنّه لایمدح الرّجل إلاّ بما فیه، ومعنی هذا أنّه یُثني بصدقه وبالتزامه الحقیقة، فلا یتجاوزها فیحشوَ مدیحته بالغلوّ والإغراق والمبالَغة وما لا أصل له. لکن «قدامة» ذکر أنّ النقاد اختلفوا في ذلک، فطائفة منهم یُحسنون الغلوّ والمبالغة وغیرهما،واُخری یرفضونها، ویقف قُدامة نفسه بجانب الطائفة الأولی مُتمسِّکاً بأن أحسن الشعر أکذبه. [13] وقلّما نری غلوّ النّابغة في وصفه لسیوف الغساسنة، حیث قال:
تَقُدُّ السلوقيَّ المُضاعفَ نسجُه
وتُوقِدُ في الصُّفّاح نارَ الحُباحِب
ومَهما یکن من أمر فقد کان الخلفاء یُحبّون المُبالغة والإغراق في مدحهم، ویُجزلون العطاء فیهما، اجتمع الشعراء بباب المعـصم، فبعث إلیهم : مَن کان منکم یُحسن أن یقول مثل قول «النُمیري» في أمیرالمؤمنین الرشید:
إنّ المکارمَ والمَعروفَ أودیَة
أحلّک الله منها حیث تَجتَمعُ
إذا رفعتَ أمراً فالله رافعُه
ومَن وَضَعت مِنَ الأقوام مُتَّضِعُ
مَن لم یکن بأمین الله مُعتصِماً
فلَیسَ بالصَّلواب الخَمس یَنتفِعُ
إن أخلَفَ الغَیثُ لَم تُخلِف أنامُله
أوضاق أمرٌ ذَکَرناه فَیَتّسعُ
فَلیَدخُل . فقال «محمد بن وهب»: فینا مَن یقول خیراً مِنه، وأنشدَ:
ثَلاثَةٌ تُشرِقُ الدُّ نیا بِبَهجتهم
شَمسُ الضُّحی وأبو إسحاق والقَمَرُ
تحکي أَفاعیلَه في کلّ نائِلة
الغَیثُ واللَّیثُ والصَّمصامة الذَکَر
فأمر بإدخاله وأحسنَ صِلته. [14] أنشد «کُثیّر» عبدَ الملک بنَ مروان :
علی ابن أبي العاصِ دِلاصٌ حَصینَةٌ
أجاد «المَرئُ» نَسجَها وأذالَه
فقال عبدُالملک : قول الأعشی أحسن من قولک :
کُنتَ المقدّم غیرَ لابسٍ جُنّةً
بالسّیف تضرب مُعلماً أبطالَها
فقال یا أمیرَالمؤمنین : وصفتُک بالحَزم، ووصف الأعشی صاحبه بالخَرق. [15] رُوي أنّ «المُستعین» قَصَدَه الشعراءُ، فقال: لستُ أقبلُ إلاّ ممّن قال مثلَ البحتري في «المتوکّل» :
ولَوأنّ مُشتاقاً تَکلّفَ فَوقَ ما
في وسعه، لَمشی إلیک المِنبَرُ
قال «البلاذري» المؤرخ وکان من جلسائه: فرَجَعتُ إلی داري وأتیته فقلت : قد قلتُ فیک أحسنَ ممّا قاله البحتري في المتوکل، فقال : هاته، فأنشدتُه:
ولَوأنّ بُردَ المُصطفی إذ لَبِستَه
یَظُنُّ، لَظَنَّ البُردُ أنّک صاحبُه
وقال وَ قد أُعطیتَه ولَبستَه
:نَعَم، هذه أعطافُه ومَناکِبه
فقال : ارجع إلی المنزل وافعل ما آمُرُک به . فرجعتُ فبعثَ إليّ سبعة آلاف دینار، وقال: ادّخرهذه للحوادث من بعدي، ولَک عَلَيَّ الجرایة الکافیة ما دُمتُ حیّا. [16] لمّا کانت الرغبة أوالرهبة قامت مقام إعجاب الشّاعر بشخصیة الممدوح في إنشاء المدائح، أصبح همُّ الشاعرمقصوراً علی أن یُرضي ممدوحه ویسوقه إلی ما یریدمنه، فلم یَأبَ أن یَتوسّل إلی الغلو ّوالإغراق والکذب، وأن یجعل الوضیع رفیعاً والجبان شجاعاً واللئیم کریماً إذا رَضي، ویعامل بالعکس إذا سَخط . لعلّ الأبیات التالیة مِن «المُتنبّي» خیرمثال علی ذلک، وهویمدح کافور راضیاً:
أبا کلّ طیبٍ لا أبا المسک وحدَه
وکلّ سحابٍ لا أخُصُّ الغَوادیا
ویَهجوه ساخطاً:
ما یقبضُ المَوتُ نفساً مِن نفوسهم
إلاّ وفي یَده مِن نَتنِها عُودُ
وأمثال هذه الأبیات کثیرة عند الشعراء، ولهذا کان النقاد یعیبون شعر المدح ویرونه مختلقاً کاذباً ولا یهتمّون بشأنه . لکن الدکتور أحمد بدوي یُدافع عن المدح المُختلق المُتکلّف ویقول : «إنّ صِدق الشاعروکذبه وإن کانا من مقاییس النّقد إلاّ أنّ للأشعار المختلقة أیضاً دورَها في ترویج الفَضائل والکمالات، لأنّها بحیث یهواها الإنسان ویُحبّ أن یتّصف بها ویُنسب إلیها وإن لم تکن فیه. فلولم یکن الشاعر المُختلِق یُصوّر بشعره الصّادر عن عاطفة غیرصادقة شخصاً مثالیاً یشجع النفوس أن یقتدوا به ویتابعوا خطواته، وأن یتنافسوا علی تحقیق صفاته، وأن یُوالوه ویُعادوا غیره، لکان شِعرُ المدح جدیراً بالإلقاء في الهاویة». [17] نَعَم إنّ المدح المُختلق یصوّر ممدوحاً مثالیاً ویسبّب ترویج الفضائل والکمالات وتحریضَ النّاس علی الاعتناق بها والتنافس فیها، لکن له هذا الخطر أن یتلقّاه المخاطب ثوباً علی قدره ومدحاً یستحقه، فیغتَرّ به ویزیدَ في تیهه وضلاله.
5ـ بناء القصیدة المدحیّة:
یستهل معظم الشّعراء مدائحهم في الغالب بذکرالدیارالخالیة والوقوف علیها للبُکاء أوللتحیّة والسؤال معددین المواضع التي توصل إلیها، أوتحیط بها متشوّقین إلی أحبّتهم یومَ کانوا یعمرونها، مُشبّبین بهم مستعیدین ذکری فراقهم، ثُمّ یرحلون علی فرسهم أوناقتهم مفرجین هَمّهم قاصدین إلی الممدوح فیَصِفونها عضواً عضواً، ویُصوّرون سرعتها ونشاطها ؛ وقدیصفون ما یعرض في طریقهم من حیوانات ومظاهر طبیعیة،أوأنّهم قد یترکون المشبه ویَنصرفون إلی المشبه به إذا ما شبّهوا فیُدققون وصف المشبه به هذا ویتتبعون مظاهرقوّته وجماله وحرکاته . حتّی إذاما اطمَأنّت نفوسهم إلی أنّهم لم یترکوا شیئاً فیه إلاّ وصفوه عادوا إلی مُشبّههم فجعلوه مثلَه أوأفضلَ منه، ثُمّ یَنتقل الشاعر إلی المدح بعدَ هذه المقدّمة التقلیدیّة بحیث تُلزم الشاعرأن یذکر بُعدَ الطریق ومشاقّه وما یُعاني مِنَ السّهر والنَصَب وسُری اللیل ولفح السُّموم، وربّما جعل ناقته تَتَظَلّم شاکیة ممّا یجشمها مِن مَشَقّة الأسفاروشدّ الحِبال وماأُصیبَ من هُزال. کلّ ذلک استعطافاً للممدوح وإیجاب حقّه علیه. قال «المُثقّب العَبدي» :
إذا ما قُمتُ أرحَلُها بِلَیلٍ
تَأَوّه آهة الرّجل الحَزینِ
تقول إذا درأت لها وضیني
أ هذا دینُه أبداً ودیني
أ کُلّ الدّهرِ حَلّ وارتحال
أ ما یُبقي عليَّ ومایَقیني
یَری «ابن قُتیبة» أنّ بَدء العرب مدحهم بالوقوف علی الأطلال و…. طبیعي لاشُذوذ فیه، ولایُخالف تناسق القصیدة ووحدتها ؛ فیقول: «سمعتُ بعضَ أهل الأدب یذکر: أنّ مُقَصِّد القَصید إنّما ابتدأ فیها بذکرالدّیار والدِّمن والآثار فبَکی وشَکا وخاطَب الرَّبع واستوقف الرَّفیق، لِیجعل ذلک سَبباً لِذِکر أهلها الظَّاعِنینَ عنها؛ إذا کان نازلة العَمَد في الحلول والظَّعن، علی خلاف ما علیه نازلة المَدَر،لانتجاعهم الکلأ وانتقالهم عن ماء إلی ماء وتتبّعهم ساقطَ الغیث حیث کان. ثُمّ وصل ذلک بالنَّسیب، فشَکا شدّة الوَجد وألمَ الفراق وفَرط الصَّبابة، لِیُمیلَ نحوه القُلوب ویصرف إلیه الوجوهَ، ولِیَستدعيَ به إصغاءَ الأسماع إلیه. لأنّ التَّشبیبَ قریب مِنَ النُّفوس، لائطٌ بالقلوب لما قد جعل الله في ترکیب العِباد مِن محبّة الغزل وإلف النّساء… فإذا عَلم أنّه قد استوثقَ مِنَ الإصغاء إلیه والاستماع له، عقّب بإیجاب الحقوق فرحل في شعره وشکا النّصبَ والسّهروسُری اللّیل وحَرَّ الهَجیروإنضاء الراحلة والبعیر. فإذا عَلِم أنّه قد أوجب علی صاحبه حقَّ الرَّجاء وذمامة التأمیل… بدأفي المدیح فبعثه علی المکافأة وهزّه علی السماح وفضَّله علی الأشباه» [18]
وذکر الدکتور بدوي أنّ «بعض النّاقدین عللوا ذلک بما أنّ بِدایة الغزل ترجع إلی عبادة الآلهة التي کانت تُصوّربصورة الإناث عند الیونان، وأنّه نَشأَ دینیاً وأنّ الشاعرعرباً وغیره کان بَدَأ ملحمته أوقصیدته حتّی القصائد المدحیّة والتّمجیدیة بالغزل، کَأنّه یقدّم بذلک بین یدَي ممدوحه أوممجَّده دعواتٍ ورَجاءات لِیَنجِزَله ما یرید، أولِیُجزل له في الصّلات، لأنّ الغزل لم یُنسَ أصلُه الدّیني.» ثُمّ یُعَقّبُ علی هذه النّظریّة بأنّها «لا تتفق مع الحیاة الدّینیّة للعرب وأدبهم، لأنّ الغزل لم ینشأ عندهم دینیّاً ولم یتّخذوا الآلهة إناثاً.» [19] سار الشعراء علی هذا النظام الذي سَلَکه القدامی في بدءِ القصائد بالمقدّمة الغزلیّة والوقوف علی الأطلال والدّمَن والتساؤل والبُکاء، حتّی جاء «أبونواس» وثارعلیه وجعل عمل الشعراء سُخریّا ً، وسَفّههم علی ذلک وقال:
دَع عَنکَ لومي فإنّ اللَّوم إغراءٌ
ودَاوِني بالتي کانت هي الدّاء
صَفراءُ لاتنزلُ الأحزان ساحتَها
لَومَسَّها حَجَرٌ مَسَّتهُ سَرّاءُ
لِتلک أبکي ولا أبکي لِمَنزِلَةٍ
کانت تَحُلُُّ بها هِندٌ وأسماءُ
حاشا لِدَرّةَ أن تُبنَی الخِیام لَها
وأن تََروحَ علیها الإبل والشّاءُ [20] کان لثورة أبي نواس علی هذا النّظام أثرٌ کبیرٌ، وکاد یَقضي علیه لولا أن تدارکه أمران، وهما: أنّ أبانواس شفّع ثَورته بتحقیرالعرب وحَطَّ منزلتهم من ناحیةٍ، ومِن ناحیةٍ أُخری دعا إلی تعویض هذا النّظام بوصف الخَمر والقِیان وَ مجالس اللّهو. فهذان الأمران شوّها وجه هذه الثورة وخَفّفا شأنها وجَعلها غیرَناجحةٍ، وإن کانت قد أثّرت علی الشعراء قلیلاً أوکثیراً.
نتائج البحث:
- کان المدح من الأغراض الشعریة الرئیسة في الأدب العربي القدیم ولم یتأخرعن سائرالأغراض کما یذهب إلیه بعض المحققین.
- الشاعرالجاهلي کان یُحافظ علی کرامته في مدح الملوک والسادات ولم یتذلل لهم وهوفي أشدّ الحاجة إلی عطائهم.
- کان الخلفاء یُحبّون المبالغة والإغراق في مدحهم، ویُجزِلون العطاء فیهما.
- بدأ معظم الشعراء قصائدهم في المدح بالوقوف علی الأطلال والدیاروالبکاء علیهما ووصف الأحِبّة وأحزانهم وأشواقهم.
- ثار أبونواس علی نظام القصیدة المدحیة ولم یکن ناجحاً في القضاء علی هذا النظام لأمرین: 1ـ سعیه في تحقیرالعرب. 2ـ دعوته إلی تعویض هذا النظام بوصف الخمروالقِیان ومجالس اللهو.
المصادر والمراجع:- القرآن الکریم.
- سس النقد الأدبي عندالعرب، الدکتورأحمدبدوي، مطبعة دارالنّهضة، القاهرة.
- الأغاني،أبوالفرج الإصبهاني،تحقیق عبدالله علي مهناوسمیرجابر،دارالفکر،بیروت،1407ه.
- دیوان أبي نواس، تحقیق أحمدعبدالمجیدالغزالي، القاهرة، 1953 .
- دیوان الأعشی، تحقیق حنانصر الحتی، دارالکتب العربي، بیروت، 1414ه .
- دیوان إمرئ القیس، تحقیق، حنّاء الفاخوري، دارالجیل،بیروت، 1409ه.
- تاج العروس، الزبیدي.
- زهرالآداب، أبوإسحاق إبراهیم الحصري، تحقیق علي محمدالبجاوي، الطبعة الثانیة، مصر.
- شرح المعلقات العشر، التبریزي، مکتبة محمدعلي صبیح وأولاده، مصر.
- الشعروالشعراء، ابن قتیبه الدینوري، تحقیق أحمدمحمدشاکر، 1966م.
- العمدة، إبن رشیق القیرواني، تحقیق محمدمحي الدین، مطبعة مجازي،1934 م.
- القاموس المُحیط، فیروزآبادي.
- لسان العرب، إبن منظور، دارإحیاءالتراث العربي، بیروت،1996 م.
- المجاني الحدیثة، لویس شیخو، المکتبه الکاتولیة، بیروت .
- نقدالشعر، قدامة جعفر،تحقیق محمدعیسی ممنون، 1934م.
- وفیات الأعیان، إبن خلّکان، تحقیق إحسان عبّاس،مطبعة الثقافة، بیروت.
حواشي
[1] القاموس المحیط، مادة : مدح
[2] تاج العروس، مادة : مدح
[3] لسان العرب، مادة : مدح
[4] أسس النقدالأدبي، ص :177
[5] شرح دیوان إمرئ القیس، ص:150
[6] الأغاني، ج :10، ص:293ـ298، وشرح المعلّقات العشر، ص: 103
[7] المجاني الحدیثة، ج :1، ص :85
[8] أسس النقد، ص :179
[9] نقد الشعر، ص : 39
[10] العمدة، ج: 2، ص: 129
[11] المصدرنفسه، ج :2،ص :128، وأسس النقد، ص :181
[12] زهر الآداب، ج : 1 ص :111، والعمدة، ج : 2، ص : 114
[13] نقد الشعر، ص : 25
[14] العمدة، ج : 2، ص :139 ]
فنری أنّ الخلفاء بلغوا في الحرص علی المبالغة والإغراق مبلغاً لایُرضیهم شعرُ شاعر واختلاقُه إلاّ أن یضعَهم موضعاً یتناهی إلیه الفضائلُ والمکارمُ، بل یُشرِکهم مع الله في تدبیرالسماوات والأرض وتعزیز النّاس وتذلیلهم، وقبول العبادات وردّها؛ ما أجمل قوله تعالی: «وَالشُّعراءُ یَتَّبِعُهم الغاوون» [[الشعراء :224
[15] نقد الشعر، ص :41
[16] وفیات الأعیان، ج:6، ص : 24
[17] أسس النقد، ص :214
[18] الشعر والشعراء، ص : 75ـ74
[19] أسس النقد، ص :183
[20] دیوان أبي نواس، ص :7ـ6
http://www.diwanalarab.com/spip.php?article23528