النخب المصرية في الطرفين تتخبط بعد أن وضعت عقولها في "المتحف المصري" إلى جانب "المومياءات" (!!)
لا أحد يريد أن يفهم طبيعة ما يحدث الآن، ولا أن يتعامل معه بشكل موضوعي لا بشكل تعسفي..
لا أحد يريد أن يفهم أن شرعيته المُدَّعاة لا تنفي وجود شرعية أخرى لها ما يبررها وهي حقيقة واقعة، وشرعيتها تستند إلى عناصر وجيهة، وإلى قوة في الشارع..
مرسي لا يريد أن يعترف بوجود شرعية جديدة تتشكل في الشارع، بل هي قد تشكلت فعلا وبثقل شعبي يعتد به، ويجب أن يُلتفت إليها، ويتم الاقتراب منها، لا أن يبقى في مكانه ثابتا لا يتقدم نحوها (!!)
والمعارضة في الشارع بشرعيتها الشعبية الجديدة التي تشكلت لأسباب موضوعية ذات وجاهة حقيقية، لا تريد أن تعترف بأن هناك شرعية موجودة تعتبر الصندوق السابق هو مرجعيتها، وتصِرُّ على أن تعتبرَ نفسها هي الشرعية الوحيدة، وترفض التقدم لتلتقي في منتصف الطريق مع الشرعية المقابلة (!!)
إن تمترس أنصار كلِّ شرعية من تلك الشرعيات في خندق تصوراتهم وقناعاتهم، هو شكل صارخ من أشكال إلغاء الآخر وإقصائه بلا أيِّ مبرِر، فقط بسبب الاختلاف مع أنصار الشرعية المقابلة في أمور يعتبر الاختلاف معهم فيها أمرا مشروعا بل وصحيا (!!)
أنصار الشرعية الجديدة يطالبون بأمور هي في جوهرها "ثورة"، من مثل "إسقاط النظام"، دون أن يفهموا أن الثورة يجب كي تكون سليمة ومكتملة خلافا لثورتهم الناقصة السابقة التي أوصلت البلاد إلى ما هي فيه اليوم، ألا تقوم على الأخطاء نفسها التي قامت عليها ثورة 25 يناير التي لم تُستكمل ليدفع المصريون ثمن عدم استكمالها ما نراه من انقسام مدمر في الشارع المصري، وألا يكون نصف الشعب معارضا لها بخروجه إلى الشارع هو أيضا (!!)
وأنصار الشرعية القائمة على "الصندوق"، لا يريدون أن يفهموا أن الفرق بينهم وبين من كانوا يؤمنون بشرعية نظام مبارك، هو أنهم خرجوا يدافعون عن شرعية مرسي ونظامه الحالي، ولم يكتفوا بالبقاء في بيوتهم، بينما أنصار شرعية نظام مبارك لم يخرجوا إلى الشوارع رغم وجودهم وبكثرة بصرف النظر عن الدوافع الأخلاقية التي تقف وراء كل طرف في نصرته للنظام الذي يناصره ويناصر ما يعتبره شرعيته (!!)
إن الطرفان لا يريدان أن يفهما أن العنجهية والغطرسية والتمترس في الخندق تحت عنوان "وهم الشرعية"، سواء كانت "شرعية صندوق" أو "شرعية إرادة شعبية تتشكل"، باعتباره "طوطما وثنيا يجب أن ننحني أمامه ونركع كأنه إله يُعْبَد، هي المقدمات الحقيقية للاحتراب والاقتتال المُهْلِك، وأن الحل الوحيد المناسب لتجنب ذلك الاقتتال والاحتراب، هو الخروج من تلك الخنادق للالتقاء خارجها بتنازلات ضرورية ومحتمة الحدوث (!!)
السياسة ليست هي تلك الممارسات التي تلقي بالخصم إلى نقطة "حافة الهوية / Edge Identity"، وهو المفهوم "السياسي الاجتماعي" الذي ترفضه كل الممارسات السياسية العاقلة التي تبغي الوصول إلى حلول ونتائج للأزمات، دون أن يكون ذلك على حساب تحطيم الطرف الآخر وإنهائه، لأن إحساسه بذلك سيدفعه إلى أن يكون "مستميتا في الدفاع عن نفسه" (!!)
ومع الأسف فإن الطرفين يمارسان هذا النوع من الممارسة السياسية، وكل منهما يدفع بالطرف الآخر إلى حافة الهوية التي ستدفعه إلى الاستماتة دفاعا عن بقاء هويته أيا كات النتيجة (!!)
على "مرسي" ونظامه أن يتقدما خطوة إلى الأمام بالتنازل عن اعتبار شرعيتهم غير قابلة للمساس إلا بعد انتهاء الفترة الرئاسية للرئيس، مادامت الشرعية الأخرى المقابلة حقيقة واقعة لا ينكرها إلا جاهل وأحمق، رغم كل مآخذه على بعض مظاهرها (!!)
وعلى "المعارضة" أن تتقدم خطوة إلى الأمام بالتنازل عن اعتبار شرعيتهم غير قابلة للمساس إلا برحيل الرئيس فورا، مادامت الشرعية الأخرى المقابلة حقيقة واقعة لا ينكرها إلا جاهل وأحمق، رغم كل مآخذه على بعض مظاهرها (!!)
لا حل للأزمة المصرية كي لا تتحول إلى كارثة، إلا بالتقاء أنصار الشرعيتين في خندق جديد هو خندق الاتفاق على "إجراء استفتاء على الانتخابات الرئاسية المبكرة" (!!)
أما إجراءات ذلك فسهلة وبسيطة، تستطيع القوات المسلحة المصرية أن تستكمل دورها التاريخي الذي يطمئن إليه المصريون بقرارات عاقلة ومنطقية وموضوعية، بمطالبة المصريين جميعا بمغادرة ميادين الاعتصامات، بعد طرح خارطة طريق واضحة في أنها تربط الاستفتاء على الانتخابات المبكرة بالانتخابات النيابية القادمة، حيث يستطيع كل مواطن أن يدلي برأيه في الانتخابات الرئاسية المبكرة، في اللحظة نفسها التي يختار فيها ممثليه في مجلس النواب (!!)
ولكل المصريين أقول مذكرا بكارثة الجزائر..
إن قرارا أرعنا غير مدروس من قبل جنرالات جيش لم يفكروا في الجزائر بقدر ما فكروا في مصالحهم ومزاياهم وأنصارهم في الشارع وفي مؤسسات الدولة الموبوءة بالفساد، أسفر عن إلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية الشرعية والنزيهة، فجرت صراعا مهلكا ومدمرا، استمر عشر سنوات دامية وما يزال، نتج عنه ربع مليون قتيل ذهبوا ضحايا لأمر غير مفهوم، أسفر عنه قرار غير عاقل ولا مدروس ولا مؤسَّس لجنرالات جيش غير مسؤول (!!)
أيها المعتصمون في ميادين التحرير في كل ربوع مصر..
إذا لم يكن ما تقومون به بمثابة ثورة كاملة هدفها إسقاط النظام بأكمله، رئيسا ومجلس شورى ودستورا ونظاما قضائيا.. إلخ، بما هو أكثر تطورا من ثورة 25 يناير، فعليكم أن تخرجوا من خندقكم وتعترفوا بأن الخلاف بينكم وبين الطرف الآخر هو خلاف سياسي ضمن الشرعية الثورية نفسها، وبالتالي فلا مجال إلا لأن تلتقوا معهم في منتصف الطريق (!!)
أيها المعتصمون في ميادين رابعة العدوية في كل ربوع مصر..
إذا لم يكن ما تقومون به بمثابة دفاع عن مشروعية نظام يتعرض لثورة كاملة، فعليكم أنتم أيضا أن تخرجوا من خندقكم وتلتقوا مع الطرف الآخر في منتصف الطريق، لأنكم بإزائهم مثلهم بإزائكم، تختلفون في السياسة وإدارة الدولة ضمن المشروعية الثورية نفسها (!!)
في غير هذه الحالة التوافقية من الطرفين..
يؤسفني أن أبدي اقتناعي بأن مصر أرضا وشعبا ودولة وتاريخا هي الوحيدة التي لا تتصدَّر أجندات جميع الأطراف (!!)