هذا أخر نص سردي كتبته خلال سنة 2012











قصة قصيرة زمن التفاصيل
عندما استيقظ هذا الصباح اكتشف أن اشياء كثيرة ظلت غائبة عنه سنوات طويلة ،دون أن تحظى بانتباهه أو تنال نصيبا من اهتمامه،فالتفاصيل لم تكن تعني له شيئا ،فقد اعتاد على رؤيا شمولية للاشياء وظل وفيا لمبدأ الكل لا الجزء..فجمال الزهرة يكمن فيها لا في لسيناتها وباقي مكوناتها ، وجمال المرأة يدرك بظرة بانورامية شاملة ، كذاك الحب فهو يقذف في الفؤاد نورا متوهجا ليزرع فيه الدفء والفرح ويغدي الروح بنسماته....

لكنهه الآن يجد نفسه يكتشف عالما جديدا ، تتسيد فيه التفاصيل ، وتسيطر الأجزاء بدرجات متفاوتة وعمق متنوع ومختلف، عالم تبدأ الاشياء فيه صغيرة وغير ذات معنى لتصبح فيما بعد ذات قيمة كبيرة ن ليس مهما أن يدرك ذلك في وقت متأخر ، فالتجربة تكسب قيمتها من من وشم السنين ونضج الشسخصية .

كانت البداية بزوجته التي عاشت برفقته ربع قرن دون أن يتفحص تفاصيل وجهها وجسدها ، وها هو يكتشف هذا الصبااح وهي تجلس قبالته على مائدة الإفطار ، أن الصباغة لم تعد قادرة على اخفاء بياض شعرها ، كذاك المراهيم والدهون لم يعد لها مفعول في اخفاء خطوط التجاعيد المحفورة على جبينها ، بل أكثر من هذا يكتتشف ان تحت ذقنها خالة سوداء لم ينتبه إليها قط .كما أن جسمها لم يعد رشيقا ومسته السمنة والثخانة بشكل رهيب، وجمالها يكاد يصبح في خبر كان.

عندما نزل إلى الشارع صدمه مشهد العمارة التي عاش بها أكثر من من نصف عمره ، فجدرانها كساها السخام ، ومحيطها اكتسحته الأزبال والمياه العادمة المنتشرة بشكل مقرف ..تساءل "كيف مرت كل هذه السنين وهو يعيش خارج سياق التفاصيل ؟؟؟"كيف تأتى له أن يُجمد عقله وقلبه ، ويكبح جماح رغبتهما في التدقيق الشامل لتفاصيل الاشياء؟؟...على كل حال لم يفت الآوان ومازال أمامه الوقت الكافي لتحقيق ذاته وتغيير نظرته للعالم.

ركب سيارته القديمة،وانساب بين شوارع المدينة، أحس بانتعاشة غريبة وهو يكتشف تفاصيل متعددة كان يمر بها بشكل يومي دون أن يهتم بها، أو ينبه إليها والى ،هاهو يعيد ترتيب أوراقه ويدخل غمار حياة جديدة تدفع به إلى التفاعل مع الواقع بشكل أكثر عقلانية وواقعية ن بعيدا عن كل المؤثرات الخارجية ، أو إسقاطات الذات .

عندما وصل بناية الإدارة التي يشتغل بها ، انتبه لأول مرة إلى اللوحة الموجودة في مدخلها وقرأ مضمونها بتدقيق ثم دخل وعيناه تحملقان في كل ما حوله وكأنه يكتشفه لاول مرة ..الممر الطويل والبساط الأحمر الممتدعلى على طوله ، أبواب المكاتب البنية اللون ، اللوحات التشكلية المعلقة على الجدران ، ولمبات النيون البيضاء المشتعلة ..توقف أمام باب مكتبه ، وقرأ اللافتة المتبثة عليه : " محمد علوش رئيس الموارد البشرية "..هذا شيءجميل وبريستيج لم يهتم به من قبل..دفع الباب وولج داخلا، أحس بان المكان فخم ، وانه قلما متع ناظره بروعة الفضاء وسحره ، جلس فوق الكرسي الجلدي الموجود خلف مكتبه الضخم ، وضغط على زر الجرس كالمعتاد ، فدخلت الكاتبة ، تحمل البارفور الخاص بالتوقيعات ،" حملق بها وكأنها تقف أمامه أول مرة ، قامة هيفاء وجسم يحتضنه فستان يبرز كل مفاتن الانثى الجميلة" ،ففتحه وعيناه تسترقان النظر إلى سيقانها وصدرها العامر..كم هي جميلة التفاصيل إن تعلق بغادة حسناء مثل هذه الكاتبة ..وقّع الأوراق بارتباك ثم أعادها إليها ، فاحتضنتها وهي ترسم على محياها ابتسامة مغرية بعد أن احست بنهم نظراته ، تابع عجيزتها المكتنزة بعينين جاحظتين وهي تغادر المكان ، تاب إلى نفسه وأحس بان مرحلة التفاصيل قد اقتحمت حياته دون اِستئدان ، ولن يتخلى عنها مهما كانت الأسباب والمسببات...




محمد محضار : خريبكة في 22 نونبر 2012