قصة قصيرة: (9) المسافرة الحسناء !
قحطـان فؤاد الخطيب / العراق
عجبت كثيراً، وأنا أصغي لطالبي المتميز، أسعد، لقوة ذاكرته (الالكترونية) التي اختزنت في بحر ثوانٍ عابرة صورة ذهنية لمراهقة حسناء التقى بها بمحطة القطار الكبرى في بغداد وهي تدلف في العربة السياحية الثالثة للقطار المسائي الأول النازل لمدينة الموصل . كما عجبت أكثر من عينيه (الكاميراويتين) اللتين سجلتا واحتوتا كل دقائق المشهد تفصيلياً في أقل من ثوان !
ويبدو أن المسافرة الحسناء دارت عنقه بقوة مما حداه إلى محاولة مد الجسور عبر قنوات مختلفة للفوز ولو بسماع كلمة واحدة من فمها، المطرزة شفتاه، بلون ميتاليكي جذاب . وكأن كل شيء فيها ، دون استثناء، يثير الفضول: عيناها الزرقاوات ، شفتاها الناعستان ، وشعرها المتفحم سواداً اصطف، بدلال، على كتفيها البضين، بخصلتين عنقوديتين ، عاكستين أنوثة صارخة لبنت السبعة عشـر ربيعاً ، والتي لم تلون بشرتها الناعمة شمس بغداد الذهبية!
ويبدو أنه اختلس النظرات أثناء ابتسامتها الساحرة لتوديع مرافقاتها الثلاث حيث رأى، كما وصف وهو مندمج، أسنانها العاجية متراصة بشكل هندسي فريد، خصوصاً الأمامية منها، والتي كانت توحي وكأنها نجمة ساطعة هبطت لتوها من هوليود .
لقد كانت تفوح منها عطور باريسية نادرة، في حين تماشى ثوبها الأسود الرقراق، ذو الخطوط العمودية مع أحدث صرعات الأزياء الأوربية آنذاك . أما تنورنها الناصعة البياض، فقد اعتلاها حزام عريض لامع يتوسطه طوق يحمـل شكل قلب. على أن حذاءها، ذا الكعب العال، زاد من طولها الفارع.
وتحرك القطار ببطء ، وكان مقعدها يقابل مقعده على بعد كرسيين يفصلان بينها. ثم ازدادت سرعة القطار. إلا انه (تخشب) في مقعده ، ضارباً أخماسا بأسداس، ومتخبطاً في أفكاره ! لقد كانت الصبية تلحظه ، وتوحي وكأنها تعرفه. وتصورت بأن تخشبه شبيه بـ (فلاش باك)(1) . ووصل القطار محطة الكاظمية حيث توقف هناك بضع ثوان . ولم يتحرك خلالها أسعد لكنها تجاهلته برهة، ربما لكي تتأكد من كونه فعلاً في عملية (فلاش باك)، أو أنه مجرد ذهول صبياني لا معنى له . واجتاز القطار محطة التاجي ثم محطة المشاهدة عندها أطل الـ (تي تي) (2) ليضع نهاية لذلك (التخشب) ! إذ سأله عن تذكرته بيد أن أسعد أضطرب للانقطاع المباغت لسلسلة أفكاره ! وعبثاً حاول إيجادها لكنـه أخيراً رآها مرمية على الأرض . وانتهى المشهد بسلام . إلا إن شروده بدأ يتجدد ، وكأن لسان حاله يقول " أريـد أن اكلمها مهما تكن العواقب ! " وتريث من جديد، وراح يضع اللمسات الأخيرة على سيناريو درامي مثير ابتكره في بحر دقائق معدودة ، عله يثمر بنتيجة ما تشفي غليله . ومضى يتمتم مع نفسه .... " لمَ لا أعط الطفل الذي معها قطعة حلوى ليبدأ بعدها الحوار المثمر حتماً ؟ "
وشاءت الصدف بعد مرور بضع ساعات أن بكى الطفل والركاب نيام إلا هو. وعجزت الأم والفتاة الحسناء عن إسكاته. إلا أن أسعد اندفع بسرعة الصاروخ كي يعطي الطفل علبة (بيبسي كولا) وقطعة حلوى . وبمعجزة سكت الطفل في الحال. واحتارت الأم كيف تشكر هذا المسافر، فيما لم تكترث الصبية بما فعله. وجن جنونه لكنه سرعان ما تراجع قائلاً لنفسه : " ما دمت مستمراً بعمل السيناريو، فلم الانفعال ؟ إن (الأكشن)(3) لم يبدأ بعد ! وبهذه الكلمات عزى أسعد نفسه وشرع يمضغ مراجعته للسيناريو مرة أخرى ".
كان هذا المسافر طالباً مخضرماً في جامعة الموصل، كلية الآداب، فرع اللغة الإنكليزية في الصف الأول آنذاك(4) . كان فتى موهوباً ومنظماً في كل شيء. لقد كان دقيقاً في مشيته، وفي ارتداء هندامه، إضافة إلى طريقة محادثته، وتعامله مع الآخرين، نعم كان دقيقاً حتى في أتفه الأمور . كما كان زاهداً متعبداً متعاوناً إلا أنه كان فضولياً يهوى جمع المعلومات دون التفاعل معها. كان كالصحفي الناشئ يراقب بعين ويسجل بالعين الأخرى، لقد كان حريصاً أن لا يفوته مشهد ما أو تضيع عليه كلمة . وتساءل مع نفسه قائلاً : " ترى ماذا أبغي من مهمتي هذه الليلة ؟ سبحان الله. ماذا لو انفجرت الشابة الحسناء في هذه الساعة المتأخرة من الليل معاتبة بكلمات جارحة ؟ " ثم عاد وهدأ نفسه من جديد قائـلاً : " لا .... لا يمكن . إنها حسناء وأنثى مثالية . حاشاها من الزلل . إنها حواء مشبعة حتى الثمالة بالرقة والنعومة والجاذبية . لا .... لا يمكن أن يخطئ حدسي . " وقطع عليه هذه الأفكار الرومانسية الدافئة بكاءٌ نشاز ثان للطفل، حيث أفاق معظم المسافرين مذعورين صارخين: " ما هذا ؟ إلا نستطيع النوم ؟ أين أمه ؟ "
فلم يكن لأسعد بد غير إسعاف الطفل مرة أخرى بقطعة حلوى لامعة الغلاف وبيده مفاتيح سيارته يخشخش بها للطفل كي يلزم الصمت . وفعلاً صمت الطفل مما أزال إحراج الأم التي استأنست بطيبته . وخانها التعبير عن شكره، لكنها اندفعت بلكنتها الريفية تقول: " إنني لم اعد أطيقه. لقد جبت كل مستشفيات بغداد أملاً في العثور على علاج له فلم أفلح. انه مريض .... مريض .... وميئوس من شفائه . تصور حتى بكاءه نشازٌ بسبب اضطرابات في قصباته الهوائية. "
" وتظاهرت،" يقول أسعد "بأنني كنت أتعاطف معها في مصابها ، إلا أنني في القهقرى. إذ لم تكترث لي ولا لحديث الأم التي كانت بجوارها . نعم، عدت لمقعدي. وما هي سوى لحظات من جلوسي حتى فاجأتني الأم وهي تستأذنني عن إمكانية رقود الطفل على الكرسي الشاغر بجواري . وعلى الفور رحبت بها بشكل مبالغ فيه منتظراً (نزول الرحمة) بعد ذلك ! وجاءت الأم ومعها فراش الصغير ولوازمه ، فيما بقيت الحسناء غير آبهة بما يجري. ودفعني الفضول، وقد توطدت العلاقة بيننا تدريجياً أن أسأل الأم: " هل أنتم من مدينة الموصل ؟ وهل سيكون أحد في انتظاركم في المحطة ؟"
أجابت : " يا حسرة ، إنني أرملة ، وهذا ابني الوحيد بعد نيرمين ، ابنتي الجالسة هناك. نعم إننا من ضواحي الموصل . "
ثم مضى أسعد يقول: " .... ولفني حزن كبير، وشعرت بأن الدنيا أضيق مما نتصور. وقلت لنفسي لأكن هذه المرة غير فضولي . إن المأساة التي تعاني منها هذه المسـافرة الأرملة تهتز لها الجبال. لكن قلبي كان مستمراً بالخفقان وتواقاً للحديث مع الرقيقة، نيرمين. " ثم أضافت الأم " تصور أننا صرفنا كل ما بحوزتنا من أموال لعلاج الطفل ولكن دون جدوى. فلمن نشكو أمرنا ؟ " ويبدو أنها تصورتني وكأنني طبيب سيكولوجي أو من بيده مفاتيـح حل المجاهل والطلاسم ! لكن أسعد، لشدة تأثره على حالها المزري، حاول التخفيف عنها ومواساتها مرة أخرى بأن أتاح لها المجال كي تتحدث والمسافرون نيام. فاسترسلا بالحديث حتى أوقفهما دخول القطار في محطة لم يشاهداها سابقاً ، حيث الأنوار الذهبية المشعة، والأرصفة النظيفة الفسيحة، إلا أن دهشتهما سرعان ما زالت عندما قرءا اللوحة الاستدلالية: (بيجي .(
" لقد كنت مستمعاً أكثر مني متكلماً . وتجذّر حوارنا ، وطغت عليه مسحة الحزن المشوب بالحذر . " هذا ما كان يقصه الطالب المخضرم ، أسعد، وهو يسحب نفساً عميقاً ، ثم أضاف يقول: " لقد استلطفتني، كما يبدو، فإذا بها تبوح لي ببعض همومها في حين كنت الحظ فيها ملامح الصوفية والرقة والنبرة الملائكية. ومن سياق كلامهـا عرفت من أي ريف موصلي جاءت. لكنني لم أجرؤ قط التحدث عن ابنتها التي ابتسمت لي من بعيـد لسبب كنت اجهلـه، وكأن لسان حالهـا يريد أن يقول: شكراً على موقفك ! " لقد أدرك معها بأن أعظم سلاح تقاوم به الحسناء هو الابتسامة العفوية البريئة .
وما أن لاحظ أن خيوط الفجر موشكة على الطلوع حتى أحس بالكياسة بحيث استأذنها للرقود إلى النوم رغم استعدادها الكامل للتنفيس عن أعماقها. لقد وعدهـــا بمساعدتها في إنزال أمتعتها في المحطة وإيصالها ، إن شاءت ، في سيارته إلى حيث تسكن، بعد أن اخذ ربطة المفاتيح من طفلها النائم. وكانت تتلعثم أثناء شكره على جهوده غير المتوقعة. إلا أن خياله سرح في تفسير ابتسامة نيرمين له متسائلاً فيما إذا ستعطيه الدفع الجديد للاستبسال بالفوز ولو ببضع كلمات منها . إلا أنه لم يتجرأ على فعل أي شيء. وفوض أمره إلى الله ومضى إلى الاسترخاء ثم الرقود إلى النوم.
وأخيراً دنا القطار من محطة الموصل، ونهض فجأة يساوره أملان:
- إسداء المعروف لأهله بمساعدتهم في إنزال حقائبهم وأمتعتهم ثم إيصالهم بسيارته ، كما وعد الأم ، إلى حيث سكناهم .
- احتمال فتح الحوار مع نيرمين التي أوشكت أن تفقده صوابـه عندما لم ترد على تحيته:
"صباح الخير ، نيرمين ."
ولكونه أنضج من أن يتشنج في مواقف إنسانية نبيلة كهذه، انطلق في الشارع ليوصلهم إلى دارهم أثناء ذلك الصباح الباكر، وفي أعماقه شكوى مرة لم يستطع كبتها بل باح بها معاتباً أمها وهم على بعد أمتار من الدار."
- نيرمين لم ترد على تحيتي الصباحية. أيجوز هذا ؟ "
- "نيرمين، أيها الكريم معذورة. فهي صماء بكماء منذ ولادتها ولحد الآن "!!
(1) العودة إلى الماضي
(2) فاحص التذاكر في القطار
(3) تنفيذ العمل الدرامي المرسوم بحركة مميزة
(4) 1985