بين الأديبين: غسان وعدنان كنفاني /رؤية سريعة/ريمه الخاني
يجمعهما حرف الألف و النون في نهاية الاسم والتفعيلة العروضية ,ويفترقان بالمعنى, وليس تماما في أول حرف من اسمهما احدهما عين والآخر يزيده بنقطة والبقية خصوصية لا علاقة لهما بها سوى أنهما اخوان شقيقان..
أحدهما شهيد والآخر مشروع شهيد...حفظه الله..
ربما قال أحدهم ليس بالأمر المتفرد, نعم لكن أن تجد روحا واحدة تظلل أعمال الاثنين أمر لافت حقا, فلا يمكن أن يتشابه قلمين ولو نشآ من بيئة واحدة بهذه الدقة..
*****
ما دعاني لهذه الإسقاطات البسيطة قراءتي لكتاب الدوحة مؤخرا و المرافق للمجلة والتي تحمل نفس الاسم , كان يحوي في بدايته لفتة نقدية غير مكتملة الجوانب, لو جاز التعبير عن قصص الأديب الكبير الراحل: غسان كنفاني , وسرد لقصصه بعدها.
كنت للأمانة لم أعد ما قراناه في مدراسنا من نصوص له بعدها حتى الآن.
لكن ما لفت نظري الروح المتشابهة لدى الأديبين الكبيرين, وهذا لا يتحقق غالبا لأخوين حصرا, خاصة في كيفية دخولهما نفس المتلقي برفق وذكاء..
وكأنهما يملكان آلة تصوير لاقطة دقيقة تبدأ بلقطة صغيرة عن شيء لافت بسيط, يوحي بلوحة واقعية أكبر ومنظر طبيعي أشمل لتدور الكاميرا حول الأرجاء فيه بروية وإيحاء كبير معبر أشد التعبير عما يدور حولها.
كانت تصور المشهد كاملا وتدخل في تفاصيله رويدا رويدا..
فهل لهذا لتأثر خاص بالأعمال الدرامية التلفزيونية وردة فعل طبيعية؟ نقول ربما...
لفت نظري للمقارنة ومن المجموعة المذكورة :قصة " برقوق نيسان" وغيرها من النسخة التي ذكرت ,و مقارنة مع نموذج من مجموعة " إيقاعات الذاكرة" لعدنان كنفاني الفائزة بجائزة نبيل طعمة لعام 2008.
******
فهل يحق لنا أن نقارن تجربة أدبية موغلة في الخبرة وأخرى غير مكتملة لظروف الشهادة؟ .
الجواب طبعا من الصعب أن نقارن ..ولكن يمكن ذلك من حيث أنهما أخوان أديبان حصرا, وقد لفت نظرنا تشابه أدوات الكتابة بينهما إلى حد كبير , وافتراقهما إلى حد ما أيضا:
في برقوق نيسان مثلا والشخصية المحورية أبو القاسم وباقة زهر البرقوق الحمراء والتي لها غرض درامي مقصود مقارنة بدماء الشهداء,والتي سيأتي بها لسعاد تلك الطالبة التي كان يشعر بالمسؤولية تجاهها ,
وصلف الجند الإسرائيليين وخاصة إبراهيم اليهودي المسحوب لتل أبيب عنوة..وظنهم بمكيدة , ترك الأديب حقيقة ذلك بين التكذيب والتصديق مفتوحة...في النهاية..
لكن الجو العام الذي يصل للمتلقي فيه بعض غبش , وضعف في الإنارة , وربما لم يعط مزيدا من شعور الزهو في آخرها..
بينما لو طالعنا القصة الأولى عند كنفاني:حوريُّ الذاكرة..
نجد العناية بالعنوان بطريقة لافتة أكثر..رغم أن العنوان السابق جاء مناسبا أيضا جدا وذكيا لكن الثاني حمل لمعانا مميزا, البداية بفعل مضارع وتلك عادة الأديب عدنان على غالب نصوصه , وهي أقوى من الماضي الذي نجده واضحا في قصص غسان :
لاحظوا معي:
عندما جاء نيسان أخذت الأرض تتضرج بزهر البرقوق الأحمر وكأنها بدن رجل شاسع , نثقب بالرصاص.
**********
نجد هنا وصفا يلائم الموضوع المطروح والجهادي بجدارة..بجمل مختارة بعناية تخدم في كل حرف فيها ما يرمي إليه الكاتب وهو قاسم مشترك عند الأديبين .لنلاحظ الآن البداية عند عدنان:
حبيبتي نايفة..
يلف الرسالة ويحشوها في زجاجة يحكم سدها, ويرمي بها بكل قوته بعيدا في البحر, يطمئن أنها وصلت إلى بعد كاف لتحملها دورات البحر إليها ولا ترجعها الأمواج الضحلة إليه.
******
الإضاءة هنا موفقة , المشهد كذلك من بؤرة محددة للأوسع..البداية بفعل مضارع ..
والجمل مسكوبة بعناية لخدمة الغرض المرتبط بالقصة الملاجئ ,وحض الأب على تزويج ابنه من نايفة,النهاية الذكية هي استشهاد عيسى حبيب نايفة وختم النص بجملة تركها القتيل وهو يقبض على زجاجة فيها عبارة:
بعد ملاحقة مديدة استطاعت قوى الخير القضاء على الإرهابي الخطر ...
النهايتين مفاجئتين لافتتين ..وربما كانت عند الأديب عدنان أكثر إغلاقا وقوة..
ذلك أن الموضوع فرض نفسه ومزج بين قصص ما في البيوت والقضية وهذان قاسمان مشتركان في قصص الأديبين تبرز مدى البراعة في جذب القارئ من خلال القصة الوجدانية لمعقل القصية الوطنية بتفاصيلها الأكثر تفصيلية..
يختم الأديب غسان قائلا:
ومرة أخرى , بمثل لمح البصر , شهد أبو القاسم في عيني زياد , وهما تعبران به ومضة تشبه الرسالة.
****
ما يجعلنا نوقن من أن الأديبين يكتبان بمداد واحد الحكَم المتناثرة بين أقسام النص مثال:
إن المدن مثل الرجال , تشعر بالحزن تفرح وتنام وتعبر عن نفسها بطريقة فريدة تكاد لا تصدق ...( برقوق نيسان)
في القصة الأخرىعكاز العم أبو علي)
ما فائدة أن نستقوي على بعضنا وهناك غرباء يدفنوننا جميعا أحياء حتى الموت؟!.
في الحقيقة تلك الحكم المزجاة والمتناثرة في النصوص نجدها توضح الغرض من القصص تثمنها, تجعلها إلى جانب أهمية ما تطرح ضرورية إلى حدا ما , فهل كانت قليلة مقارنة بالسرد الواقعي الذي أغرق النص به؟
نقول ربما..ونخشى أنها ثغرة واضحة في السرد..
***
ما نلمسه في قصص الأديبين الكبيرين الدفء الدرامي والوجداني , والكم الكبير منه الذي يجعل القارئ والمتلقي حتى لو كان بعيدا إلى حد ما عن تفاصيل النص وما يجري فيه كواقع معاش حقيقي مثلا,متفاعلا وجدانيا وطرفا حيويا فيه وشريكا في المغامرة الوجدانية والسردية, وهذا يحسب للكاتب ,
فمن غير ردة شعورية قوية من قبل القارئ ,وفعل وتفاعل مع الحدث لا يمكن لنص أن ينجح..فهل حرارة المعاناة كانت السبب؟ أم المخزون اللغوي قدم الإضافة(فاللغة كانت متقاربة إلى حدا ما كروح وأسلوب بصرف النظر عن العمق اللغوي عند عدنان كنفاني)؟.
أم هو الإبداع الحقيقي الذي رغم تفاوت عمق الخبرة بينهما إلا أن المشترك كان واضحا ولو أن ظروف
الحالة الإبداعية لدى الأديب عدنان كانت أقوى رغم بعده عن مكان الأحداث زمنيا على الأقل...ولكن ما يسعدنا أن نقول: أنهما كانا مخلصين لقضيتهما بقوة وعمق,وما حدث ويحدث كل يوم وكل دقيقة, وكأنها الحقيقة مازالت ماثلة أمامنا حية تستحث الهمم للعمل والنصر,
هي قضيتنا جميعا , وتتفرع منها قضايا الوطن العربي المؤلمة, حيث كان الإسفين الذي زرع في فلسطين يكاد يصيب رقعة الوطن العربي الشفافة بإصابات كزجاج نرجو رأب صدعه..
جهد متواضع أهديه لكاتب أحترمه.
فكن بخير أستاذنا العزيز وجميعنا على طريق العطاء والإبداع بإذن الله نرتقي.
ريمه الخاني 19-4-2012