عليكَ أنْ تأخذ نفسك بالصَّبر وأنت تقرأ مجموعة «حمار النُّورة» للكاتب السعودي عبدالوهَّاب أبو زناده، (1433هـ=2011م)، فحرف المطبعة الصَّغير، وافتقار الكتاب إلى فنون الطَّبْع في التَّرتيب والملاءمة بين سطوره وصفحاته، يصدَّانك عن القراءة إذا نويتها، ويَحُولان دون إتمامها إذا شرعت فيها.
إذا صبرتَ نفسك على الحرف الدَّقيق والطباعة المتواضعة، فلا أظنُّك إلا ساخطًا كلَّ السُّخْط على فُشُوّ الغلط النَّحويّ واللُّغوي في أثناء الكتاب، مِنْ ألفه إلى يائه، ولن يرضيك أن يقع كاتبٌ عهدُهُ بالكتابة قديم في أغلاط يسهل عليه اتِّقاؤها، إنْ أحسن النَّظر فيما أنشأه، ولا أظنُّه بناجٍ مِنَ اللَّوم وهو يرفع المجرور، وينصب المرفوع، ويجر المنصوب، حتَّى إذا مضيتَ تقرأ تلك القصص، شقَّ عليك أن اصطنع الكاتب لهجة مغرقة في العامِّيَّة أداةً له، فإذا ما جعلتَ تستأني في تهجِّيها، مخافة أنْ تخطئ في نطق حرف أو أداء حركة، استغلقتْ عليك معاني طائفة مِنْ كلماتها، وأخذتَ تظهر على المتن، حينًا، والهامش، حينًا آخر، وكأنَّك تسأل الكاتب إيضاح ما استبهم عليك بيانه مِنْ تلك الكلمات القديمة، فتفهم، مَرَّةً، ويُعييك الفهم، مرارًا.
â—— دواعي الصبر
لكنَّني صبرتُ، وما كان لي أنْ أصبر على هذا القصور، وأخذتُ نفسي بالقراءة، وكان الأَوْلى أن أنصرف عنها، وقرأتُ هذه القصص المجموعة. حملني على ذلك دواعٍ، منها الأدبيّ، ومنها التَّاريخيّ والاجتماعيّ، فأما الأدبيّ فرجائي أنْ أعرف مقدار ما أصابه عبدالوهَّاب أبو زناده في هذا الفنّ مِنَ الأدب، وأمَّا التَّاريخيّ والاجتماعيّ فلشدَّة عناية الكاتب بتصوير ماضي مدينة جدَّة وما مَرَّ على حاراتها العتيقة مِنْ ضُرُوب العيش، قبل أنْ تتنكَّر لماضيها، ويضحي كالمأثورات الشَّعبيَّة، أوْ ما أحسبه كذلك.
والحقّ أنَّ عنوان المجموعة أغراني بقراءتها، فأردت أنْ أعرف «حمار النُّورة»، وأستقصي خبره، واتَّفق لي، في تلك المدَّة أنْ قرأتُ أقوالا طريفة لجمهرة مِنَ الرَّحَّالين المغاربة، مِمَّنْ نزل بجدَّة أوْ مَرَّ بها، في طريقه إلى الحجّ، أوْ أوبته مِنْه، انطوتْ على وصْف طريف لحميرها، قال العلَّامة عبدالهادي التَّازيّ في كتابه رحلة الرِّحلات، مكَّة في مئة رحلة مغربيَّة ورحلة: إنَّ المغاربة لا يزالون يضربون المَثَل في النَّشاط والقوَّة بحمير جدَّة! وإذا اتَّفق لأحدهم أن يصف امرءًا بصفة مِنْ تلك الصِّفات قال:إنَّه كـ«حميِّر جدَّة»، على التَّصغير الَّذي يراد به التمليح والتَّحبيب!
إذنْ، قلتُ: لا عليَّ إنْ صبرتُ على الحرف والطَّبع واللَّحن والإسراف في العامِّيَّة، رجاء أنْ أعرف حكاية «حمير جدَّة»، أوْ «حمار النُّورة»، فأنا أَثِرٌ بتاريخ جدَّة وماضيها الضَّارب في القِدَم!
â—— كاتب يعرف صنعته
وأنا لا يعتريني شكٌّ في أنَّ عبدالوهَّاب أبو زناده أُوتِيَ قدرة قويَّة على القصّ والحَكْي، وهو قصَّاص ماهر، يعرف الغاية الَّتي ندب نفسه إليها، أن يكون أديبًا قاصًّا، مهما اتَّخذ ماضي مدينته موضوعًا لأدبه وفنِّه، وهو يعرف صنعته، وينبئنا طرف مِنْ تواريخ قصصه عمَّا استجمعه مِنْ خبرة ودراية في هذا الضَّرب مِنَ الأدب، وقصصه الَّتي يرقى بعضها إلى عام 1384هـ=1964م، وأخرى إلى عام 1387هـ=1967م، تقفنا على قاصّ مَرِنَ على الكتابة، حتَّى لانتْ له واستقادتْ، فأنشأ يذيع قصصه في الصِّحافة، وتخيَّر مِنْها ما أشرف عليه، في ذلك الزَّمن القديم، سباعي عثمان، رحمه الله، وأنت تعرف لسباعي مرتبته في أدب القصَّة القصيرة، وتعرف له علمه الواسع بالأدب واللُّغة، ورعايته لأجيال مِنَ الأدباء والكُتَّاب، مِنْهم اليوم السَّابق والمُجَلِّي.
وبوسعنا أنْ نرى في قصَّة «حمار النُّورة»، وهي أولى قصص هذا المجموع، طَرَفًا مِنْ حياة جدَّة القديمة، الَّتي استيقظ أهلوها، ذات يوم، على أحداث ستبدِّل مِنْ شأنها، وتخرجها عمَّا استقرَّتْ عليه دهرًا طويلًا، ونعرف، كلَّما مضينا في القراءة، أنَّ نفرًا مِمَّنْ يدور معاشهم على معالجة «الجير»، وهو المادَّة النَّاريَّة الَّتي يدعونها «نُورة»، أصاب صناعتَهم الكسادُ، حين عرفت البلاد مادَّة «الإسمنت»، فاتَّخذها البنَّاؤون وسيلة لتشييد البيوت، حتَّى أشرفتْ مصانع «النُّورة»، في غير ناحية مِنْ نواحي جدَّة، على الإفلاس، وحتَّى أحسَّ المشتغلون بهذه الصِّناعة، ومنهم المعلِّم حسن قورة، أنَّهم مقبلون على أيَّام سود، بل وسنوات عجاف، فالإقبال على مصانعه الشَّعبيَّة الثَّلاثة ضمر، وشحَّ المال في يده، ولولا شِيَم الحارة، ولولا ما جُبِلَ عليه مِنْ شهامة أهل الصَّنعة ما استطاع الوفاء بما رتَّبه لعمَّال مصانعه مِنْ معاش.
â—— اشتداد الأزمة
ولمَّا اشتدَّتْ أزمته وأوشك ييئسه انفراجها، أغراه عليّ الدَّقل ببيع حماره الَّذي طالما رآه النَّاس يضرب بحوافره أرض هذه الحارَة أوْ تلك، يحمل أكياس «النُّورة»، حتَّى إذا أتمَّ رحلته، كرَّ راجعًا إلى مصنع صاحبه، يحمل أكياسًا أخرى، دون أن يضلَّ دربه، ودون أن يصيبه التَّعب، وليس له أن يتعب، وهو صلب قويّ خفيف الحركة! ولكنَّ حسن قورة أبى البيع، مهما زاد الدَّقل في الإغراء، بأن ينفحه بدل مئة الرِّيال، المئتين والثَّلاثة، فإنْ كسدتْ مهنة الحمار في حمل أكياس النُّورة، فإنَّ أمامه ذلك السَّبق الَّذي يقيمه أهل جدَّة، فيما مضى مِنْ تاريخها، بين حميرها، في كلّ يوم مِنْ أيَّام عيد الفطر السَّعيد، وقدْ كان لذلك الحمار، واسمه «مبروك» قوَّة على «الجَكَر»، وهو اسم ذلك السِّباق الَّذي تحتشد له حارات جدَّة في زمانها ذلك القديم!
أبى حسن قورة أن يبيع حماره، مهما اشتدَّتْ ضائقته، فحماره «مبروك» ما لان لأحد، وقد كان نافرًا بَرِّيًّا متوحِّشًا، إلا له، رعاه منذ ابتاعه مِنْ بعض البدو، وحنا عليه، وكان بمنزلة الشَّريك، في السَّرَّاء والضَّرَّاء، وإنَّ أهل الحارَة كلّهم يعرفون أنَّ حسن قورة بلغ به إلفه هذا الحمار، أن أدار بينه وبين «مبروك» رموزًا تنزل منزلة اللُّغة عند الآدميِّين، ولا يهون عليه، إنْ نزلتْ به ضائقة، أن يقطع ما بينهما مِنْ وفاء وودّ، فيبيعه. إنَّه لا يفعل ذلك مهما افتقر وأملق!
على أنَّنا نعرف قبيل ختام القصّة أنَّ هذه الأزمة الَّتي اشتدَّتْ بحسن قورة وأهل الصَّنعة انفرجتْ، وأنَّ صناعة «النُّورة» لا يزال لها في أمر البناء القديم طالبون، ونعرف أنَّ حال حسن قورة انتعشتْ شيئًا ما، حين سأله أحد الأثرياء ترميم عشرة مِنَ البيوت المشيدة على الطَّراز القديم، وأنَّ المال جرى بين يديه جنيهات ذهب، دون أن يتنصَّل مِنْ شهامة شيوخ الصَّنعة حيال مَنْ هُمْ في كنفه مِنَ العُمَّال، ودون أن تُضْطرّه الحاجة إلى خيانة العهد الَّذي أبرمه بينه وبين حماره «مبروك»!
â—— التاريخ والقص
ربما رأينا في ما كتبه عبدالوهَّاب أبو زناده تأريخًا اجتماعيًّا لنواحٍ مِنْ حياة جدَّة القديمة، قبل أنْ تغتالها المدنيَّة والحداثة، ولا شكَّ أنَّ ذلك بيِّنٌ فيها لا تكاد تخطئه العين، ولعلَّنا عددْنا أبا زناده أديبًا شعبيًّا لا يعنيه مِنَ القصّ إلا ما لاءم طبعه الشَّعبيّ، وليس لأحد أن ينكر ذلك، وأحسب أنَّ الكاتب نفسه لا ينكره ولا يستهجنه، وفي مقدور أحدنا أن يصبر نفسه على قراءة هذا الضَّرب مِنَ الأدب، رجاء أن يظفر بكلمة عفتْ، أوْ مصطلح طُمِر، أوْ تعبير هُجِر، وإنَّ في ما يكتبه عبدالوهَّاب أبو زناده قدرًا صالحًا مِنْ تلك الكلمات والمصطلحات والتَّعابير، نقرأها فتذكرنا طرفًا مِنْ كلام أبناء جدَّة القديمة، وإذا ما ارتقينا، قليلًا، وصلناها بألوان الحياة وضروب المعاش، مِمَّا لا شبيه له اليوم، ولعلَّنا أدركنا أنَّه لمَّا قُضِيَ على تلك المِهَن ضمر ما يحفّ بها مِنْ كَلِم، ثمَّ إذا به، بعد حين، يختفي، ولا أثر له في ألسنة النَّاس، إلا إذا جاء أديب ماهر، فأحيا ذلك الكَلِم واجتهد في بيانه، كما أحياه عبدالوهَّاب أبو زناده واجتهد في بيانه!
كلّ ذلك صواب لا شكّ فيه. ولكنَّ عبدالوهَّاب أبو زناده لمْ يَدْعُ ما أنشأه تاريخًا اجتماعيًّا، ولا اصطنع في كتابته طريقة علماء الاجتماع والإناسة، ولمْ يُرِدْ أن يصنع معجمًا للَّهجة العامِّيَّة، وما أظنُّه بمعجزه أن ينهد إلى هذه الطَّريق أوْ تلك مِنَ العلوم، ولكنَّه أراد مِنْ وراء قصصه تلك أن يكون أديبًا، وأراد قارئَه أن يقرأ ما أنشأه، على وفق ما تقتضيه صنعة القصّ، مهما انطوتْ قصصه على التَّاريخ والاجتماع والإناسة واللَّهجات.
ومطلب عبدالوهَّاب صعب شاقّ، فقصصه تفسح لمن يظهر عليها ألوانًا مِنَ القراءات، وتغريه بها، بلْ عساها تدفعه إلى ذلك دفعًا. وإنزال قصصه منزلتها مِنَ الأدب تَحُوطه مزالق، فكل قراءة تدفع بها خارج حدود الأدب ورسومه، ولعلَّها، في خير أحوالها، تجعل مِنْ هذه القصص «قصصًا شعبيًّا»، وعساها تعتدّ عبدالوهَّاب أبو زناده «أديبًا شعبيًّا»، ولا ضير في الاصطلاح ولا في التَّصنيف، إنَّما الضَّير في أنْ نحبس الكاتب وما كتب في سِجْن النَّوع، فلا نُخَلِّي سبيله بعد ذلك، وأنت تعرف أنَّ تصنيف الأنواع الأدبيَّة، عساه يحمل في داخله تمييزًا «طبقيًّا» بين هذا النَّوع أوْ ذاك، وبين هذا الكاتب أوْ ذلك.
ويلوح لي أنَّ عبدالوهَّاب أبو زناده لمْ يردْ أن يحبس نفسه في سجن «الأدب الشَّعبيّ»، إنْ أريدَ به تقييد المأثور والعاديّ، فقصصه الَّتي أنشأها إنَّما اصطنعتْ تلك الحياة مجالا أو بيئة للقَصّ، لكنَّنا، إنْ تأمَّلنا في أثنائها، سيأخذنا تأمُّلنا إلى أنَّ هذه الحياة، وذلك المجال، وتلك البيئة، كلّها أنوال جمع منهنَّ عبدالوهَّاب الشَّبيه إلى الشَّبيه، حتَّى إذا كان له ذلك، أنشأ قصصًا إنسانيًّا بديعًا، وكأنَّه شاهد على عصر تداعتْ أركانه في جدَّة، ولمْ يجدْ إلا الأدب الإنساني ذريعته لرثاء ذلك العصر، وتخليده بالفنّ، فكان أديبًا فنَّانًا، وما أنشأه أدبًا وفنًّا.
(*) كاتب سعودي
http://alqabas.com/251372/
«حمار النُّورة» لعبدالوهاب أبو زناده.. تاريخ جدة قبل أن ...
alqabas.com
«حمار النُّورة» لعبدالوهاب أبو زناده.. تاريخ جدة قبل أن تغتالها الحداثة. محرر القبس ...