( طفلٌ بصحنِ هريس )

قصة / وفاء عبد الرازق

ليت كل التراب يصبح عشباً وليت كل رمل سنابل.

ثلاثة أطفال وامرأة، ثلاث بنات وعويل، أربعون هيكل عظمي وصحن ُرزّ، ألف رمقٍ ٍ بقطرة ماء.

مثلما يحدث مع أي شاعر حين يبحث في " كوكل" عن عنوان يحتاجه
كنتُ أبحث في جهاز الكومبيوتر خاصتي عن وجوه نساء عراقيات، حقاً كنت بحاجة لأم.
لا أريد أية أم بل أمـِّي الشجرة، وجدت يدي غاصت في بحر البحث ، موقع يفتح لي صدر جدة مسنّة أرفضه ، لا أريد أية جدّة بل أريد جدتي السنبلة.
موقع يفرش لي بيت خالة بعباءة ووشم، لا أريد أية خالة بل أريد خالتي النخلة، موقع يفتح لي قلب عمـّة أرفضه لا أريد غير عمتي القمحة.

رفضت الخالات والعمـَّات رفضتُ كل النساء المتشحات بالسواد المرتديات جوعهن والمتبرِّجات بزينتهن رفضت كل ما يدعو للأنوثة وصرخت:
- أريدكِ أنتِ أمــِّيَ الأرض.

بحثتُ عنها كثيرا وليتني لم أفعل. أعرف فضول يدي الجادّة حين تشتعل بالبحث عن فضيحة كونية أو عن فضيحة إنسانية.

ليلتها لم أعرف نفسي مَن أنا ومَن أكون، ليلتها أصبحتُ سماءً تثرثر دموعها وتنتحب.

لستُ نائمة لكن لابد من أخذ قسطاً من الراحة كيف أعتذر لصديقتي عن عدم حضوري دعوتها لوليمة عشاء مع زوجات كبار شخصيات البلد.

تغلـَّب عليّ التعب والإرهاق والقهر ونمت نصف ساعة، بعدها صحوت مسرعة أستعد كي أكون بوجه جديد مطليّ بالأبيض والأحمر، يعني أخدع نفسي قبل خداعهن لي بحُلي براقة وقلوب طريـَّة وعقول تافهة، لا أجمع حاشا لله فبعضهن لهن هدوءاً وحشمة.
ارتديت ثوبا ونزعته ارتديت رابع وقلعته لم أكن راغبة بالبهجة لكن ما العمل للضرورة أحكام.

بداخلي خيبة ثقيلة، هذا واضح من فتور ابتسامتي في وجه مضيـِّفتي والحاضرات، ضحكت معهن لمُزَح ماجنة اخترقتني سكاكينها وسخرتُ من شفتي بسبب طاعتها لتوافه الحياة.

ثلاث ساعات مررن كدهر، أنقذتني الخادمة وهي توشوش لسيدتها،
لم ندر ما قالت لكن فهمنا من دعوة السيدة لنا إلى العشاء.

ما شاء الله عامر البيت بأهله أزادكم الله من خيره، قلتها بصدق نيـّة لأنِّي أحب السيدة وأحترم مواقفها الإنسانية. دارت الشوَك والملاعق وكؤوس العصير وهبشت الأيدي بما لذ وطاب. إلا أنا تجمدتُ بمكاني حين شاهدت هيكلا عظمياً لامرأة من أفريقيا حبا على طول المائدة خائر القوى يدور حول الأواني ولا يقوى على مد عظام يده لتهبش مع الجميع.

لاحظتْ المضيـِّفة صحني دون أكل أخذته لتصبَّ من القوزي على الرز المحمـَّص والمعطر بالزعفران، سحبتُ الصحن من يدها بقوة:

- لا أريد لحم الخروف، أدركتُ غلطتي وقدمتُ عذرا يقنع الجميع بارتباك معدتي من اللحم. رأيت طفلة لبنانية مشويِّة محمَّصة محاطة باللوز والفستق، قلت في نفسي لا حول ولا قوَّة إلا بالله، لكن السيدة لم تتركني لحالي رضختُ لإصرارها وقبلت منها صحن شاورمة بالخضار والبطاطس، حين غرست الشوكة نبتت شريحة من لحم كف مهروس بقذيفة وقعت في سوق شعبي في بغداد.

ذكرتُ ربـّي وكدتُ أفرغ ما بمعدتي رغم فراغها، شعرتُ بمغص شديد يهرس أمعائي .
هم يضحكون ويتبادلون ورق العنب والدجاج ، غريب أمرهم ألم يروا ألأطفال انتشروا في المكان ازدحموا حولي وحولهم، لماذا أنا فقط أراهم هل هذا عقاب لي كوني تفرجت على صورهم في الكومبيوتر؟

جلستْ صديقتي المضيـّفة بمحاذاتي: اليوم أنتِ على غير عادتك ألم يعجبكِ طبخنا؟
خجلت: حاشا لله يا عمري هي معدتي المرتبكة اليوم وهذا من سوء حظي.
- إذا سأجلب الهريس.
لجم فمي كلامها بينما هي برقتها ملأت الإناء بالهريس وقدمته لي .

تجمع الأطفال كلهم حولي صارت المائدة شاشة كومبيوتر ، هنا طفلٌ مشويّ، هنا رضيع يسبح بالمرق ، هناك مسنٍّ ينام بصحن الفاكهة ، لحم طازج خرج توه من المحرقة ، من النار، من القذائف، من الأنقاض.

انتبهتُ للمضيـّفة تهز كتفي: تفضلي والله أطيب هريس.

الملعقة بيدي اليمين وباليسار الصحن ، ميز الطعام جهاز كومبيوتر، شاشات تلفاز، لم أذق الهريس، لمست في أطراف الملعقة ريش غراب شاهدته في إحدى الصور يتربص لموت طفل أفريقي حبا زحفا على رأسه قاصداً خيمة الإغاثة ، عاينت موضع إناء الهريس على الطاولة رأيت الطفل ذاته يخرج منه وينكبَّ على إطراف الإناء.

صرخت مفزوعة، ركضت خلفي مديرة المنزل ورشَّت على وجهي ماء الورد: هل اطلب الطبيب؟
- لا أنا بخير.
اعتذرتُ من السيدات والمضيـّفة، كنّ يتناولن الحلويات والشاي قلت ربما استسيغ طعم الحلوى، رفعتُ غطاءً من الفضة وضِع على صينية فضيـّة أيضا ، فزعت ما هذا؟ عيون بالقـَطر، امرأة جميلة دنت من الصينية وملأت صحنها عيونا بالقـَطر،
وقت شاهدتْ استغرابي خيـِّل لها أنه من عدد العيون خشيت من الحسد وأرجعت اثنتين:

- أحب لقمة القاضي كثيراً ضعيفة أمامها أضرب الرجيم عرض الحائط لو وقعت بيدي.
يبدو كانت تبرر لذاتها وليس لي.

اكتفيتُ بشرب الشاي أمزمز على مهلي ، بعد برهة دخل الخدم يدفعون عربة الكيك، قالت السيدة عملنا لكم اليوم أطيب كيك واشترينا الزيت الفلسطيني كي نأكل براحتنا .

التفَّ الجمع كله حول الكيك ،مديرة المنزل فتحت التلفاز لتهنئ السيدات بالكيك والموسيقى . لا أدري ما سمعتُ وما عرضه التلفاز،
صدحت الموسيقى وعربة الكيك تدور من واحدة لأخرى وأنا.

أنا وحدي أغنِّي أغنية القمح السنابل.