عقدٌ كاملٌ مَضَى على رحِيلِ أسدِ الإسلامِ الهصورِ، قائدٌ مجاهدٌ كرّسَ كل حياتِه في خدمةِ دينه ووطنِه، وليحققَ رسالتَه وأهدافَه السامية، لم تنلْ منه جدرانُ السجونِ ولاَ لوعةِ الغربة والنفيِ والفراقِ، ولا التضييقِ والحربِ من بني القربى، فسارَ على دربِ الجهادِ والاستشهادِ حتى حقّقَ أمنيته بالارتقاء والتحليقِ بروحِه الطاهرة برفقة الأنبياء والصديقين والشهداء.
نعتذرُ من فارسِ الإسلامِ لأنّ الكتبَ والمجلدات والمحابر والأقلام تقفُ ضعيفة عاجزة عن وصفِ حياتِه المليئة بالتضحياتِ الجسامِ، تقفُ ذليلةَ أمام من جمعَ عظامَه ليبني سلماً نحو المجد والعزة والكرامةِ، وصنعَ من أشلائه طريقاً يسيرُ عليه المجاهدون من بعدِه، ويقتبسونَ من عبقِ سيرتِه همماً تناطحُ السحبَ وقممَ الجبال.
كلماتٌ خالدة
لقد كانت كلماتُ الرنتيسي زلزالاً وإعصاراً على "إسرائيل"، وحمماً بركانية من الكلماتِ تدبُ الرعبَ في قلوب الذين كفروا وظلموا وقتلوا واستباحوا الحرمات وقصفوا البيوت وهدموا المساجد وشردوا السكان.
لقد عاهد الرنتيسي ربه وشعبه على المضي قدماً في طريق الجهاد والمقاومة حيث قال :" يفعلوا ما يشاءون يقصفوا سياراتنا، يقصفوا بيوتنا، ليغتالونا، ولكن نعاهدُ الله ثم نعاهدكم أن نمضيَ قُدماً في مسيرتنا، حتى نحررَ الوطن من دنس الصهاينة الغاصبين".
لقد صدقَ الوعدَ، وفضل الموت بطائرة مروحية على أن يموت بالسرطان، وكانَ له ذلك، ولم تكن مصادفة عابرةَ أن يرتقي الرنتيسي بقصف إسرائيلي، ولكن الإيمان والصدق مع الله، فاستجاب اللهُ دعاءه وحقق له أمنيته، ومضي على الدرب، لم يبالِ بالتهديدات الإسرائيلية ولا وعيدهم، وما زالت كلماته تنبضُ وتنتفض في قلوبِ المجاهدين من بعده حتى تحرير كامل التراب الفلسطيني.
وحفّز المجاهدين الأطهار، موجهاً إليهم " أحبتنا في الله، مسيرتنا طولية تحتاجُ إلى الصبر.. إلى الثبات .. إلى الصمود" فكانت نبراساً يضيء لهمُ الطريقَ، ناصحاً لهم بأن طريق الجهاد والمقاومة طريق صعب طويلٌ يحتاجُ إلى الرجال الأقوياء المؤمنين الواثقين بنصرِ الله عز وجل.
عهدُ الشهادة
وطمأن الشعب الفلسطيني بأن مسيرة المقاومة مستمرة لو رحل الجميع قائلاً: " أقول لكم وأطمئنكم لو رحل الرنتيسي لو رحل الزهار وهنية ونزار ورحل صيام ورحل الجميع، والله لن نزداد إلا لُحمةَ، لن نزداد إلا حُباً، فنحنُ الذين تعانقت أيادينا في الدنيا على الزناد، وغدا بإذن الله ستتعانق في رحابِ اللهِ.
هكذا يكونُ قادة المقاومة الأطهار، رحلَ الرنتيسي ونزار وصيام، وما زال الزهار وهنية ينتظرون محافظين على الوعدِ، سائرين في دربِ المقاومة والاستشهادِ، حاملين للأمانة من بعد القادة الشهداءِ لا يزيغون عنها قيد أنملة.
وغيرَ مبالٍ بالموتِ إن كان في سبيل الله مودعاً أحد الشهداء " الله سبحانه قضى في كتابه إن لكل أجل كتاب، فمن قضى نحبه فإن أجله قد قضي، ولكن الله اصطفاهُ شهيداً".
وبين الرنتيسي على أن الثوابت لا تتغير، مؤكداً أن حماس لن تفرط في شبرٍ واحدٍ من الوطن، ولن تقبل بالوجودِ الإسرائيلي على أرض فلسطين، ولن تفرط في بيت المقدس وحق العودة، ولن تنسى الأسرى خلف القضبان.
وبتواضع القادة الكبارِ الرجال المؤمنين يقول: "إنه أقلَ من أصغرِ شهيدٍ فلسطيني"، سائلاً المولى أن يرزقه الشهادة في صلاته، داعياً المقاومة إلى تلقين العدو درساً، وأن حماس سترد على أي جريمة بحق الشعب الفلسطيني.
رحلَ القائدُ المجاهدُ والعابد الزاهد، وما زالت كلماتُه محفورةً في أفئدة وعقولِ المجاهدين، ما زال الرنتيسي حاضراً بيننا يزلزلُ أمن "إسرائيل" وما زال أبناؤه من خلفه بالآلاف حاملين الأمانة، محافظين على العهدِ حتى تحرير كاملِ التراب الفلسطيني من دنس الغزاةِ الغاصبين.