منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1

    الإعجاز القرآني في منظور علم النفس المعاصر

    الإعجاز القرآني في منظور علم النفس المعاصر

    موضوع لقائنا هذا سيتناول مظهر الإعجاز القرآني في ما أسفرت عنه البحوث في علم النفس الاجتماعي الحديث. وقد دعت الضرورة إلى عقد مقارنة بين ما توصل إليه رواد هذا العلم مما تم البحث فيه من التفاعلات البشرية لمحاولة فهم جوانب من السلوك البشري من خلال تجارب أجريت في جامعات متخصصة في العلوم الإنسانية في شتى بقاع العالم، بما سبق وأشارت له النصوص في القرآن الكريم – وهو الكتاب المحكم الذي لا يطاله ولا يأتيه الباطل، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها- تلك الإشارات التي تناولت بصورة شاملة كل التصرفات البشرية بالتفصيل المستفيض، إذ لم تترك جانبا من جوانب التفاعلات الاجتماعية إلا وبيّنت ما يخفى وأوصت بما يرفع من مستوى العلاقات إلى ما يجزى عنه من جنس ما بنيت عليه تلك العلاقات من نيات لا سبيل للعلم لكشفها إلا عن طريق استقراء نتائج التجارب التي لا تعبّر إلا بواسطة نسب ومعاملات تفرزها الإحصائيات بما لا يخلو إلا نادرا من رواسب الظن. ونظرا لما سيتاح لنا من مجال زمني قصير، سنحاول التطرق إلى موضوع التحية التي تبتدئ بها كل علاقة بين اثنين من الناس أو أكثر؛ بها يبدأ التعارف وعلى صيغتها تنشأ تصورات لدى الملقي والمتلقّي أي المسلّم والمسلم عليه بمنظور الإسلام، على أن نواصل مناقشة موضوع الإعجاز القرآني من منظور علم النفس المعاصر في لقاءات لاحقة، حيث سنتناول عمليات التفاعل الاجتماعي وكيف يتطرق لها النص القرآني الحكيم، وننظر فيما يواجه علم النفس الاجتماعي من صعوبات في بحوثه ودراساته العلمية البحثة .
    فبظهور علم النفس الاجتماعي غدا المتخصصون فيه يتدربون ويكتسبون خبرات في تحول اهتماماتهم عن مجال الدراسات النفسية البحثة، إلى نظرات تشمل كل دقائق ما يجري في المحيط الاجتماعي مما يترك أثرا في تفكير العامة من الناس وفي مشاعرهم وسلوكاتهم وتفاعلاتهم في ما بينهم. ومن هنا بدا اتساع المنظور ليجعل من علم النفس الاجتماعي ميدانا علميا يتلمس المتغيرات الكامنة وراء ما يطبع بطابعه العمليات النفسية تبعا للمؤثرات الاجتماعية المتعددة التي تدخل في تشكيل الشخصية كما تبدو للناس.
    ومن هذا المنطلق يهتم عالم النفس الاجتماعي بالخبرات الاجتماعية المتكررة بصورة نمطية تؤثر على الحياة العامة للمجتمع؛ فيجري التجارب ويكون النظريات ويقيس بشكل أدق ما يتناوله بالدراسة من متغيرات. وقد تعرض له في دراسته حالة خبرات اجتماعية شاذة في نوعها وأثرها نظرا لارتباطها بظروف خاصة، وهذه الخبرات ليس بنفس أهمية سابقتها المتكررة بصورة دائمة.
    ولنبدأ بإلقاء نظرة على عملية تتكرر في حياتنا باستمرار؛ ولنأخذ على سبيل المثال عملية التعارف التي تحصل بين شخصين كل منهما من بلد أو من منطقة مختلفة – وسنغض الطرف هنا عن ديانة الشخصين لنعود إليها بالتفصيل لاحقا- وقد لا يرى الشخص العادي أي تعقيد في هذه العملية البسيطة كما يظن البعض بينما هي جد معقدة وتحتاج إلى دراسة مثل ما قام به العلماء أمثال "سكينر" الذي أصدر كتابا طرح فيه خطة جذرية لتحسين حياة المجتمع ووضعية الإنسان. حيث رأى هذا العالم أن الإنسان نظام سلوكي معقد يتشكل كل عنصر منه بالتفاعلات الاجتماعية التي تنشأ منذ سن الطفولة، ويعتقد "سكينر" أن الاعتقاد بكرامة الإنسان و بحريته لا يعدو كونه ادعاءات تقف عائقا في وجه التقدم الإنساني؛ ولتتحسن أوضاع الإنسان يجب الأخذ بأسلوب تطور مستقبلي يعتمد التخطيط يتيح التحكم في آليات صنع المستقبل من خلال التفاعلات الاجتماعية وتفاعل الإنسان مع بيئته، إذ أن هناك كما يقترح "سكينر" أساليب موثوقة لتطبيق إجراءات الإشراط التي يمكن أن تعيد بناء ثقافة بأكملها.
    وبالعودة إلى ما توصل إليه كل من "جون تيبو" و "هارولد كيللي" من أن التدعيمات الاجتماعية تحدد مدى استمرار التفاعل الاجتماعي أو قطعه نجد أن ما توصل إليه علم النفس الاجتماعي في دراسته لعملية التعارف والاتصال وتكوين الجماعات يعتمد جوانب من التعقيد بمكان تتجلى في تقديم الذات والتدعيم والرفض والقبول للآخر وما يماثلها من عمليات تفاعلية قد سبق إلى بيانها الخالق في كتابه الكريم بدء بالتحية وبأسس التعامل داخل البيت ومعاملة الجار إلى أصول المتاجرة ثم التعامل مع المجتمعات على اختلاف عقائدها وهوياتها.
    وسنخصص حديثنا في هذه العجالة لأثر التحية في عملية التفاعل الاجتماعي وسنحاول إبراز نظرة الإسلام لما يترتب على التحية من رد فعل وقبول واحترام للآخر.
    التحية لغة واصطلاحا:
    لا يخفى أن التحيّة مشتقة من الحياة، يقال: حييت فلاناً بمعنى قلت له: (حيّاك الله)، أي أبقاك الله وعمرك عمراً صحيحاً، فإن التحية إنما تستعمل في العمر الصحيح، دون ما كان مريضاً مرضاً شديداً؛ إذ نحيي المريض بالدعاء له بالشفاء العاجل بعد "السلام عليكم" ولا يليق أن نقول له أبقاك الله لكي لا يفهم من دعائنا أبقاك الله على حالك.
    والمراد بالسلام في كلام من فسّر التحية به؛ كل ما يكون دالاً على طلب السلامة، فيعم غيره أيضاً، ولذا لم يكن تفسير مطلق التحية السلام، فإذا قلنا لزيد: (سلام عليكم) أي أن تكون سالماً وسليم البدن والعقل. وأما قولنا: (السلام على الأموات) إذ لهم في الآخرة أيضاً كما في الحياة الدنيا سلمٌ وغير سلم، فنطلب إما من الله سبحانه وتعالى أو بقصد التحية، أن يكون للذين لحقوا بالدر الآخرة سلام هناك.
    والتحية عرفاً اسم لنوع خاص من التكريم والاحترام الذي يستعمله عامة الناس عند ملاقاة بعضهم البعض، أو في رسائل يكتبونها، أو ما أشبه ذلك، فالتحية أعم من السلام، بدليل قول الله سبحانه وتعالى (تحيتهم فيها "سلام").
    ويمكننا ملاحظة اتفاق معظم شعوب الأرض على أن مفهوم التحية هو إعطاء الأمن والطمأنينة والسلام لمن نحييهم، إلا أن أنماط وطرق التحايا تختلف من شعب إلى آخر، تبعا للمعتقدات والأعراف والثقافات. وإن ما يهمنا في هذا الباب؛ أن التحية هي العملية الأولى للتعارف في أغلب الأحوال، وتكون عبارة عن فاتحة لتقديم الذات للآخر عموما. وفن تقديم الذات صار موضوعا مهما في مجالات عدة تخص الاتصال بالعموم أو بالزبائن في مجال السياحة والأعمال التجارية، وهذا مجال اهتم به علماء في علم النفس الإداري وفروع أخرى، ووضعوا له قواعد خاصة نذكر منها ما أورده د.عبد الرحمن الشلاش في مقال له نشر بجريدة الرياض بالعدد 14351 يقول:
    هناك كثير من المهارات التي يجب على الفرد امتلاكها ليقدم انطباعا حسنا وصورة ذاتية براقة وزاهية للآخرين خلال هذه الدقائق المحدودة ومن أهمها ما يلي :
    1- الاهتمام بالمظهر الخارجي والهيئة التي تتم بها المقابلة وتتمثل في الملبس ووضع الجسم وطريقة الجلسة ونبرة الصوت وأسلوب المقابلة.. والسلوكيات غير الكلامية مثل الإيماءات وتعابير الوجه والالتفات والتركيز.. الخ.. فنبرة الصوت الحادة مثلا تدل على السلوك العدواني.. والتركيز في النظر على كل الأشياء يدل على الفضول.. والانشغال بين وقت آخر بالهاتف الجوال يدل على عدم اهتمامك بالمقابل.. وهكذا
    2- التعريف بالذات: ويتم عن طريق المشافهة أثناء المقابلة ويشمل وصف الذات والتعبير عن موافقة أو عدم موافقة الآخر.. وشرح الموقف وطريقة الاعتذار أو التأييد أو الثناء على الطرف المقابل ولابد أن يبتعد الفرد ما أمكن عن الحديث عن الذات والإنجازات الشخصية.. أو عتاب الآخرين وتحميلهم كافة المسئوليات .
    3- تقديم الفرد لرؤيته وأهدافه بصورة واضحة.. والتفاؤل والتقليل من التذمر والتشكي والهدوء والإنصات وعدم المقاطعة والابتسامة والرد بقدر السؤال.
    ونرى في هذا الاقتباس صبغة من توصيات علم النفس المعاصر بما يجب أن يكون وما لا يجب في سلوك من يقدم نفسه للآخرين كي ينال القبول والرضا. وقبل كل هذا نجد التحية تتصدر كل السلوكات المرغوبة، إذ أنها تمثل المدخل الأساسي للتفاعل البشري، وقد صنف الكثيرون التعابير غير اللفظية في إطار التحية باعتبارها رمزا للإقبال على معاملة مع الغير. ثم إن من هذه الرموز ما يعتبر واجبا ضروري التنفيذ مثل التحية العسكرية وتحية الكشافة وما يدخل في حكمها... ولن نضيف أكثر بالدخول في عملية المصافحة باليد أو بحك الأنف لكون المصافحة مرحلة أخرى تلي التحية.
    ونعود لعلاقة التفاعلات البشرية بالتعاليم الدينية، فنجد أن البشر أينما وجدوا على سطح الأرض وفي أي زمن وجدوا، كانت لهم ديانات فلا يكاد يوجد شعب أو تجمع بشري دون عقيدة تنظم تعاملهم مع بعضهم ؛ يقول محمد عابد الجابري رحمه الله "...فقد عمد علماء أصول الدين في الإسلام إلى التماس الجواب لا من الدين الإسلامي وحده بل من جميع الأديان السماوية. وهكذا قاموا باستقراء الغايات والأهداف والمقاصد التي تشترك فيها الأديان السماوية والتي تبرر بعثة الرسل، فوجدوها ترجع إلى مبدإ واحد، وهو أن جميع الديانات السماوية إنما تهدف من وراء مختلف تعاليمها، أوامرها ونواهيها، إلى شيء واحد، هو مصلحة الناس، مصلحة البشرية كلها." وخاتمة الديانات جاءت بما يكمل النصوص التشريعية السماوية، فكانت المعجزة المستمرة في الزمن والفكر. ذلك أنها لم تترك جانبا من الحياة إلا ألقت عليه نور البيان وفصّلت العمليات الداخلة فيه أيما تفصيل. وفي موضوعنا الذي نخوض فيه، شرع الإسلام تحية لفظية جامعة مانعة بقول المحيي للمحيا: "السلام عليكم"، تحية وردت في القرآن الكريم بهذه الصيغة ست مرات:
    1. في سورة الأنعام 54 ".. وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة .."
    2. وفي سورة الأعراف 46 ".. ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون"
    3. وفي سورة الرعد 24 ".. سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار .."
    4. وفي سورة النحل 32 ".. الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون .."
    5. وفي سورة القصص 53 ".. وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين "
    6. ثم في سورة الزمر 73 ".. حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين "
    وجاءت بصيغة "سلاما" ثماني مرات:
    1. سورة الواقعة 26 ".. إلا قيلا سلاما سلاما."
    2. سورة هود 69 ".. لقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام.."
    3. سورة الحجر 52 ".. إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون .."
    4. سورة مريم 62 ".. لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا .."
    5. سورة الأنبياء 69 ".. قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم .."
    6. سورة الفرقان 63 ".. وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما .."
    7. سورة الفرقان 75 ".. يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما.."
    8. سورة الذاريات 25 ".. إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون.."
    ولمن يتدبر ما في هذه الآيات يجد أن المواقف الذي تلقى فيه التحية مختلفة لا تقتصر على تقديم الذات أو المبادرة فقط مثل "إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما.." بل تتعداها إلى موقف يحد من الجدل مع الجاهلين وموقف إبطال مفعول النار وقلبه إلى برد وسلام "نجاة من الشر المعهود في النار" وموقف التهنئة والتنويه بعاقبة الصبر ... والمقصود بالكلام هنا أن التحية في الإسلام تحمل لطفا ولينا وحسن سلوك في موقف يستدعي ما يليق بالمقام، بينما تلقى لحسم موقف الجدال دون عدوانية أو تطاول وهذا ما يضمن الانصراف إلى موقف آخر غير المتنازع فيه حتى في حالة عدم الاتفاق حول موضوع ما تجنبا للقول الفاحش أو النطق بما قد يجعل الوضع يتفاقم إلى مالا تحمد عقباه... وإن كان الناس يسعون إلى الحرص على التوافق وخلق الوئام فيما بينهم فهل هناك من تشريع يعلو على ما جاء في الكتاب الحكيم في المبادأة بالتحية الإسلامية؟ هنا تكمن صورة الإعجاز في مجال ترويض النفس البشرية على البدء والإنهاء بقول لا يثير الحفيظة ولا يشعل الفتن.
    هناك وجه آخر لتنظيم السلوك، سبق به القرآن الكريم كل التشريعات البشرية، ويتجلى في قوله سبحانه؛ في سورة النساء 148 ".. لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم.." وهي صورة لموقف المجاهرة بالسوء من القول في عموم الأحوال مع استثناء لحال المظلوم الذي قد يفيض به الشعور بالإهانة أو ما يشاكلها. فليس للمؤمن أن يسيء القول وهو يحمل بين جنبيه نفسا تنعم بالهدوء والانسجام فيكون ذا رد فعل متوازن يراقب الله في أفعاله وأقواله. ولا يغيب عنا قول الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه " ما الشديد بالسرعة ..." ثم لنتدبر الآية الكريمة من سورة آل عمران 134: ... وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ..." ولعلنا نلاحظ أن المسلم في كل العالم مهما بلغ به غيظه، يردّ السلام على من يبادره بقول "السلام عليكم" ثم يعرض حالة غيظه بعد ذلك على من قد يتدخّل ليهدّئ من حاله.
    أثر التحية الإسلامية :
    وبقراءة الآية 86 من سورة النساء " وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ..." نقف على وجوب ردّ التحية إذ لا يجوز أن تلقى علينا التحية ونصمت لأن ذلك يعتبر خروجا عن العرف العام الذي لا يخص المسلمين دون غيرهم. وقد جاء في تفسير الطبري : قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإذا حييتم بتحية"، فحيوا بأحسن منها أو ردُّوها"، يقول: فادعوا لمن دعا لكم بذلك بأحسن مما دعا لكم "أو ردوها" يقول: أو ردّوا التحية.
    ثم اختلف أهل التأويل في صفة"التحية" التي هي أحسن مما حُيِّيَ به المُحَّيي، والتي هي مثلها.
    فقال بعضهم: التي هي أحسن منها: أن يقول المسلَّم عليه إذا قيل:"السلام عليكم"، :"وعليكم السلام ورحمة الله"، ويزيد على دعاء الداعي له. والرد أن يقول:"السلام عليكم" مثلها. كما قيل له، أو يقول:"وعليكم السلام"، فيدعو للداعي له مثل الذي دعا له.
    وفي تفسير ابن كثير: لسورة المجادلة (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
    قال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه، إذ أتى عليهم يهودي فسلَّم عليهم، فردوا عليه، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرون ما قال؟". قالوا: سلم يا رسول الله. قال: "بل قال: سام عليكم، أي: تسامون دينكم". قال رسول الله: "ردوه". فردوه عليه. فقال نبي الله: "أقلت: سام عليكم؟". قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: عليك" أي: عليك ما قلت
    وأصل حديث أنس مخرج في الصحيح، وهذا الحديث في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها.
    نرى هنا التحدي الكبير الذي جاء به النص القرآني في إبراز ما يجول في دواخل النفوس إن أريد بالتحية غير وجهها المقصود لفظا ونيّة. وهذا ما لا يستطيع أي عالم –بشر- أن يحيط به مهما أوتي من وسائل لكشف ما يحدث في خبايا النفس. وجاء به الكتاب الحكيم مبينا ما يبيت ذوو النفوس الخبيثة قائلا : "حسبهم جهنم" وأكبر تحد هنا يكمن في أن المقصودين بهذه الآية كانوا على أشد الكفر ولا سبيل إلى إسلامهم؛ وهم في عدائهم للرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، كانوا يسعون لتكذيبه مهما كلفهم ذلك، ولم يدخلوا في الإسلام. ولو أنهم أسلموا لكان التحدي بشريا لأنه سيلزم حجب ما ورد في النص في حقهم. وكذلك كان الشأن مع أبي لهب...

    وفي كتاب ابن شهر: مناقب آل أبي طالب: ج4 ص18 فصل في مكارم أخلاقه قال:
    (حيّت جارية الحسن ابن علي رضي الله عنهما بباقة ريحان، فقال لها: أنت حُرة لوجه الله، فقيل له في ذلك، فقال: أدبنا الله تعالى، فقال: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) ، وكان أحسن منها إعتاقها). نجد هنا أروع صورة لطاعة الله وصورة تقارب المستحيل عند غير المسلمين أن يحييك شخص بما ترضى فترد عليه بمنة تستمر مدى حياته بأن تعتقه من الرّق في ذلك العصر، أو تقضي عنه دينا في زمننا ...
    يرى بعض الفقهاء أن الظاهر جواز ابتداء غير المسلم المسالم بالسلام، للأصل، ولقوله سبحانه وتعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) سورة الممتحنة 8 وهذه صورة أخرى مما يدعو له الإسلام في التعايش السلمي بين الأمم إذ يقرر أن الإحسان لغير المسلمين ممن لم يقاتلوهم ولم يخرجوهم من ديارهم وبرّهم لم يوجب نهيا فهو من المستحسن من سلوك المسلمين ومن أقلّ وجوه البرّ أن يلقوا التحية.
    وإن كل البحوث الجارية حاليا بشكل مكثف تسعى لفهم السلوك البشري بطريقة علمية تعتمد التجربة والإحصاء في معظمها تترك جانبا جد مهم يمكنها أن توفر الجهد والوقت إن هي اعتمدته كمصدر للمعرفة؛ إسوة بما تعتمده دراسات أخرى كالقانون مثلا. وهذا الجانب هو المصدر النصي الذي جاءت به الديانات السماوية، والذي باستقرائه يمكن استخلاص أن التشريع السماوي جاء لتقرير مصالح الناس على وجه الأرض يوجزه الباحثون في ثلاثة أصناف:
    1 - الضروريات.
    2 - الحاجيات.
    3 - التحسينات.
    وقد اقترح الكثير من العلماء تصنيفات عليها بنيت قواعد التعامل مع البشر من طرف الهيئات والمؤسسات على اختلاف وظائفها في المجتمع مثل التصنيف الذي ذكره العالم مازلو في تدرج الحاجات والعالم إريكسون الذي كتب في نفس السياق ما يفيد أن للإنسان حاجات تقابلها تطلعات النفس البشرية لبلوغ ما رسمت من أهداف في الحياة. ونرى أن كل ما كتب حتى يومنا هذا مازال يتخبط في محاولات التنبؤ بالسلوك حيال المواقف التي تعرض للإنسان في حياته، وما يواجه تلك المحاولات من صعوبات جمة تفرضها طبيعة الإنسان كموضوع لكونه ذاتا عارفة مدركة تحتفظ بصنع القرار في دواخل النفس التي ليست محددة الأبعاد بالدقة التي تعرفها الموضوعات في العلوم الطبيعية.
    غير أننا بالنظر لما ورد في النصوص المحكمة نجد أن هناك مرجع هو الأهم يخبرنا بأن الخالق يعلم السر والنجوى ويعلم ما توسوس به نفس الإنسان للإنسان. وإن نحن اعتمدنا هذا المرجع سنحسم عدة إشكالات بإيماننا بما جاء في النص القرآني وفي السنة الشريفة تفسيرا وقياسا واجتهادا.
    لذا نرى أن من الضروري إشراك علماء أصول الدين في إبداء الرأي أو الفتوى في عدة جوانب من علم النفس المعاصر إن أردنا الإلمام بموضوع الإنسان. لأن بقاء هؤلاء العلماء خارج الدائرة العلمية المعاصرة يشكل جمودا يبقي المصدر اليقيني الأول للمعرفة بالنفس البشرية مغيّبا مما يحيط الموضوع بمزيد من الغموض.


    د. عبد المختار زادني











    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  2. #2
    للرفع مع التحية
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #3
    مدرس لغة عربية ومترجم من الفرنسية
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    473
    ملحوظة: شدّني هذا الموضوع القيّم، فكان هذا ما اقترفه قلمي:




    الإعجاز القرآني

    في منظور علم النفس المعاصر

    كتبها:د. عبد المختار زادني
    نقلــــــــــــتها: ريمة الخاني
    فرســـــــان الطبّ النفسيّ



    موضوع لقائنا هذا سيتناول مظهر الإعجاز القرآني (فيما )أسفرت عنه بحوث في علم النفس الاجتماعي الحديث (علم الاجتماع = علم العمران البشريّ عند ابن خلدون ). وقد دعت الضرورة إلى عقد موازنة بين ما توصل إليه رواد هذا العلم مما بُحث فيه من التفاعلات البشرية لمحاولة فهم جوانب من السلوك البشري من خلال تجارب أجريت في جامعات متخصصة في العلوم الإنسانية في شتى بقاع العالم، بما سبق وأشارت له النصوص في القرآن الكريم– وهو الكتاب المحكم الذي لا يطاله (باطل ولا يشوبه شكّ )، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها- تلك الإشارات التي تناولت تناولاً شاملاً كل التصرفات البشرية بالتفصيل المستفيض، إذ لم تترك جانبا من جوانب التفاعلات الاجتماعية إلا وبيّنت ما يخفى، وأوصت بما يرفع من مستوى العلاقات إلى ما يجزى عنه من جنس ما بنيت عليه تلك العلاقات من نيات لا سبيل للعلم لكشفها إلا عن طريق استقراء نتائج التجارب التي لا تعبّر إلا بوساطة نسب ومعاملات تفرزها الإحصائيات بمالايخلو إلانادرامن رواسب الظن. ونظرالما سيتاح لنا من مجال زمني قصير،سنحاول بحث موضوع التحية التي بهايبدأ كل اثنين من الناس أوأكثرالعلاقة بينهم وتعارفهم، وعلى صيغتها تنشأ تصورات لدى الملقي والمتلقّي أي المسلّم والمسلم عليه بمنظورالإسلام، وسنواصل مناقشة موضوع الإعجاز القرآني من منظورعلم النفس المعاصرفي لقاءات لاحقة، حيث سنتناول أعمال التفاعل الاجتماعي، وأسلوب نصّ القرآن الحكيم في بحثها، وننظر فيما يواجه علم النفس الاجتماعي من صعوبات في بحوثه ودراساته العلمية البحتة.

    فبظهورعلم النفس الاجتماعي غداالمتخصصون فيه يتدربون، ويكتسبون خبرات في تحول انشغالهم بمجال الدراسات النفسية البحتة إلى نظرات تشمل كل دقائق ما يجري في المحيط الاجتماعي مما يترك أثرا في تفكير العامّة من الناس وفي مشاعرهم وسلوكهم وتفاعلاتهم فيما بينهم. ومن هنا بدأ اتساع المنظور ليجعل من علم النفس الاجتماعي ميدانا علميا يتلمس المتغيرات الكامنة وراء ما يطبع بطابعه العمليات النفسية تبعا للمؤثرات الاجتماعية المتعددة التي تدخل في تشكيل الشخصية كما تبدو للناس.
    من هنا يُعنى عالم النفس الاجتماعي بالخبرات الاجتماعية المتكررة تكرراً نمطياً، المؤثرة على الحياةالعامة للمجتمع؛ فيُجري تجارب، ويكوّن نظريات، ويقيس مايتناوله بالدراسة من متغيرات قياساً أدق. وقدتَعْرِض له في دراسته حالات شاذّة في نوعها، مختلفة في أثرها لارتباطها بظروف خاصة، لكنّها ليست بقيمة ما يتكرردائما.

    ولنبدأ بإلقاء نظرة على عمل يتكرر في حياتنا باستمرار؛ ولنأخذ على سبيل المثال التعارف بين شخصين كل منهما من بلد أو من منطقة مختلفة – وسنغضّ الطرف هنا عن ديانتي الشخصين لنعود إليها بالتفصيل لاحقا- وقد لا يرى الشخص العادي أي تعقيد في هذا العمل البسيط كما يظن بعضنا، ولكنّها في الحقيقة جد معقدة تحتاج إلى دراسة مثل ما قام به العلماء كـ"سكينر"الذي أصدر كتابا عرض فيه خطة جذرية لتحسين حياة المجتمع ووضعية الإنسان. رأى هذا العالم أن الإنسان نظام سلوكي معقد يتشكل كل عنصرمنه بتفاعلات اجتماعية تنشأ منذ سن الطفولة، ويعتقد "سكينر" أن الاعتقاد بكرامة الإنسان وبحريته ليس سوى ادعاءات تقف عائقا في وجه التقدم الإنساني؛ ولتتحسن أوضاع الإنسان علينا الأخذ بأسلوبمتطور يصنع المستقبل ويعتمد تخطيطاً يتيح التحكم في آلياته من خلال التفاعلات الاجتماعية وتفاعل الإنسان مع بيئته، إذ أن هناك كما يقترح "سكينر" أساليب موثوقة لتطبيق إجراءات الإشراط التي يمكن أن تعيد بناء ثقافة بأكملها.
    ولوعدنا إلى نظريّة"جون تيبو"و"هارولد كيللي"من أن التدعيمات الاجتماعية هي التي تتحكّم في التفاعل الاجتماعي ديمومة أو انقطاعا – لعلمنا أنّ ما توصل إليه علم النفس الاجتماعي في دراسته لعمل التعارف والتخاطب وتكوين الجماعات يعتمد جوانب من التعقيد الشديد تتجلى في تقديم الذات والتدعيم والرفض والقبول للآخر وما يماثلها من أعمال تفاعلية قد سبق إلى بيانها الخالق في كتابه الكريم كالبدء بالتحية وبأسس التعامل داخل البيت ومعاملة الجار إلى أصول المتاجرة ثم التعامل مع المجتمعات على اختلاف عقائدها و(هوياتها).
    وسنخصص حديثنا في هذه العجالة لأثر التحية في عمل التفاعل الاجتماعي، وسنحاول إبراز نظرة الإسلام لما نصل إليه بالتحية من رد فعل وقبول للآخر واحترام.

    التحية لغة واصطلاحا شرعيّا:

    لا يخفى أن التحيّة مشتقة من الحياة، يقال: حيّيت فلاناً بمعنى قلت له: (حيّاك الله)، أي أبقاك الله وعمرك عمراً صحيحاً، فإنما تستعمل للرجل الصحيح، لا للمريض مرضاً شديداً؛ فتحيّة المريض الدعاء له بالشفاء العاجل بعد "السلام عليكم" ولا يليق أن نقول له أبقاك الله لكيلا يفهم من دعائنا أبقاك الله على حالك. ( التحيّة ب"السلام عليكم" رائعة والإسلام سنّها لنا، ولكننا في بحث لغويّ، وليست التحيّة ب"السلام عليكم" مفروضة - فالتحية أعمّ من السلام).
    والمراد بالسلام في كلام من فسّر التحية به كل ما يدلّ على طلب السلامة، فيعمّ غيره أيضاً، ولذا لم يكن تفسير مطلق التحية السلام، فإذا قلنا لزيد: (سلام عليكم) أي أن تكون سالماً وسليم البدن والعقل. وأما قولنا: (السلام على الأموات) إذ لهم في الآخرة أيضاً كما في الحياة الدنيا سلمٌ وغير سلم، فنطلب إما من الله سبحانه وتعالى أو بقصدالتحية، أن يكون للذين لحقوا بالدر الآخرة سلام هناك.
    والتحية عرفاً اسم لنوع خاص من التكريم والاحترام الذي يستعمله عامة الناس عند ملاقاة بعضهم بعضا، أو في رسائل يكتبونها، أو ما أشبه ذلك، فالتحية أعمّ من السلام، بدليل قول الله سبحانه وتعالى (تحيتهم فيها "سلام").
    ويمكننا ملاحظة اتفاق معظم شعوب الأرض على أن مفهوم التحية هو إعطاء الأمن والطمأنينة والسلام لمن نحيّيهم، إلا أن أنماط التحايا وطرقها تختلف من شعب إلى آخر، تبعا للمعتقدات والأعراف والثقافات. وإن ما يهمنا في هذا الباب أن التحيةخطوة التعارف الأولى في أغلب الأحوال، وتكون تعبيراًيُفتتح به تقديم الذات للآخرعموما. ولقدصارفن تقديم الذات موضوعا له مكانته في مجالات عدة تخصّ التخاطب مع العموم أو بالزبائن في مجال السياحة والأعمال التجارية، وهذا مجال عُنِيَ به بعض علماء النفس الإداري وفروع أخرى، ووضعوا له قواعد خاصة نذكر منها ما أورده د.عبدالرحمن الشلاش في مقال له نشر بجريدة الرياض بالعدد 14351 يقول:
    هناك كثيرمن المهارات التي على الفردامتلاكها ليقدم انطباعا حسنا وصورة ذاتية براقةزاهية للآخرين خلال هذه الدقائق المحدودة، ومن أبرزها ما يلي :
    1- الاعتناء بالمظهرالخارجي والهيئة التي تكون بها المقابلة، وتتمثل في الملبس ووضع الجسم وطريقة الجلسة ونبرة الصوت وأسلوب المقابلة.. والسلوك غيرالكلاميّ مثل الإيماءات وتعابير الوجه والالتفات والتركيز.. فنبرة الصوت الحادّة مثلا تدل على السلوك العدواني ( ليس دائما ).. والتركيز في النظر على كل الأشياء يدلّ على الفضول.. والانشغال بين وقت آخر بالهاتف الجوال يدل على إهمالك لمن معك.. وهكذا
    2- التعريف بالذات: ويكون بالمشافهة أثناء المقابلة ويشمل وصف الذات والتعبير عن موافقة الآخر أوعدم موافقته.. وشرح الموقف وطريقة الاعتذار ممن معك أوتأييدك له أوالثناء عليه.. وعلى الفرد أن يبتعد ما أمكن عن الحديث عن الذات والإنجازات الشخصية.. أوعتاب الآخرين وتحميلهم المسؤوليات كافة.( قد يتمكن بعض الأشخاص من الحديث عن أنفسهم فيعجب الآخرين، بالحقّ أوبالباطل! ).
    3- تقديم الفردلرؤيته وأهدافه تقديماً واضحا..والتفاؤل والتقليل من التذمر والتشكي والهدوء والإنصات وعدم المقاطعة والابتسامة والرد بقدرالسؤال.
    ونرى في هذا الاقتباس صبغة من توصيات علم النفس المعاصر ترتبط بالسلوك لمن يريد أن يقدم نفسه للآخرين كي ينال القبول والرضا ( أيْ أننا في هذا البحث نخلط بين الدراسة العلمية لواقع النفس البشريّة، وبين مبادئ نؤمن بها، ونبحث عن وسائل لتثبيتها في المجتمع، والأولى علميّاً أن نفصل بين المرحلتين). وقبل كل هذا نجدالتحيةتتصدركل سلوك مرغوب، إذأنهاتمثل المدخل الأوّل للتفاعل البشري،وقد ذكركثيرون تعبيرات متعددة غيرلفظية تدعم التحية وترمزللإقبال على معاملة الآخرين. من هذه الرموز ماهوواجب التنفيذ مثل التحية العسكرية وتحية الكشافة وما يدخل في حكمها..ولن نضيف أكثر بالدخول في عمل المصافحة باليد أو بحك الأنف فهي مرحلة أخرى تالية.

    ونعود لعلاقة التفاعلات البشرية بالتعاليم الدينية، فنجد أن البشر أينما وجدوا على سطح الأرض وفي أي زمن وجدوا، كانت لهم ديانات فليس من شعب أوتجمع بشري دون عقيدة تنظم تعامل بعضهم مع بعض؛ يقول محمد عابد الجابري رحمه الله "فقد عمدعلماء الأصول في الإسلام إلى التماس الجواب لا من الإسلام وحده بل من الأديان السماوية جميعها. وقاموا باستقراء الأديان السماوية، فوجدوها جميعا تتفق غاية وهدفًا ومقصداً من بعثة الرسل،ووجدوا مآل تعليماتها: أوامرها ونواهيها كافّة شيئاً واحداً، هومصلحة الناس، مصلحة البشريةكلها."وجاء خاتم الأديان بما يكمل النصوص التشريعية السماوية، فكانت المعجزة الخالدة زمناً وفكرا، ذلك لأنها لم تترك جانبا من الحياة إلا ألقت عليه نور البيان وفصّلت العمليات الداخلة فيه أيّما تفصيل.

    وفي موضوعنا الذي نخوض فيه، شرّع الإسلام تحيّة لفظية جامعة مانعة بقول المحيي للمحيا:"السلام عليكم"، تحية وردت في القرآن الكريم بهذه الصيغة ست مرات:

    1. في سورة الأنعام 54 ".. وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا، فقل: سلام عليكم، كتب ربّكم على نفسه الرحمة .."
    2. وفي سورة الأعراف 46 ".. ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون"
    3. وفي سورة الرعد 24 ".. سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار .."
    4. وفي سورة النحل 32 ".. الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون: سلام عليكم، ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون .."
    5. وفي سورة القصص 55 ".. وقالوا: لنا أعمالنا، ولكم أعمالكم، سلام عليكم، لا نبتغي الجاهلين.."(يحتمل المعنى وجهين ).
    6. ثم في سورة الزمر 73 ".. حتى إذا جاؤوها، وفُتحت أبوابها،وقال لهم خزنتها: سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين "

    وجاءت بصيغة "سلاما" ثماني مرات:

    1. سورة الواقعة 26 ".. إلا قيلا سلاما سلاما." .."( يحتمل المعنى وجهين ).
    2. سورة هود 69 ".. ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى، قالوا: سلاما، قال: سلام.."
    3. سورة الحجر 52 ".. إذ دخلوا عليه فقالوا: سلاما، قال: إنا منكم وجلون .."
    4. سورة مريم 62 ".. لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما، ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا .."
    5. سورة الأنبياء 69 ".. قلنا: يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم .."( ليست بمعنى التحيّة ).
    6. سورة الفرقان 63 ".. وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاما .."( يحتمل المعنى وجهين ).
    7. سورة الفرقان 75 "..أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويُلقّون فيها تحيّة وسلاما.."
    8. سورة الذاريات 25 ".. إذ دخلوا عليه فقالوا: سلاما، قال: سلام، قوم منكرون.."
    ولمن يتدبر ما في هذه الآيات يجد أن المواقف الذي تلقى فيه التحية مختلفة لا تقتصر على تقديم الذات أو المبادرة فقط مثل"إذ دخلواعليه فقالوا سلاما.."بل تتعداها إلى موقف يحدّمن الجدل مع الجاهلين وموقف إبطال مفعول النار وقلبه إلى بردوسلام"نجاة من الشرالمعهود في النار"وموقف التهنئة والتنويه بعاقبة الصبر..والمقصود بالكلام هنا أن التحية في الإسلام تحمل لطفاولينا وحسن سلوك في موقف يستدعي مايليق بالمقام،بينما تلقى لحسم موقف الجدال دون عدوان أو تطاول، وهذا مايضمن الانصراف إلى موقف آخرلاتنازع فيه حتى في حال عدم الاتفاق حول موضوع تجنبا للفحش في القول أوالنطق بماقد يجعل الوضع يتفاقم إلى مالاتحمد عقباه، أوحين لاتكون فائدة من المتابعةإلا إضاعة الوقت.. وإن كان الناس يسعَوْن إلى الحرص على التوافق وإحلال الوئام فيمابينهم، فهل هناك تشريع يعلوعلى ماجاء في كتاب الله الحكيم في المبادأة بالتحية الإسلامية؟ هنا موطن الإعجازفي ترويض النفس البشرية في البدء والختام على قول لايثير الحفيظة ولايشعل الفتن.
    وجه آخر لتنظيم السلوك، سبق به القرآن الكريم كل تشريع بشريّ،وتجلّى في قوله سبحانه؛ في سورة النساء148 ":
    لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم.."وهي صورة لموقف المجاهرة بالسوء من القول في عموم الأحوال مع استثناء لحال المظلوم الذي قديفيض به الشعور بالإهانة أوما يشبهها. فليس للمؤمن أن يسيء القول وهو يحمل بين جنبيه نفسا تنعم بالهدوء والانسجام فيكون ذا رد فعل متوازن يراقب الله في أفعاله وأقواله. ولا يغيب عنا قول الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه " :ليس الشديد بالصُّرَعةِ . متفق عليه .." ثم لنتدبر الآية الكريمة من سورة آل عمران 134: ... وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ..." ولعلنا نلحظ أن المسلم في كل العالم مهما بلغ به غيظه، يردّ السلام على من يبادره بقول"السلام عليكم" ثم يعرض حالة غيظه بعد ذلك على من قد يتدخّل ليهدّئ من حاله.
    .
    أثر التحية الإسلامية :

    وبقراءة الآية 86 من سورةالنساء"وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا.."نقف على وجوب ردّالتحية إذ لا يجوز أن تلقى علينا التحية ونصمت لأن ذلك خروج عن العرف العام الذي لا يخص المسلمين وحدهم. وقد جاء في تفسيرالطبري: قال أبو جعفر: يعني جلّ ثناؤه بقوله:"وإذا حييتم بتحية"،فحيوابأحسن منها أوردُّوها"،: فادعوا لمن دعا لكم بذلك بأحسن مما دعا لكم"أو ردّوها" يقول: أو ردّوا التحية.
    ثم اختلف أهل التأويل في صفة"التحية" التي هي أحسن مما حُيِّيَ به المُحَّيي، والتي هي مثلها. فقال بعضهم: الأحسن: أن يقول المسلَّم عليه إذا قيل:"السلام عليكم":"وعليكم السلام ورحمة الله"،ويزيد على دعاء الداعي له. والردّ أن يقول:" السلام عليكم" مثلها. كما قيل له، أو يقول:"وعليكم السلام"، فيدعو للداعي له بمثل الذي دعا له.
    وفي تفسير ابن كثيرللآية الثامنة من سورة المجادلة (وَإِذَا جَاؤوكَ حَيََّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ، وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ، حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا، فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) قال ابن جرير: حدثنابشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه، إذ أتى عليهم يهودي فسلَّم عليهم،فردّوا عليه، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرون ما قال؟". قالوا: سلّم يا رسول الله. قال: "بل قال: سام عليكم، أي: تسامون دينكم". قال رسول الله: "ردّوه". فردّوه عليه. فقال نبي الله:"أقلت: سام عليكم؟". قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا سلّم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: عليك"أي: عليك ماقلت. وأصل حديث أنس مخرج في الصحيح، وهذا الحديث في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها. ( فإذا تأكدنا أنهم قالوا: السلام، فلا مانع من ردّه، فالحديث قائم على العلّة، فإذا انتفت العلة زال الحكم.)
    نرى هناالتحديَ الكبيرالذي جاء به النص القرآني في إبرازما يجول في دواخل النفوس إن أريد بالتحية غيروجهها المقصود لفظا ونيّة. وهذا ما لا يستطيع أي عالم –بشر- أن يحيط به مهما أوتي من وسائل لكشف ما يحدث في خبايا النفس. وجاء به الكتاب الحكيم مبينا مايبيت ذووالنفوس الخبيثة قائلا:"حسبهم جهنم"وأكبرتحدّهنا يكمن في أن المقصودين بهذه الآية كانوا على أشدالكفرولا سبيل إلى إسلامهم؛ وهم في عدائهم للرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، يسعَوْن لتكذيبه مهما كلفهم ذلك ، ولم يدخلوا في الإسلام. ولوأنهم أسلموا لكان التحدي بشريالأنه سيلزم حجب ماورد في النص في حقهم. وكذلك كان الشأن مع أبي لهب...

    وفي كتاب ابن شهر: مناقب آل أبي طالب: ج4 ص18 فصل في مكارم أخلاقه قال:
    (حيّت جارية الحسن بن علي رضي الله عنهما بباقة ريحان، فقال لها: أنت حُرة لوجه الله، فقيل له في ذلك، فقال: أدّبنا الله تعالى، فقال: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا)، وكان أحسن منها إعتاقها). نجد هنا أروع صورة لطاعة الله وصورة تقارب المُحال عندغيرالمسلمين أن يحييك شخص بما ترضى فتردّ عليه بمنّة تدوم مدى حياته بأن تعتقه من الرّق في ذلك العصر، أو تقضيَ عنه دينا في زمننا ...
    يرى بعض الفقهاء أن الظاهر جواز ابتداء غير المسلم المسالم بالسلام، للأصل، ولقوله سبحانه وتعالى: ( لايَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ سورة الممتحنة 8)، وهذه صورة أخرى من صور التعايش السلميّ بين الأمم الذي يدعو له الإسلام، إذ يقرر أن الإحسان لغير المسلمين ممن لم يقاتلوهم ولم يخرجوهم من ديارهم وبرّهم لم يوجب نهيا فهو من المستحسن من سلوك المسلمين ومن أقلّ وجوه البرّ أن يلقواالتحية.
    ورغم أنّ البحوث الجارية المكثفة حاليا تسعى لفهم السلوك البشري فهماً علمياً وتعتمد التجربة والإحصاء في معظمه فهي تترك جانبا ذاشأن يمكنها به أن توفر الجهدوالوقت إن اعتمدته مصدراً للمعرفة؛ إسوة بما تعتمده دراسات أخرى كالقانون مثلا. إنّها كتب الديانات السماوية، التي باستقراء نصوصها يمكن استنتاج أن التشريع السماوي جاء لتقرير مصالح الناس على وجه الأرض، وهي عند الباحثين ثلاثة أصناف:

    1 - الضروريات.
    2 - الحاجات.
    3 - التحسينات.
    وقد اقترح كثير من العلماء تصنيفات عليها بنت الهيئات والمؤسسات على اختلاف وظائفها في المجتمع قواعد التعامل مع البشر مثل التصنيف الذي ذكره العالم مازلو في تدرج الحاجات، والعالم إريكسون الذي كتب في السياق نفسه ما يفيد أن للإنسان حاجات تقابلها تطلعات النفس البشرية لبلوغ ما رسمت من أهداف في الحياة. ونرى أن كل ما كتب حتى يومنا هذا مازال يتخبط في محاولات التنبؤ بالسلوك حيال المواقف التي تعرض للإنسان في حياته، ومايواجه تلك المحاولات من صعوبات جمّة يفرضها موضوع طبيعة الإنسان لأنّه ذات عارفة مدركة تحتفظ بصنع القرار في دواخل النفس التي ليست محددة الأبعاد بالدقة التي تعرفها الموضوعات في العلوم الطبيعية. ( لهذا ليس اسم العلم– علم النفس- دقيقاً، فهوعلم مجازاً لا حقيقة)غيرأننا بالنظرلما وردفي النصوص المحكمة نجد أن هناك مرجعاً أبرزيخبرنا بأن الخالق يعلم السر والنجوى ويعلم ماتوسوس به نفس الإنسان للإنسان. وإن اعتمدنا هذا المرجع وآمّنا بما جاء في النص القرآني وفي السنة الشريفة تفسيرا وقياسا واجتهادا فسنحسم عدة متشابهات problématiques .
    لذا نرى أن من الضروري إشراك علماء أصول الدين في إبداء الرأي أوالفتوى في عدة جوانب من علم النفس المعاصر إن أردنا الإلمام بموضوع الإنسان. لأن بقاء هؤلاء العلماء خارج الدائرة العلمية المعاصرة يشكل جمودا يبقي المصدراليقيني الأول للمعرفة بالنفس البشرية مغيّبا فيزداد الموضوع غموضاً على غموض.

المواضيع المتشابهه

  1. الحركات الإسلامية في منظور الخطاب العربي المعاصر
    بواسطة محمد عيد خربوطلي في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-15-2015, 08:55 AM
  2. الحركات الإسلامية في منظور الخطاب العربي المعاصر
    بواسطة محمد عيد خربوطلي في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-25-2015, 04:15 PM
  3. قضية الإعجاز القرآني وأثرها في تدوين البلاغة العربية
    بواسطة معاذ الزين في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 02-23-2014, 02:41 PM
  4. الإعجاز القرآني في بيان المستوطنات وجدارهم العازل
    بواسطة الحمداني في المنتدى فرسان الإسلام العام
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 12-19-2011, 12:04 PM
  5. الثقافة النفسية من منظور علم النفس الإيجابي
    بواسطة ندى نحلاوي في المنتدى فرسان الطب النفسي .
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-30-2010, 05:36 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •