قصةقصيرة بقلم/مجدي عبدالنبي
الرحيل*

*******
تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها
تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

الشمس تنزف عند الأفق.تجرح أمواج البحر.تزداد البقع الدامية اتساعا.تبدد الريح كتل الضباب.تعوى طيور النورس،تسقط فى الماء، تلتهم بقايا أشعة متكسرة. يلوكها الريح. تصطدم بصخور الشاطىء ،تنسل الدمعات عبر نتوء الوجه المكسو بقشور الألوان.أنظر للبعيد..تسرح عيناى فى مساحات البحر، يغتال اليل شظايا قوس قزح. أشعر بالاختناق، أود أن أصرخ، أطعن دوى الصمت .يموت فى عينيه شراع لايجىء. ينزلق من فوق الصخور.يتلمس أسوار قلعة "قايتباى" يدخل أحد الممرات المسدودة .يعود من حيث أتى .تركله الريح ..يظل يدور..تصفعه الأسئلة. يتوجه صوب الباب الخشبى المطعم بالقطع الحديدية.يسير بمحاذاة الكورنيش،يتراشقه رذاذ الأمواج.

*************
(متى ستعود يا أبى) يتشمم رائحة اليود. يتأمل وجه البحر، يلفحه الصقيع. يلف الكوفيه، تضيق العينان، تغور فى الوجه الشاحب. ينظر لشراع بعيد تلهو به الأمواج. يهمس للموج:
- هل لمست ذراعيه...
**********
يمتطى أحد المدافع الصدئة. يحمل الكف الوجه. يتأمل مساحة القلعة والباب المغلق. تنخر الأسئلة فى رأسه (متى سيعود ..الديون..إسحاق..الريس مجاهد ..البحر..) يطرق نفس الشوارع بخطوات مهزومة. يشرخ الصمت الجاثم فوق الليل، تصطدم قدماه بالأسفلت البارز ذى القطع الصغيرة.يتوقف عند "حلقة السمك". اعتاد تلك الرائحة المنبعثة ،يشعر أنها تخرج من مسام جسده. القطط تتشمم الصناديق الفارغة أمام واجهات المحلات المغلقة. يرتكن فوق العربة المكسورة. يتحسسها برفق.
يجلس فوقها . يبكى.
-لقد ابتل السروال.
- أين تريد أن تذهب اليوم.
- أريد أن أمتطى البحر مثلك يا أبى.
- ما زلت صغيرا يا ريس سلامة.
أقفز من فوق العربة. أتعلم غزل الشباك .يضحك ، تحتوينى نبراته ، تمتزج فى دمى ،أجلس بجانبه ، يربت على ظهرى ، أشعر بدعة وأمن ينسلان إلى قلبى. أبتسم.
- ماذا تقص على اليوم يا ريس مجاهد.
تمسح عيناه اليافطة الكبيرة ، يجرجر ظلاله أسفل عمدان النور ، الليل السادر يطرق رأسه.يتباطأ فى السير ، يتجاوز "حى الأنفوشى" القوارب تنام عند أقدام الشاطىء. توقظها صرخات الموج. ينسحب من أمام" أبى العباس" يشق الحارات الضيقة ، يتفحص البيوت المتآكلة الحوائط ، يمر أمام الحانات. نباح الكلاب تحاصر المكان. القاذورات على أول "وكالة الليمون " متكومة . يسلك إحدى الشوارع الجانبية متوجها صوب" حارة اليهود" . يتهالك فى أزقتها الضيقة . يتشمم رائحة الدخان . يتجاوز محل " سمعان " القديم ذى اليافطة المتآكلة . لم يلحظ الرجل الأنيق وهو يلف سلسلة من الذهب حول إصبعه الممدودة أمام المحل. يسحب قدميه بصعوبة . يشق الدخان الكثيف ، يسعل ،يهرب شبحان فى الظلام ،يترنح. يطرق أحد الأبواب. طالعته بوجهها الشاحب وشعرها المعقوف
-..........................
-...........................
أرادت أن تجرح حياء الصمت الدائر هذه المرة بنبرات يغتالها اليأس.
- الشركة أرسلت خطابا جديدا.
نظر للسطر الأخير ( إمضاء إسحاق سمعان ) .
لم ينقبض القلب تلك المرة . وضعه فوق الخطابات الأخرى فى الجيب الداخلى للصديرى.
- ألن تأكل اليوم أيضا..
-.................
نظر فى عينيها ، كانت قطرات حائرة فى الجفون ترتعش . ارتكن إلى أحد الحوائط . أسند الوجه فوق قبضة اليد حتى الصباح .
الأمواج تندفع فى عروق البحر . يشرع بعينيه فى قلب الريح . يصعد قمة الصارى ..يشد بعض الحبال ..يتأرجح القارب... يقفز ..يتسلق ذراعا خشبية يهدأ البحر . يتغنون بأغانى الصيد . يلقون بالشباك . يحمل الصيد فوق الكتف المفتولة . تتسلل الابتسامة إلى وجه الأب الشائخ . يتوقفون أمام المحلات يستقبلهم الرجال

***********
- من أنت.
رصده بنظرات اغتصبت ابتسامات الغد .
- صديق .
انغرست الكلمة فى أذنه فأفاق من الخدر .
- هل تريد شيئا .
ابتسم على مضض.
- أين الريس مجاهد (قالها بسخرية)
- لم يزل فى البحر (قالها باضطراب )
تركه دون أن ينبس بكلمة . لم ينس تعابير وجهه الصلف ، وحركة السلسلة الدائرية . أيكون عميلا قديما . لماذا تفحصنى هكذا ؟ أيكون صديقا حقا . عندما يعود أبى سوف......
****************
تعوى النوارس ، يقذفها بحجر لا يصل إليها.
- سوف يعود سوف يعود .
يقذف الماء بحجر آخر .
- انطق يا بحر ..انطق.... متى سيعودون .
يشعر أن أحدا يترقبه . يلتفت إلى الخلف . كان ينظر إليه بتحد .
- هل عاد أبوك من البحر ( قالها هازئا )
- ماذا تريد من الريس مجاهد .
- ألم يخبرك أحد.
- تعنى من .
- صبيانك فى المحل ( ثم أضاف مازحا ) أو فى البحر .
أخذ يضحك بصوت عال . تركه قابعا فى حيرته أمام الأمواج المتلاحقة ، وصراخها عند اصطدامها بالصخور .

*************

أخذه بعض الرجال إلى الحانة . دخل دون رغبة حقيقية . الدخان المتكوم يملأ المكان . تنفجر الضحكات المصحوبة بسعال متقطع . سدد إليه أحدهم جسم الغاب . أخذ نفسا عميقا . احمرت عيناه ، استرخاء فى الأجفان . - لا تحمل هما يا ريس .
لم يعره التفاتا .
- ألم تتفاهم مع الخواجة .
- نظر إليه على مضض .
- لم أقابله حتى الآن .
- لماذا . قد يخفض الدين ، أو يؤجل الحجز على المحلات .
يلفظ الدخان ،الوجوه المضببة ترى كأشباح. يتناهى إليه صوت أحدهم تظهر ملامحه شيئا فشيئا.
- أنت تعلم لو معى المبلغ لن أتأخر
علق الرجال بآلية . لفظ بقايا الدخان فى وجوههم . أخذ يسعل بشدة ويتقيأ .
كان يقف فى مساحة الظل . لم يره حتى دنا منه .
- أنت. ماذا تريد.
أشار خلفه .
- محل والدى ألا تريد أن تشتريه.
طفت أشياء من قيعان الذاكرة ..
- أنت ابن سمعان ..............الرهناتى "
نظر إليه مبتسما بازدراء .
- أنا إسحاق .
امتصت تعابير وجهه الدهشة . تحسس الجيب الداخلى للصديرى . ازدرد ريقه . لم يستطع مقاومة النظر فى عينيه . نكسها بعد لحظات إلى الأرض . شعر ببرودة تسرى فى جسده . ثم بدا الوجه محموما .
- لو كان موجودا لفك أزمتك ( قالها بتخابث شديد )
الكلمات تهرب من لسانه . تحسس وجهه الجامد . التقط الآحر حجرا من على الأرض . أخذ يقذفه إلى أعلى فيسقط فى يديه الشمعيتين . استفزته تلك الحركة .
- هل تتذكر هذا الجرح ( أشار إلى رأسه ) .
تحسس شفتيه الهارب منها الدم .
- عندما رحلنا فرح الجميع ( قالها بكمد شديد ).
ألقى الحجر بعيدا بغضب .أخرج السلسلة الذهبية . أخذت تدور فى اتجاه مضاد .

*******
القوارب ترقص فوق الشاطىء . الرجال يفردون الشباك . يرقصون فى حلقات. هدير البحر يعزف أغانيهم . السماء الصافية شديدة الزرقة . نشوانة أشعة الشمس فوق صفحة الماء . وحيدا يجلس مع الصمت المتراكم فى صدره . ينظر إليهم . الهم يجثم ثقيلا على قلبه . جالسا أسفل قدميه ، أنظر إليه . ربت على كتفيه . .حاول الابتسام.
- ماذا بك يا أبى .؟!
ارتسمت التجاعيد على الوجه ، قاومها فى تصنع .
- لا تشغل بالك . اليوم عرسنا . نظرت للرجال كانوا يتهللون :
جدف بيا يا ريس
دا الجارب ملكى
شد الصارى يا ريس
واغزلى شبكى
بعد لحظات كان "سمعان" قادما من بعيد . انقبض قلب الرجال . انهزمت التراتيل فى الحلوق . كان يحمل فى يده عدة أوراق وأختام . تسلم أبى إحداها . ابتسم لى أخفى دمعة اغتالت بقايا البسمة . سار نحو القلعة ، جلست على أحد المدافع . مسح الوجه المكدود . أشار على أحد المداخل .
- من هنا دخل جيش بونابرتة ، وسقط البطل الشجاع .
أشار على إحدى الحجرات .
- حاصروه هنا . ظلوا ينزعون من قلبه خفقة خفقة برصاصهم . تنسل الدمعات.
- أنت تعرف البطل يا ريس مجاهد .
احتضننى بشدة .
- كثيرا يا ريس سلامة (قالها بنبرة حارة )
- هل أنت مدين للخواجه سمعان . ؟!
انتزعنى من صدره . نظر إلى بعينين عميقتين . .
تأملت وجهه لأول مرة .
- لقد كبرت يا ريس سلامة ( هز رأسه ) لن أقص عليك شيئا بعد اليوم .

***********************
من بعيد تطفو على السطح . . تقترب ببطء شديد نحو الشاطىء
تتمهل فى حزن عميق . التقط قطعة من الخشب من الماء ، قرأ الحروف ( مجا ..) الحروف الأخرى انكسرت مع نهاية القطعة الخشبية . اتجه صوب المحلات كان الرجال يخرجون محتوياتها ، ينثرونها على الرصيف . رائحة الأسماك تعفنت . كان يقف كالطود . يبتسم بزهو بالغ . يحطمنى بنظراته . السلسلة الذهبية تضوى مع الحركة الدائرية . تقوض خطواتى . تناهى الصوت من البحر . كان قويا من الأعماق ( انظر ......إنهم يرحلون ...........) اهتز مع الريح . ( يرحلون .... القوارب ملكنا الآن بحق ).
اقترب منهم وهم يلقون باليافطة على الأرض ( السفن تغادر الشواطىء....تصفر... تعزف أنشودة الرحيل . يتهلل الرجال أرقص طربا معهم . دون أن أفهم شيئا . يتقازمون فى البحر ) . اقترب منهم أكثر ( يتلاشون من مساحة الأفق يبتلع البحر سمعان والصغير ) التقط حجرا من على الأرض . قذفه فى الوجه الشمعى .
_ ارحلو و و و و ا ...... ارحلوا جميييييييييييييييييييييييعا .
ضحكاته اغتالت الكلمات . فلم يسمعها أحد .


* القصة الفائزة بجائزة نادي القصة1989 بإسم وزير الثقافة الأسبق الاديب الراحل يوسف السباعي وحصلت علي المركز الأول علي مستوي جمهورية مصر العربية.ووزعت الجوائز بمجلس الشوري.