ظاهرة ارتباك الرعاة

سبق المجتمع الرعوي في تكوينه وتكوين مهاراته، كل المجتمعات، ومن خلال ما تجمع لديه من أرصدة في تلك المهارات، انطلقت أنوية وبذور المجتمعات الأخرى، الزراعية والصناعية والحضرية بشكل عام. ومن هالة الصورة التي أحاطت بذلك المجتمع تم إسقاط مفهوم الرعي ليتطور الى رعاية، وكانت الرعاية تلك رمزا للمسئوليات الأدبية والإجرائية.

في المشهد المتكرر لصورة الرعاة في مناطقنا، ترى الراعي مسترخيا وحذرا في نفس الوقت، استرخاؤه آتٍ من نمطية عمله وقلة المفاجئات فيه، وحذره آت من أن تكون لحظته هذه هي نهاية فترة الاسترخاء.

يسير الراعي بمحاذاة حماره الذي ضجر من برنامجه اليومي الممل، يحمل فوق ظهره (خُرْجَاً) تمت صناعته من بقايا كيس قُرضت بعض أجزاءه، ووضع في داخل جيبيه المتدليتين على جانبي الحمار، بعض أقراص الخبز وحبات تمر، وتتدلى من بين كتفيه قربة ماء تستقر على الجانب الذي من جهة الراعي.

كانت خطوات الراعي بطيئة كخطوات الحمار و (المرياع) والأغنام، وكان الكلبان اللذان يرافقان القطيع، لا يعجبهما هذا النمط من السير، فالكلاب تُرى في حالتين إما راكضة وإما رابضة، وكان الكلبان يستغلان انشغال الراعي بالحفاظ على توازنه وهو نائم ماشٍ ليأخذا غفوة، يضع لها خاتمةً صوت الراعي الرتيب.

كانت الأصوات التي تصدر عن الراعي، لا تزيد عن سبعة أو عشرة أصوات بعضها مكون من حرفين مثل: (وا) ومنها ما يتكون من ثلاثة أحرف مثل (أرد) وليس هناك من أهمية أن تكون لتلك الأحرف معنى، وأحياناً لا تشترك الأحرف في تكوين تلك الأصوات، بل يُخلط الهواء الذي يُزفر من الرئتين مع التحكم بفتحتي الأنف بواسطة أصابع اليد، أو بالضغط على طرفي الشفتين، ليصدر صوت شبيه بأصوات القرود.

إن لم تفهم الأغنام معاني تلك الأصوات، فإنها ستفهمها بواسطة حجر يسقط على رأس إحدى الشياه، فتجفل وتضطر لترجمة تلك الأصوات، وتنساق الأخريات طائعة وراء من سقط عليها الحجر. ومع الزمن تنصاع الشياه للأصوات القليلة التي حفظتها عن ظهر قلب.

هناك من الرعاة من يتقاعس عن دوره بحيث تتقدم الأغنام عليه، أو يفقد سيطرته على الحمار والمرياع ويتفقد الكلبين فلا يجدهما، عندها تدب الفوضى بصفوف القطيع، فالقطيع يكتشف بالفطرة والتجربة انضباطية الرعاة من عدمها. فعندما يبتعد الراعي عن قطيعه لا يعود القطيع يسمع الأصوات الصادرة، وعندما يتمرد الحمار أو المرياع أو كلاب الحراسة فإن الفوضى ستدب بالقطيع كله.

من يتأمل تلك الظاهرة، يراها ماثلة في المؤسسات الفاشلة والدوائر الحكومية الفاشلة وحتى الحكومات الفاشلة.. إنها ظاهرة ارتباك الرعاة.