النسر لا يطير بجناحٍ واحد (!!) بقلم أسامة عكنان


في زمنٍ ماَّ من تاريخ شعبٍ ثائر كان اسمه الشعب الأردني الواحد الموحَّد، مارس نظامان وظيفيان هما "النظام الأردني" بقيادة الهاشميين، و"النظام الفلسطيني" بقيادة منظمة التحرير، أقذر لعبة يمكن أن يمارسها متآمر على العرب، وعلى العروبة، وعلى الأردن، وعلى فلسطين (!!)لعبةٌ قوامُها إفشال مشروع "التغيير والتحرير" الذي كان يضطلع به ذلك الشعب، والمنطوي على فكرة "تغيير النظام الوظيفي الأردني"، و"تحرير الأرض المحتلة" (!!)فما الذي فعله هذان النظامان الوظيفيان (؟!)شقوا الشعب الأردني الواحد الموحد الثائر، وقسَّموه إلى شعبين، وربطوا كل شعبٍ منهما بقضيةٍ جعلوها قضيته الخاصة التي لا علاقة للشعب الآخر بها، وراحوا يؤسِّسون بكل الأكاذيب والأساطير والخرافات المُسْتَحْضَرة من حاويات القمامة التاريخية، مستخدمين كلَّ الأذناب والأبواق والببغاوات، وجميع العنصريين والحاقدين والإقليميين من الطرفين، لحتمية هذا التقسيم وضرورته ووطنيته، وبالتالي لحتمية وضرورة ووطنية أن تكون لكل شعبٍ منهما قضيته الخاصة التي لا يجوز أن تتداخل مع قضية الشعب الآخر أو تختلط بها بأيِّ شكل من الأشكال، وإلا فإن السماء ستسقط على الأرض، والدماء ستسيل مدرارا، وإسرائيل ستصل إلى المحيط الهندي (!!)وبلعت الشعوب الغافلة المغيبة – كي لا نقول الحمقاء التائهة – طُعْمَ الوظيفيتين وراحت تتغني بالفربقة وبالقسمة وبالتحزئة وكأنها منحة من الله تكرم بها على البشرية كلها (!!)فماذا كانت النتيجة الكارثية (؟!)قالوا للشعب الذي أُريدَ له أن يكون هو الشعب الأردني: "إن قضيتك هي التغيير في الأردن، فناضل لأجلها، ولا تُعَطِّل ذلك بإضاعة الوقت في الالتفات إلى التحرير، فالتحرير قضية الشعب الآخر – الذي أُريدَ له أن يكون هو الشعب الفلسطيني – فلا تتدخل فيها، ودعه يناضل لأجلها، دون شغله بقضيتك، أو شغل نفسك بقضيته، وسوف تلتقيان يوما في النتيجة المحتمة، ألا وهي وحدة الشعبين التي تتغنيان بها وتعشقانها وتترقبانها، بعد أن تكون أنت أيها الشعب الأردني قد غيرت بلدك، وبعد أن يكون هو – أي الشعب الفلسطيني – قد حرَّر أرضه، فوحدتكما رهن بتحقُّقِ حالة متقدمة، هي تغيير الأردن وتحرير فلسطين، أما الحديث عن الوحدة قبلها، فهو تمييع للتغيير وللتحرير وانشغال عنهما كليهما (!!)وقالوا للشعب الذي أريدَ له أن يكون هو الشعب الفلسطيني: "إن قضيتك هي تحرير الأرض المحتلة التي هي كلها أرضك، فناضل لأجلها، ولا تعطِّل ذلك بإضاعة الوقت في الالتفات إلى التغيير في الأردن، فقضيتك أَجَلُّ وأسمى وأعظم، لأن التغيير أصلا قضية الشعب الآخر – الذي أُريدَ له أن يكون هو الشعب الأردني – فلا تتدخل فيها، ودعه يناضل لأجلها، دون شغله بقضيتك، ودون شغل نفسك بقضيته، وسوف تلتقيان يوما في النتيجة المحتمة، ألا وهي وحدة الشعبين التي تتغنيان بها وتعشقانها وتترقبانها، بعد أن تكون أنت أيها الشعب الفلسطيني قد حرَّرت أرضك، وبعد أن يكون هو – أي الشعب الأردني – قد غيَّرَ بلده، فوحدتكما رهن بتحقُّقِ حالة متقدمة هي تغيير الأردن وتحرير فلسطين، أما الحديث عن الوحدة قبلها، فهو تمييع للتغيير وللتحرير وانشغال عنهما كليهما (!!)إن جوهر المؤامرة في تلك الادعاءات يكمن في حقيقة الحقائق التي تمَّ القفز عليها في هذه البدعة التي مفادها: "أيها الأردني غَيِّر الأردن، وأيها الفلسطيني حرِّر فلسطين، كي تتوحدا بعد التغيير والتحرير، لأن الوحدة قبلهما كارثة على مشروعيكما اللذين هما التغيير والتحرير".. نقول.. إن جوهر المؤامرة يكمن في الحقيقة الكبرى التي تم القفز عليها بهذه البدعة السمجة، ألا وهي أن الجزء الذي أُريدَ له أن يكون أردنيا وفقط من الشعب الأردني الذي كان واحدا موحدا وثائرا، لا يمكنه أن يغيِّرَ بلده بدون الاستعانة الكاملة والجوهرية بالجزء الذي أُريدَ له أن يكون فلسطينيا وفقط من هذا الشعب الذي كان واحدا موحدا وثائرا، وأن الجزء الذي أُريدَ له أن يكون فلسطينيا وفقط من الشعب الأردني الذي كان واحدا موحدا وثائرا، لا يمكن أن يحرِّرَ أرضه بدون الاستعانة الكاملة والجوهرية بالجزء الذي أُريدَ له أن يكون أردنيا وفقط من هذا الشعب الذي كان واحدا موحدا وثائرا ذات يوم مضى وانقضى (!!)فلا الأردن سيتغير مهما بُحَّت الحناجر وهي تطالب بالتغيير، ولا الأرض المحتلة ستتحرَّر مهما تعاطف معنا سكان الأرض والقمر والمريخ وزحل، ما لم يكن التغيير والتحرير مشروعا واحدا لشعب واحد قوامه الكتلة الديمغرافية المسماة الآن "الأردنيون والفلسطينيون"، ونقصد بطبيعة الحال: "الفلسطينيون الذين أصبحوا فلسطينيين بعد قرار فك الارتباط، والذين كانوا أردنيين قبله، كي لا يصطاد مصطاد من ببغاوات الإقليمية والعنصرية في الماء العكر، سواء في هذا الطرف أو في ذاك" (!!) نعم إنها الحقيقة الدامغة التي تصفع كلَّ المتآمرين والمتخاذلين والعنصريين والإقليميين والمتواطئين، والتي تنص على أن المؤامرة كانت تستهدف فكرة الوحدة والثورة التي حضنها الشعب الأردني، والتي بها وحدها كان قادرا على التغيير وعلى التحرير معا، لأنهما جناحا نسر لا يتحرك أحدهما بدون تحرك الآخر ليمنحه الوجود والحياة والقدرة على الطيران (!!)إنهما نظامان وظيفيان وُجِدَ كلٌّ منهما لأداء دوره في تمرير جانب من معادلة العلاقات الصهيونية الإمبريالية في الإقليم، ولماَّ كانت ثورة الشعب الأردني الواحد الموحَّد تهدد هذه الأدوار، مُهَدِّدَة بالتالي تلك المنظومة من العلاقات، فقد كان لابد من فعل كلِّ ما يمكن فعله لتهشيم سيرورة المعادلة التي أنجزها ذلك الشعب متجاوزا كلَّ المؤامرات السابقة التي وضعوه في أتونها (!!)وفي سياق البحث عن حلٍّ للمعضلة الوجودية التي وَجَدَ التحالف "الإمبريالي الصهيوني الوظيفي" نفسَه يئن تحت وطأتها، لم يكن أمام الجميع سوى تقسيم هذا الشعب، وتجزئة قضيته، وتهشيم مشروعه، ليصبح شعبين، بقضيتين، وبمشروعين منفصلين، وتمَّ التأسيس والتأصيل لهذه الفرية لتصبح حقيقة وعقيدة ودينا ووثنا يُعْبَد (!!)ومنذ أن نجح ذلك التحالف البغيض في إنجاز مشروعه التفتيتي هذا، لم نعد نسمع من الأردنيين سوى التغيير في الأردن، في جهل تام بواقعة أن التغيير لا يتم بدون إشراك من تمّ تحييدهم لينشغلوا بتحريرٍ لن يتم هو أيضا بدون إشراك من تمَّ تحييدهم على الجانب الآخر لينشغلوا بتغييرٍ لن يتحقق، ليدور الجميع في الحلقة المفرغة من ذلك الوقت (!!)يا من أريد لكم أن تكونوا "الأردنيين" وفقط، لن تغيروا الأردن، ولن تسقطوا نظامه الوظيفي، ولن تتحرروا من خيانات الهاشميين، ولن تقضوا على الفساد، ولن تقضوا على الفقر والبطالة، وتتحرروا من التبعية، ولن تنجزوا دولة عصرية ديمقراطية حرة تسودها العدالة، بدون أن يكون تحرير الأرض المحتلة جزءا لا يتجزأ من مشروعكم الوطني، ليصبح مشروعكم هو "التغيير والتحرير" معا، وليس التغيير أولا دونما علاقة بالتحرير، وكأن ذاك يمكنه أن يُنجَزَ بدون هذا، لأن التغيير والتحرير مشروع واحد، لو تجزأ قُتِل، وليسا مشروعين يمكن التعامل معهما بالتتابع والتناوب (!!)ويا من أُريدَ لكم أن تكونوا "الفلسطينيين" وفقط، لن تحرّروا أرضكم، ولن تقيموا دولتكم المستقلة، ولن تعيدوا لاجئيكم إلى ديارهم، ولن تجسدوا هويتكم التي تتباكون عليها ليل نهار، ويتباكى عليها معكم كل ناحريها فيما مضى، بدون أن يكون تغيير الأردن جزءا لا يتجزأ من مشروعكم الوطني، ليصبحَ مشروعكم أنتم أيضا هو "التغيير والتحرير" معا، وليس التحرير أولا دونما علاقة بالتغيير، وكأنما هذا يمكنه أن يتمَّ بدون ذاك، وذلك للأسباب نفسها التي جعلت ذلك مستحيلا وممتنعا في حق التغيير وحده لدى من أُريد لهم أن يكونوا أردنيين وفقط (!!) وإذن فمادام التغيير لن يتم بدون رديفه وهو "التحرير" كمُكَوِّن أساس للمشروع الوطني الأردني، ومادام التحرير لن يتم بدون رديفه وهو "التغيير" كمُكَوِّن أساس للمشروع الوطني الفلسطيني، فهل هناك أكثر حماقة ورعونة وغباء ممن يصر من الأردنيين على أن التغيير هو مشروعه، وعلى أن التحرير هو مشروع الفلسطينيين وحدهم وألا شأن للأردنيين به، وممن يصر من الفلسطينيين على أن التحرير هو مشروعه، وعلى أن التغيير هو مشروع الأردنيين وحدهم وألا شأن للفلسطينيين به (!!)لقد عرف المتواطئون من الطرفين كيف يجعلون الشعبين يغرقان في مستنقعات الفشل المزمنة، عندما نجحوا في إقناع الأردنيين بأن التغيير هو مشروعهم وفقط، وفي إقناع الفلسطينيين بأن التحرير هو مشروعهم وفقط، ماداموا يعون جيدا ألا هؤلاء ولا هؤلاء سيتمكنون من تجسيد أيٍّ من ذينك المشروعين على أرض الواقع، مادامت الحقيقة التاريخية والسياسية والأخلاقية والقومية والمنطقية تؤكد على أن كلاًّ من المشروعين – التغيير والتحرير – عندما انفصل عن شقيقه ذلك الانفصال الفاجع، فإنه لم يعد ولن يعود يشكل أيَّ خطر على التحالف "الإمبريالي الصهيوني الوظيفي"، وأنه سيقضى الدهرَ كلَّه متحركا في فراغ، ومحاولا الطيران بلا أجنحة دون أن ينجح في ذاك، لأن النسر لا يطير بجناح واحد (!!)وإذا كان ظهور منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 هو بداية مسيرة التفتيت التي مني بها الشعب الأردني، فإن محطات مثل تجريد ثورة منتصف الستينيات من أردنيتها وإسباغ الصفة الفلسطينية عليها منذ ما بعد معركة الكرامة، ومثل انضمام فصائل المقاومة الأردنية بعد أن أصبحت فلسطينية إلى منظمة التحرير عام 1969، ومثل تكريس منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا وحيدا وشرعيا للشعب الفلسطيني في مؤتمر الرباط عام 1974، انتهاء بقرار فك الارتباط المأساوي الذي اتخذه الملك حسين بن طلال في 31/7/1988، كانت بمثابة علامات فارقة في معركة الشرذمة والتفتيت والتقسيم والتجزئة التي آلت بنا إلى ما نحن فيه من احترابٍ على الوهم والغثاء والكذب (!!)إن كل ما جاء من قرارات وسياسات في سياق تكريس معادلات المباعدة بين جناحي النسر الأردني المُحَلِّق "التغيير" و"التحرير"، لابد من أن يتم إسقاطه إذا أريد لهذين الجناحين أن يلتئما من جديد كي يتعافى النسر ويحلق في الأعالي منجزا مشروعه، وإلا فلنبشر ببقائنا على مآسينا بلا أدنى تقدم، سواء على صعيد ما نصبو إلى تغييره في الأردن، وما نصبو إلى تحريره في فلسطين (!!)أتحدى أن يحدث أي شيء إيجابي للأردنيين أو للفلسطينين، لقضية الأردنيين "التغيير"، أو لقضية الفلسطينيين "التحرير"، إذا ما بقي قرار فك الارتباط قائما وساريا يعبث بكل مصائرنا ومواضينا وحواضرنا، ويفرِّخ لنا كل يوم بوقا من أبواق الجهالة والعصبية البغيضة، ويقيء لنا مع كل يوم يمر من عمر مأساتنا خطابا فاسدا تفوح منه كل الروائح المنتنة باسم أوثان جديدة أريدَ لنا أن نعبدَها ونركعَ لها من دون الله، اسمها "الهوية الأردنية" حينا، و"الهوية الفلسطينية" حينا آخر (!!) إن بداية الوعي لدى الأردنيين والفلسطينيين تكمن في اليقين بأن فشل مشروع التغيير الأردني سيتفاقم إذا لم نربطه بشقيقه التوأم ألا وهو "التحرير"، وبأن فشل مشروع التحرير الفلسطيني سيتفاقم إذا لم نربطه بشقيقه التوأم الآخر ألا وهو "التغيير".. وأن هذا وذاك لا يمكن أن يرتبطا من جديد في مشروع واحد لشعب واحد موحد هو الشعب الأردني الثائر ما لم يتم إسقاط قرار فك الارتباط الذي استكملت بصدوره دائرة الفصل الفاجع بين جناحي النسر كي لا يتمكن من التحليق ثانية (!!)