محمد عابد الجابري: يرحل الكبار ولا يرحلون
افتتاحية مجلة المستقبل العربي
الموتُ حدثٌ عادي في تاريخ الناس؛ موعدٌ مع النهاية مؤجلٌ منذ الميلاد؛ قدرٌ تُرحلُهُ إرادة الحياة ـ وحصة البشر فيها ـ من يومٍ الى آخر. ينساهُ الحيُ لكي يحيا؛ وقد يتذكره أحياناً: في المرض، حين رحيل صديق أو قريب، في الشدائد والحروب وأهوال الأيام...لكنه لا يلبث أن يقاومَ الذكرى بالنسيان... لكي يُهَرِب النسبي من أحكام المطلق ويمضي في مغامرة سريعة اسمها الحياة.
وكلما أعد الإنسان للحياة القصيرة أفضلَ ظروفٍ الزيارة كان زمن الوجود بين العدمين أخصب، وكان للوجود معنى لا يحبه العدمُ ولا ينسخُهُ الفناء. ليس ضرورياً أن تنعت المعنى الكبير للوجود السريع بالخلود الأبدي، لكن بعض الكلام الأساطيري عن الخلود يناسب هذا النوع الرفيع من الوجود الذي لا يقوى الموت على أن يغيب صاحبه بَدَنَاً ويوميات.
لا يموت الكبارُ، لكن لموتهم وقع الرهبة في النفوس إذ يُمدد في الناس بقاءهم وشعورَ الأحياء بالأبدي. يصعدون الى فوق حين يهبط معدل النسبي واليومي فيهم، ويذهبون الى الأبعد كلما اقتربوا من المعنى العميق للحياة كلحظة مقتنصة في ملكوت العدم المطلق. الكبار وحدهم يهزمون الفناء ويحولون معناه الى معنى نسبي فينتصرون على لحظة الرحيل. لا مستحيل مع الممكن، ولا ممكن يستحيل في لعبة الحياة حين تحكمها الإرادة وتفرض عليها المعنى الإنساني.
الكتابة، الفن، الإبداع، المعمار....شواهد على انتصار البقاء على الفناء وأدوات لذلك الانتصار. تفرض الطبيعة والسماء حكمها على الجسد، لكن الروح الإنساني يسمو على المادي ويفرض على الزمن زمنه الخاص: الزمن التاريخي العابر للأجيال والأحقاب ونواميس الفيزيقا، أي زمن الفائض عن أحكام الفناء.
ينتصر الإنساني على البشري، الروحي على المادي، المعنى على حامله المُتعين، فيستولي على عرش البقاء. تراه كذلك في غير صورة وشكل: في فكرة كبيرة تتداولها الأجيال لآلاف السنين؛ في أعمدةٍ ونقوشٍ في معابد حجت إليها أممٌ من الناس بين مُتعبدٍ وسائح؛ في ساحات عامة تنتصب فيها تماثيل البطولة الأسطورية؛ في قصيدةٍ تهتز لها ذائقة الجمال من ألف عام؛ في كتابٍ مرت حروفه من تحت ناظري ملايين الناس...الخ. هو البقاء الخرافي إذن، يمانع العدم ويمنعه، ويجعل معنى الموت نسبياً.
· * *
رحل محمد عابد الجابري...، الذي وُلد في بلدة (فكيك) في الصحراء الشرقية المغربية في خواتيم العام 1935 رحل؛ الذي تعلم وتألم وتكلم وتقلب بين الأمكنة رحل؛ الذي دخل الى المدرسة طفلاً كبيراً رحل؛ الذي تعلم العربية متأخراً ـ خارج البيت وفي المدرسة ـ رحَل؛ الذي انخرط في الحركة الوطنية مبكراً أوائل الخمسينيات من القرن الماضي رحَل؛ الذي امتهن الصحافة في العَلَم والتحرير والمحرر رحل؛ الذي دَرَّس في المدرسة الابتدائية والثانوية، فكان معلما وناظرا ومفتشا رحَل؛ الذي درَّس في الجامعة لثلاثين عاماً وتتلمذ له الآلاف وأشرف على عشرات البحوث والأطروحات رحل.
الذي تدرج في العمل السياسي من مناضلٍ في (حزب الاستقلال) الى عضو في اللجنة الإدارية ل (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية) الى عضوٍ في المكتب السياسي ل (الاتحاد الاشتراكي) رحل؛ الذي كان رفيقاً للمهدي بن بركة وعبد الله إبراهيم والفقيه محمد البصري وعبد الرحمن اليوسفي وعبد الرحيم بو عبيد وعمر بنجلون؛الذي انسحب من قيادة (الاتحاد الاشتراكي) ـ في العام 1981 ـ واستقال من المكتب السياسي لأنه لم ينجح في حل الخلافات الداخلية رحل.
الذي تزوج في مطلع الستينيات وأنجب بنتين وولدين رحل؛ الذي كان يضحك صادقاً ويفيض تواضعاً ويغشاه الغضب النبيل رحل؛ الذي هدّه المرض وأرهقه الضغط الدموي والقلب والشرايين والكِلى رحل؛ الذي تعود أن ينام باكراً ويستيقظ فجراً ويدمن على عاداتٍ في الحياة قديمة رحل؛ الذي اختزنت ذاكرته شعر الجاهليين والقرآن الكريم رحل؛ الذي شاء أن يصبح بعض تلامذته أصدقاءه رحل؛ الذي كان مترفعاً وعفيف اللسان تجاه خصومه والمسيئين إليه رحل؛ ورحل الجسد الذي ما كان له سوى أن يرحل، ولكن التاريخي فيه لم يرحل.
بقي من الراحل ما ليس يرحل؛ ما سيمدد إقامته في التاريخ لمئات السنين. سيقرؤه القادمون الى العالم بعد قرن أو قرنين أو يزيد مثلما قرأنا الشافعي والجاحظ وابن رُشد وابن عربي وابن خلدون ومحمد عبده وطه حسين، فيتعلمون منه مثلما تعلمنا منه ـ نحن معاصريه ـ ويذكرونه بمثل ما نذكره نحن اليوم. وما يدرينا إن كانوا سيتحسرون ـ مثلنا ـ على زمن الجابري مثلما نتحسر اليوم على زمن ابن رشد وابن خلدون!
بقي من الراحل ما ليس يرحل: فكره. وفكره تاريخي لأنه يبني في الأفق البعيد ولا يقيم على حدود الراهن المتغير. فكر النهضة والتقدم والمستقبل هو فكره. فكر النقد والمراجعة وإعادة البناء هو فكره. وهذا النوع من الفكر مديد الوجود لأن قضيته عظيمة وتاريخية لا تقبل الحل السريع. بعد مئتي عام ويزيد لم يتقادم فكر (إيمانويل كانط) النقدي على الرغم من الثورات المعرفية العاصفة التي شهدتها المجتمعات الأوروبية، فكيف لفكر صاحب نقد العقل العربي أن يتقادم في مجتمع وثقافة راكدين ومأزومين!
· * *
محمد عابد الجابري من سلالة النهضويين الكبار، وأحد أهم من حمل على عاتقه مهمة استئناف الهم النهضوي في الوعي العربي المعاصر. لم يكتب في النهضة فحسب، بل كتب فيما أعتقد أنه من مقدماتها وفي جملة شروطها التأسيسية؛ وأهم ما عَدَّه في جملة تلك المقدمات والشروط التأسيسية للنهضة (إعادة قراءة التراث) برؤية علمية موضوعية وإعادةُ بناء صلتنا به على نحو صحي وصحيح يحررنا من سلطته المرجعية ويدخل الموروث تحت سلطة مرجعية جديدة هي (سلطة الحاضر والواقع).
ويتصل هذا الإدراك للتراث عند الفقيد الراحل بِرِهَانٍ لديه على الحداثة والتقدم والنهضة. لكنه رِهانٌ اقتضى منه ـ في الوقت عينه ـ نقد الحداثة الغربية والوعي العربي المشدود الى مرجعيتها من مدخلِ وعي يرى الى الحداثة بوصفها تُبنى من الداخل لا بما هي منظومة جاهزة تُستعارُ من خارج وتفرض على سياقات تاريخية وثقافية واجتماعية باسم الكونية.
وأياً يكن الموقف من جدلية التراث والحداثة في وعي فقيدنا الكبير، فإن الذي لا مراء فيه أنها واحدة من أعمق الجدليات وأخصبها في الفكر العربي المعاصر وأظهرها تأثيراً في أوساط المجتمع الثقافي العربي.
نُشدان النهضة والحداثة ـ عنده ـ لا يكون باطراح الماضي والتراث ونسيانه، وإنما بتحليله ونقده في ضوء المعرفة العلمية المعاصرة ومناهجها الحديثة. ذلك أن نسيانه ـ كموقف معرفي ـ لا يُلغيه ولا يلغي سلطانه في المجتمع والوعي، وإنما يزيد من أسباب ذلك السلطان وترسيخه.
وإذا كان التحرر منه من مقتضيات النهضة والحداثة، فإن التحرر إياه لا يكون إلا معرفيا ومن طريق إعادة وعيه وعياً نقدياً. والوعي النقدي هذا لا يكون، أو لا يكون نقدياً، إلا بتوسل أدوات النقد ووسائله الإيبيستيمولوجية. وقد تكون الإضافة النوعية للجابري في دراسات التراث (هي) في تلك المنظومة من المفاهيم الإيبيستيمولوجية التي استعملها في قراءة الموروث الثقافي العربي الكلاسيكي وتحليله على نحوٍ كرست مشروعه الفكري كواحدٍ من أبرز وأرقى لحظات الوعي النقدي في الفكر العربي المعاصر.
· * *
أوصل الجابري مشروعه النقدي الى ذروته في رباعيته عن نقد العقل العربي ( تكوين العقل العربي، بنية العقل العربي، العقل العربي السياسي، العقل العربي الأخلاقي). انتقل سريعاً من نقد التراث الى نقد العقل، من نقد الفكر الكلاسيكي كمنتوج الى نقد آليات التفكير والمفاهيم الإيبيستيمولوجية الحاكمة: الموضوعة، في الغالب، على هيئة أزواج معرفية.
انتبه في خاتمة كتابه (الخطاب العربي المعاصر) الى العوائق المعرفية التي تمنع العقل العربي من إنتاج المعرفة، وحددها في سُلَطٍ معرفية كابحة كسلطة النص وسلطة النموذج ـ السلف، وعزا أمرها الى انشداد الفكر العربي الى آلية القياس: القياس على مثالٍ سبق (وهي عينها آلية القياس الفقهي التقليدية: قياس الغائب على الشاهد).
لكنه ذهب بالنقد الى أبعد في مشروع نقد العقل العربي مستثمراً مفاهيم جديدة في تحليل الخطاب. كان مشدوداً في كتاباته الأولى (نحن والتراث، والخطاب العربي المعاصر) الى مفاهيم مستقاة من (غاستون باشلار و ريجيس دوبري وآخرين) مثل مفاهيم الأزمة المعرفية، والعوائق الإيبيستيمولوجية، والقطيعة الإيبيستيمولوجية، أما في أجزاء نقد العقل العربي الأربعة، فخطا خطوة أبعد في استعارة مفاهيم جديدة من (سيجموند فرويد وجان لاكان و جان بياجي و ميشيل فوكو وريجيس دوبري وآخرين) مثل: مفاهيم اللاشعور واللاشعور المعرفي والنظام المعرفي والعقل السياسي والتكوين والبنية، محتفظاً بتصنيف إيمانويل كانط للعقل الى عقل نظري وعقل عملي. وهي استعارة وفرت له فرصة مذهلة لتحليل العقل العربي، وفتحت أمامه إمكانيات واسعة للاستنتاج.
ولقد تميز عمل الفقيد الراحل بمرونة منهجية استثنائية، وتحرر من لوثة الاستنساخ والإسقاط في علاقته بالمنظومات المفاهيمية التي استعارها ووظفها في التحليل والنقد.
فإلى أنه لم يبارح الاعتقاد بأن العلاقة بالمنهج؛ أي منهج، ليست عقائدية أو أيديولوجية، وإنما وظيفية أو إجرائية، وأن الموضوع هو الذي يحدد نوع المنهج الذي يناسبه، فقد ظل وفياً لفكرة لم يحِد عنها، ومقتضاها أن العلاقة الأكثر استقامة بمفاهيم الفكر الحديث هي علاقة ( التطويع والتبيئة): تطويع المفاهيم المستعارة على النحو الذي تطابق فيه الموضوع الذي تشتغل عليه، وتبيئتها في الحقل الثقافي والتاريخي العربي على نحو تغتني فيه هي نفسها بعد أن يغتني بها التحليل. وتلك من سجاياه العلمية وإضافاته المعرفية الخلاقة في الفكر العربي المعاصر.
· * * *
رُشديُّ الروح والتفكير كان الفقيد الراحل: عقلانياً وصارماً ومؤمناً أشد الإيمان بقضيته. كان على أبي الوليد ابن رشد في زمنه (قبل ثمانمائة عام ونيف) أن يدافع عن الفلسفة في وجه مناهضيها والناقمين على الفلاسفة. وكان عليه أن يعثر على صلة اتصال بين العقل الإغريقي والوحي من دون توفيق تلفيقي. ولم يفعل حفيد ابن رشد ـ في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحالي ـ غير هذا: قاتل من أجل الفلسفة والعقل، واجتهد ـ ما وسعه الاجتهاد ـ لفك الاشتباك بين التراث والغرب.
وفي لحظة من رشديته المديدة، لم ينس جده في ذكرى رحيله قبل ثمانمائة عام، فتفرغ لبعض أعماله يقرأها ويعيد تقديمها بالإضاءة والتحشية ممارساً وفاءه العلمي (بطريقته) لرجلٍ سكنه وأُخِذَ به وتماهى معه. وإذا كان لأحدٍ فضل إعادة إدخال ابن رشد والرشدية في نسيج فكرنا الحديث، بعد طول انقطاع، فالفضل في ذلك إنما يعود الى حفيده الجابري الذي أرشدنا إليه.
تعلمنا كثيراً من هذا العملاق، وسنظل نتعلم: فهو الذي رحل ولم يرحل.
انتهى
المصدر: مجلة المستقبل العربي/ بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية/ العدد 376/ حزيران ـ يونيو 2010/ لم يُذكر اسم الكاتب.