برحيل العلاّمة عمر الأشقر أبي سليمان :


قد ثلِمَتْ من الإسلام ثلمة !


بات من المسلّمات البدهيّة أنّ الموت نهاية كلّ حيّ ، وغدا من مسلّمات العقول السّويّة أنّ تلكم النهاية إنما هي نهاية جسديّة ، يغيب فيها الجَسَد ، لكن الفكر السديد والنهج الرشيد الذي خلّفته تلكم النفوس العليّة يظل في أجيال الأمّة يتجسدّ ، وهيهات هيهات أن تندرس معالمه في نفوس ناشئتها الجُدد أو تخبو فتتبدّد !
وكذا حسن السلوك والأثر ، فهو لا يأفل مع مَن أفل جسدُه وغبَر ، شأنه في ذلك شأن الروح ؛ لا تموت ، بل تشقّ روح الأبرار إلى باريها السبيل لتجد عنده المستقر، وذلك مَثلُ السلوك الخيّر فهو يورث الذّكر النيّر ؛ إذ يشقّ سبيله إلى عقول البشر ! فيستقرّ في أذهانهم ويسري في وجدانهم ، ليكون مناراً لهم يهديهم سبلهم ويدرأ عنهم الضرّ والغرر ! وفي هذا السياق يواسيك قولُ القائل :
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم ... وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ
وإذا كان شاعرنا العربيّ يقرّر قائلاً :
كم رَجُلٍ يُعَـدّ بألف رجل ... وكم رجالٍ يمرّون بلا تعداد !
فإننا بلسان الإنصاف نقرّر قائلين : فما ظنّك برجل أعدّ آلاف الرّجال ممّن استقوا من معين فكره ، وشربوا من نهر علمه ، أعدّهم لإعزاز الأمّة ، ورفع الغمّة ، وإيقاظ العزيمة والهمّة ؟!
وما أجمل ما طالعنا به شاعر آخر بقوله :
لعمرك ما الرزية فقدُ مالٍ ... ولا شاة تموت ولا بعيُر


ولكنّ الرزيــــة فقد حُرّ ... يمــــوت بموته خلْق كثيرُ !
أجل فـقـْدُ حرّ : فهذا هو المدخل المُنصِف ، لتسليط الضوء على سيرة ذلكم العالم الجليل المُتحِف ؛ الذي أتحف جموع الأمّة بأصالة فكره المهذّب ، واستقامة سلوكه المشذّب، وجودة عطائه العلميّ الذي لا يتوقّف !
فقد كان يرحمه الله تعالى حرّاً في فكره : إذ استضاء فكره بنور التوحيد ،وطفق يبصّر به العبيد ، ليحرّر بذا فكرهم من كلّ غبش في التصوّر !
وكان حرّاً في شعوره : حين اصطبغ شعوره بصبغة العزّة الإيمانية والاستعلاء الإيماني ، فاستعلى عن كلّ منصب ظاهر ، وانحاز يهذب لدى الآخرين المقاصد والمشاعر ، فكان أن صانهم عن كلّ تميّع في القيم وتأرجح في المشاعر والعواطف ! فأثمر عطاؤه فيهم حين محّصتهم المواقـف !
وكان حرّاً في سلوكه : حين احترز بورعه عن كلّ شبهة ، واحتمى برسوخ إيمانه من كلّ شهوة ، شهوة المنصب والجاه ، فلم يشرئبّ عنقه إلى جاه ولا سلطان ، فتحرّر بذا سلوكه من كل ّ دخن !
ومن عظيم خصال ذلكم العالم النحرير الحرّ : أنه بنظرته الثاقبة احترز للأمّة من بعده من أن تموت فيها جموعٌ بموته ، فكان أن زرع فيها رجالا أسوياء ، بالإيمان أقوياء ، بالحقّ كرماء ، ما لانت لهم في خضمّ الشدائد قناة ، ولا طأطأت لهم هامّة ، بل ظلوا رغم العواصف والمحن شامخي القامَة ، ينفضون عن أمّتهم الوهن والسىآمة ، فهو بذا قد استنسخ جيلاُ دعوياً ربانيّاً ، لا تأخذه في الحقّ لومة لائم ! فكان ذلك خير استثمار له يلقى به ربّه ، ويعظم به ويستمرّ جرّاءه عند الله أجرُه !
وإذا كان ذلك كذلك فإنّ قول القائل :

إذا ما مات ذو علم وتقوى ... فقد ثلمت من الإسلام ثلمة !
فإنّ الله تعالى سيقينا تبعات هذه الثلمة إن نحن استقمنا على ما استقام عليه علماؤنا الرّاحلون ، فعشنا على ما عاشوا عليه ، ومتنا على ما ماتوا عليه !وفي طليعة أولئكم الأبرار فقيد الأمّة عالُمها الجليلُ عمر الأشقر أبو سليمان ... فسلام عليك أبا سليمان في زمرة الصّادقين ، وعليك شآبيب رحمة الله ربّ العالمين !!