المـداعـبة
أصيل الشابي
كان الرسام حينما يريد العمل يبتعد عن الآخرين وأوّلهم زوجته، وكانت الزوجة تعرف تلك الأوقات وتكرهها بدافع الغيرة العمياء، في تلك الأيّام يقف على الجسر ويتأمّل من بعيد البلدة الموريسكيّة، وكانت البلدة بالنسبة إلى زوجة الرسام امرأة في أوج زينتها، امرأة أخرى تقوم بإغوائه بالنقر على قلبه والقفز في ذهنه، لهذا كانت تحاول إغراءه بوسائلها الخاصّة، وذلك بعد أن جعلتها صديقتها تعتقد أنّها قادرة على إغوائه.
كان الرسّام وهو يتنقل إلى الجسر مترجّلا يبدو لبعضهم من هواة المشي، فيما تصوّره آخرون صاحب بستان من البساتين الكثيرة التي تحيط بالبلدة، ولكنّ ذلك الماشي المحترم الذي هو الرسّام نفسه بمجرّد وصوله إلى الجسر وبسطه لروقته البيضاء أمامه يكون قد احتوى في العيون المختلفة الظاهرة أو المحتجبة على صورة شاعر له شعر يتدلّى من الخلف أو مهندس متأمّل أو ربّما رسّام تخطف البلدة انتباهه في كلّ مرّة كأنّه ينظر إليها للمرّة الأولى، كانت أزقّتها ترتفع من جهة الوادي في التواء، وحينما كان يحدّق أمامه كان يبصر قبابها البيضاء التي تذكّره دائما بشيء لا يمكنه التعبير عنه بوضوح وسطوحها القرميديّة المشرقة، وكان آنئذ يتلذّذ، بجعلها بين راحتيه في دائرة شبيهة من فرط إشراقها بالشمس الصغيرة حيث الأزرق والأبيض يتراقصان، كان ذهن الرسام وهو على الجسر في ذروة الجموح، بينما كانت المياه تمرّ من تحته بغزارة وهيبة وكأنّها تخترق جسده المعلّق.
كانت صديقة زوجة الرسّام قد قالت إنّ زوجها يقول الشعر، ولكنّه قال فيها عشرات الأبيات التي نشرت في الجرائد والمجلاّت، وسبق بالفعل لزوجة الرسّام أن قرأت كلمات ذلك الزوج : " إلى حبيبتي سارة، أو إلى حبيبتي الأبديّة سارة " وكان الرسّام قد سمع بذلك ورأى في الشاعر شخصا يقوم بنفاق امرأة تعيش معه لأنّ النفاق قد فرض نفسه عليه، فيما اعتقدت زوجة الشاعر أنّها هي ملهمته، وأنّ الشاعر بسبب ذلك وبطريقة من الطرق من إنجاب المرأة التي تلهمه باستمرار، وهكذا نشأت لدى زوجة الرسّام الغيرة المضاعفة من زوجة الشاعر ومن مواضيع الرسّام التي يستلهمها، وكان يبدو أنّها تفكّر في الوصول إلى حيث ينبغي أن تكون مرئيّة بالمعنى الفنّي.
كان الرسّام يعرف أنّ زوجة محاطة بنار الغيرة، وكان يعرف أكثر من ذلك أنّ تلك الغيرة تحيط به هو أيضا من كلّ النّواحي، ولذا كان من الأفضل الابتعاد للشعور ببعض الهدوء، وكانت سارّة تقول : " إنّ غيرة المرأة ينبغي أن تكون مقنّعة، وإلاّ صارت ضحيّة لعواطفها الهائجة ".
في وحدته على الجسر، وبعيدا عن تلك الغيرة كان يفتح يديه مثل جناحين ويصنع براحتيه دائرة مضيئة تستقرّ داخلها البلدة، هناك سيّارات تمرّ خلفه مخلّفة ضجّة مؤذية في جمجمته، الدائرة المضيئة بالأبيض والأزرق، هناك بناء أندلسيّ محلّى بنوافذ خارجيّة لا يمكن رسمه من تلك المسافة، كان يبصر مجموعة كاملة صامدة إلى فوق، مجموعة محميّة من الهواء البارد هندسيّا، لقد حماها بناتها الأوائل بجعل البرودة تتكسّر وهي صاعدة إلى فوق في التواء مميت، وهكذا كانت البرودة تتحوّل بالحيلة إلى دفء صناعي.
عند عودته إلى البيت كانت الحمرة تغطّي بياض عينيه، رأت على الورقة التي نشرها أمامه في غرفة الجلوس لطخا مضحكة، تفرّجت على الرسم، كانت تكتم الضحك، وكان الرسّام يقرأ انطباعاتها السلبيّة، وكانت الحمرة في عينيها شبيهة بالشبكة الدمويّة، رقصت عيناها فوق عينيه، كانت هناك فجأة فرحة داخليّة قد بدأت تسبح في جسدها تحاول جذبه إليها، تحاول احتواءه بقوّة، حاولت الاقتراب منه أكثر فأكثر، وشعر الرسّام بجسده ينزلق خارج صلابته بفعل قوّة الجاذبيّة، ثمّ كان بعد ذلك أن شعر الجسد بالرخاوة، ثمّ .. بالذوبان، ثمّ في مرحلة تالية أصبح جسد الرسّام مثل جسد طفل تجبره أمّه على الطاعة الإذعان، وقالت له فجأة بنوع من الغضب : " ارسم وجهي الجميل " وكان على الطفل أن يسمع الكلمات وأن يستجيب لما تقوله.
شعر بالضغط الذي أخذت تمارسه عليه، وتذكّر الشاعر الذي يقول لزوجته أحبّك ألف مرّة في اليوم، وكانت إذّاك ترتسم في مخيّلته صورة النفاق المرفرف عاليا، وتساءل عمّا إذا كانت زوجة الشاعر تدرك ذلك أم لا، غير أنّ المسألة لم تغيّر تأكده من الهيمنة التي كانت تتمتّع بها إلى درجة أنّ الشعر لا يتجاوزها رغم أجنحته العملاقة.
نظر الرسّام لزوجته وقال : " لا يمكن الرسم آليّا " كانت إجابته ساذجة، فقالت له : " إنّنا نقوم بكلّ أعمالنا بطريقة آليّة والرسم عمل، مجرّد عمل ينتجه العقل " كان الرسام يشعر بأنّ جسده يروّض باستمرار، وكان يعتقد أنّ الشاعر هو من حرّض عليه زوجته وأنّه حوّل من حيث لا يشعر الفنّ إلى مداعبة، واستنتج من ثمّ أنّه كان في الواقع قليل المداعبة لزوجته.
كانت بالفعل تنقص الرسّام المداعبة، وهو ما جعله يعتقد دائما أنّ الحزن أكثر شساعة لديه، ولكنّه تذكّر أنّ ذلك الحزن هو ما جعل زوجته تقع في حبّه إذ كان بالصدفة في ذلك الوقت الرجال الحزينون هم الأكثر جلبا للانتباه، وربّما كانت المرأة تعتقد أنّ الحزن ليس سوى قناع وراءه الكثير من البهجة التي لم تبتذل ولم تستعمل طويلا، البهجة التي تنتظر في كبرياء، كانت مشكلة الزوجة واضحة آنئذ فما كان لها كما اعتقد أن ترتبط برجل بدا لها حزينا في الظاهر، رجل كانت صورة البلدة الموريسكيّة التي ترعرع فيها طاغية على فكره، فكان يريد الوصول إلى ما سمّاه بيكاسو " Le dernier coup de peintre " ذلك الفعل الذي بفضله يتحوّل المكان إلى منحوتة شخصيّة، ولم تكن فكرة مداعبة زوجته لتخطر على باله في أثناء ذلك إطلاقا، كان يريد أن يستمرّ في ذلك بلا تردّد بينما كانت هي تطلب تحقيق رغبتها في أن تكون ملهمة مثل البلدة القديمة.
يقف أحيانا في تلك الفترة على الجسر، يقترب منه أشخاص يجدون عمله غريبا، ويشعر هو أحيانا باحتقارهم حين يمرّون حذوه دون أدنى كلمة وكأنّه غير موجود، يتخيّل كيف أنّه لو كان بصدد رسم زوجته لكان اقترابها وحدها يكفي للتعبير عن اقتراب جميع الناس منه تماما كما أنّ اقتراب زوجة الشاعر من الشاعر جعل الشعر قريبا من السيّدات.
وإذ لم تصب الغيرة الرسّام في المكان الذي ينبغي أن تصيبه فيه، فإنّ زوجته كانت خائفة، ثمّ كانت حزينة بفعل الخوف، ولكنّها أحسّت أنّه يفكّر بها، كان بالفعل قد تأمّل وجهها وأنعشها بكلمات رنّانة، فقد شعر بخوفها كما شعر بالنفور من الحزن، لهذا قال لها : " لا تحزني " ابتهجت ابتهاجا خفيفا مغلّفا بالحزن، وبسبب ذلك لم تكن حاضرة معه حضورا كاملا، فكّر في أنّ المرأة لا تكون امرأة حقيقيّة إلاّ حينما تكون حاضرة حضورا كاملا.
كان يتقدّم نحوها بعزيمة مخترقا حزنها، وكانت زوجة الرسّام آنئذ في أكمل بهجتها، وكان الرسّام قد تأكّد من حضورها في تلك المرّة، لذلك تقدّمت هي الأخرى نحوه وحاولت ضمّه إليه كما تضمّ أيّة زوجة زوجها، وحينما كانت تضمّه كما تضمّ حبيبة حبيبها توهّجت في ذهنه فكرة لم تكن واضحة تمام الوضوح إلاّ حينما قال الطفل الذي في الرسّام لأمّه : " لا تحزني " تكلّمت وكان الرسّام شارد الذهن، عيناه تتبعان أشياء بعيدة وعالية وملوّنة كالقباب أو كالبيوت أو كالبلدة الموريسكيّة، كانت تريد أن تقول له : " إنّها تودّ أن تلعب معه الورق " ولم تكن تعرف الرسّام الذي تحوّل إلى طفل من كثرة الترويض لا يتقن لعب الورق، كان الطفل في مكان آخر داخليّ يرسم في مخيّلته صورة الأم التي تداعبه باستمرار، وكان الرسام يقاوم قلبه الثائر بصعوبة وهو يتوقّع بين لحظة وأخرى سقوط عزلته تاركة المجال لتلك الفكرة، فكرة المداعبة.