لعبة الرقص بالعصا اخترعها الفراعنة وتوارثتها الأجيال
تاريخ النشر : 2010-07-28
غزة - دنيا الوطن
مبارزة بالعصا على أنغام المزمار بين شخصين، حولهما دائرة من المشجعين يتابعون حركاتهما بدقة، ينتظرون اللحظة التي يستطيع أحدهما إسقاط العصا من يد الآخر حتى يعلنوا فوزه والاحتفاء به.
هذا هو المشهد المتكرر للعبة «التحطيب» أو الرقص بالعصا، المعروفة في أنحاء مصر، إلا أنها تنتشر بكثرة في محافظات الصعيد، حيث يولع بها أبناء الجنوب. ومن يتابع الأفلام القديمة أو الدراما المصرية فلا شك أنه تعرف على هذه اللعبة الشعبية التي يبحث عنها الهواة والمحترفون في الموالد أو الأفراح، ويذهبون وراءها في أي مكان لإشباع رغبتهم في ممارستها، كما شكلت مفردة أساسية في بعض لوحات الفنانين التشكيليين.
اللعبة تعود إلى عصر الفراعنة، وهي من الألعاب التي تشجع على الفروسية والمهارة في القتال، فهي ليست، كما يظن البعض، تقتصر على مجرد الإمساك بالعصا والوقوف أمام الخصم لمبارزته، بل لها قواعدها وأصولها الصارمة التي لا بد من تعلمها جيدا قبل حمل العصا، فعدم التعرف على قواعد وأصول هذه اللعبة التاريخية من الممكن أن يعرض الشخص للسخرية من الآخرين، وقد تصل في بعض الأحيان للقتل.
محمود الدسوقي، الباحث في التراث الصعيدي يتحدث لـ«الشرق الأوسط» عن اللعبة وقواعدها قائلا: «لعبة العصا (التحطيب) لعبة قديمة يرجع تاريخها إلى الفراعنة، والدليل على ذلك وجودها في النقوش على جدران المعابد، فقد اكتشف علماء الآثار صورا كثيرة تعبر عن أشخاص يتبارزون بالعصي كرياضة، لكن العصا التي استخدمها قدماء المصريين كانت مصنوعة من نبات البردي المعجون حتى لا تكون مؤذية، إلا أن مثيلتها التي استخدمت في مراحل أخرى متأخرة من التاريخ وحتى الآن أكثر صلابة وأكثر إيذاء، لدرجة أنها تتسبب في وفاة بعضهم داخل حلبة التحطيب، وفي تلك الحالات لا يجوز لأهل المتوفى المطالبة بثأره، أو حتى ديته، وذلك على نقيض حالات القتل الأخرى».
ويشير الدكتور حسام الدين محسب، أستاذ الرقص الشعبي في المعهد العالي للفنون الشعبية، في كتابه «التحطيب في الصعيد وتعليمه» إلى أن التحطيب من فوق ظهور الخيل ما زال محتفظا بكيانه حتى الآن، وكثيرا ما تقام حلقات لرقص الخيل، والتحطيب ابتهاجا بإقامة زفة عرس، أو احتفالا بذكرى مولد أحد أولياء الله الصالحين، أو للاحتفال بجني المحصول، حيث يتبارى الفرسان والخيالة في إظهار بطولاتهم، وشجاعتهم، ويتفننون في أساليب الكر، والفر، والنزال، ويعتمد ذلك على ذكاء الفارس، وقوة صبر الحصان عند الاحتدام والنزال.
مضيفا أن رقص الخيل يحتاج إلى خيول أصيلة لديها الاستعداد لأداء الرقصات على أنغام المزمار، وللخيل أشكال مختلفة من الرقص يحددها ميول الحصان، وتكوينه، واستعداده، وتقبله للمران على نوع معين من التشكيلات المتعددة الإيقاعات. ويظهر رقص الخيل مدى تمكن الفارس من حصانه، والسيطرة عليه، وتفاهمه معه، ومدى طاعة الحصان في تأدية كل ما يطلب منه بمرونة، ورغبة في الرقص والأداء.
تبدأ اللعبة بتكوين حلقة دائرية من المتفرجين من جميع الاتجاهات في وضع الجلوس على الأرض أو الوقوف، ويقوم عازفو المزمار البلدي باختيار مكان متميز لهم على جانب الحلقة لسببين؛ الأول أن العصا لا بد أن تبدأ على أنغام المزمار، والثاني لكي يقوموا بعملية جمع الأموال من الأطراف الراغبة في اللعب، ويكون بداخل الحلقة مُحكّم يفصل بين المتخاصمين في حالة حدوث مشاجرة أو اختلاف بينهما، ثم يبدأ المبارز (أو الفارس) أولا بالتحية والسلام لمنافسه برموز وحركات معينة باستخدام العصا، ويستمران في المبارزة، وفي النهاية بعد فوز أحدهما يتعانق اللاعبان، ويشارك الجمهور الفائز في الرقص على أنغام المزمار، وهكذا تسهم اللعبة في إضفاء جو من البهجة والمرح على كل المتفرجين الذين يأتون أيضا من قرى بعيدة لمشاهدة هذه اللعبة الفريدة، وهناك شرط أساسي لا بد من الالتزام به لدخول حلقة المنافسة في هذه اللعبة وهو ارتداء الجلباب الصعيدي الشعبي، ومن دونه لا يمكن لأي شخص أن يشارك في اللعبة.
ويوضح الدسوقي أن حركات العصا والتلويح بها لا تكون عشوائية، فعندما يريد الفارس صد عصا المنافس تكون العصا في وضع أفقي، وعندما تكون حركة القدم الأولى للإمام تسمى «مارش أمامي» وللخلف تسمى «مارش خلفي»، والخطوة أو الحركة التي يخطوها الفارس تكون محسوبة دائما وليست عفوية، فالعودة للخلف بالظهر لخارج الحلبة تحسب نقطة على الفارس لصالح خصمه، أما ضربة الرأس فتحسب بثلاث نقاط، بينما تساوي الضربة على الجزء الأوسط من الجسم نقطتين، أما الضرب على الساق فيحقق نقطة واحدة، وعندما يستطيع أحد الخصمين إسقاط العصا من يد الآخر بالضغط عليه فإن ذلك يعني فوزه.
«العصا هي محور التحطيب، والأداة الأساسية التي لا يمكن أن تبدأ اللعبة من دونها»، هذا ما يوضحه الشاب الصعيدي أشرف شحاتة، مضيفا أن العصا أداة ورمز، لها جذورها في الموروث الديني والشعبي، خاصة عند أهل الصعيد، فقد تم ذكرها في القرآن الكريم في قوله تعالى: (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى)، كما أن للعصا أشكالا وأصنافا واستخدامات متعددة، لكن تشتهر في التحطيب باسم «الشومة» حيث تتسم بالصلابة وصعوبة الكسر، ويؤدي استخدامها في الضرب إلى القتل - أحيانا - ولكن نادرا ما يحدث أي أذى لأي من المتبارزين إلا إذا كانت هناك عداوة مبيتة عند أحد الطرفين، وبخلاف التحطيب فقد اعتاد أهل الصعيد والفلاحون استخدام الشومة في أنشطة كثيرة في حياتهم، ربما لأنهم يتجولون في حقولهم ليلا ويحتاجونها للحماية من الذئاب والحيوانات الضارة، أو لانتشار الثأر في تلك المنطقة، مما حتم استخدامها كوسيلة للدفاع عن الذات.
أبو زيد حسانين، أحد محترفي هذه اللعبة في صعيد مصر، يقول: «لعبة التحطيب تعلم الإنسان الصبر والمروءة والجرأة والشهامة، وهناك قيم أخرى كثيرة، لأنها ليست مجرد لعبة عادية، إنما هي فن في البداية، فلا بد لمتعلم التحطيب أن يجيد فنون التعامل مع الآخرين، ويتمتع بذكاء يمكنه من الانتصار على خصمه، كما أنها تتطلب قوة بدنية وجسمانية تمكن المبارز من الإمساك بالعصا جيدا وبقوة حتى لا تقع من يده ويكون مثار سخرية من المشاهدين، لكن وللأسف بدأت اللعبة في الفترة الأخيرة في الانقراض والاندثار في كثير من قرى الصعيد، ومن أجلها أضطر للذهاب إلى الموالد والأفراح في أي مكان لأشبع رغبتي في ممارستها، وعلى الرغم من التكاليف وتعب السفر فإنني لا أستطيع الاستغناء عنها أو نسيانها لأنني أعشقها بجنون».
ويتمنى أبو زيد أن يكون للعبة التحطيب مهرجان أو احتفال سنوي يتم تنظيمه من قبل الجهات الرسمية في مصر في ظل عدم الاهتمام بهذه اللعبة التي ما زالت تصر على التواجد على الرغم من ندرة محترفيها، وتدعى إليه جميع وسائل الإعلام بعد أن اقتصر التعريف بها على بعض المسلسلات التلفزيونية التي تدور أحداثها على أرض الصعيد، ففي رأيه أن هذا سيوفر دعاية عالمية للعبة التحطيب العريقة يمكن الاستفادة منها سياحيا
http://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2010/07/28/152129.html