كان التلميذ ذي التسع سنوات يجلس في المقعد الخلفي من الصف ويمضغُ شيئا.


انتبه إليه المعلم فأشار إليه بأن يتوقف عن المضغ.


توقف التلميذ لحظة، لكنه استغلَّ غفلةَ المعلم، وعاد يمضغُ مستمتعا بما يمضغُه، إلى أن انتبه إليه المعلم من جديد.


وبَّخه المعلم بشدة، وطلب منه هذه المرة أن يتَّجِهَ إلى سَلَّة القمامة ويبصق فيها ما كان يمضغُه.


توقف التلميذ عن المضغ عسى أن يشفعَ له ذلك عند المعلم فيتراجع عن طلبه.


لم تُعْجِب الأستاذ ردةَ فعل التلميذ، واعتبرها تحايلا عليه.


انتظر لحظة، وعندما تأكَّدَ من أنه لا ينوي الاستجابة لطلبه، تقدم نحوه بهدوء.


التلميذ يشعر بارتباك وقلق وخوف.


ويبدو كمن يخشى على أن يفقدَ ما في فمه، مثيرا اندهاش الجميع معلما وتلاميذ.


ثم يتشنَّجُ فكاه فيما بدا أنه يضغط على أسنانه حفاظا على ما كان يمضغه من أوامر المعلم، وكأنه يستعد لمقاومة أيَّ محاولة لإجباره على فتح فمه وبصق ما كان يمضغه.


وصل المعلم عند التلميذ وأعاد طلَبَه.


تواصل صمت التلميذ وتشبُّثُه بما في فمه.


انتبه المعلم إلى تشبثه بما في فمه بشكل غريب.


عندئذ سحبه من يده وجرَّه إلى سلَّة القمامة، ولما وصلها أمره بأن يبصق ما في فمه.


التلميذ يغالب البكاء محاولا المحافظة على ما في فمه من الضياع، وكأنه يحتفظ بكنز.


المعلم يواصل الضغط على التلميذ ويصرخ في وجهه.


التلميذ يُصِرُّ على موقفه بصمت حزين، وبنظرات إلى المعلم مليئة باستجداءٍ أسال دمعَ جميع التلاميذ.


ثم بدأ يبكي وهو مغلق الفم بشكل أظهر محاولاتِه في عدم السماح لبكائه بإجبار ما في فمه على الإفلات، وكأنها محاولات فدائي يستعدُّ لعملية انتحارية.


المعلم يشعر بالحيرة الشديدة، ويصاب بغيظ أشد، ثم يصفع الطفل الذي ازداد بكاؤه.


لم يتمكن الطفل من الاحتفاظ بما في فمه، فأفلت منه إلى سلَّة القمامة، دون أن يتمكن الأستاذ من معرفته.


ثم عاد التلميذ إلى مقعده باكيا منتحبا شاعرا بفقد عزيز.


لم يتوقف الطفل عن النحيب طوال الحصة على نحوٍ وتَّر المعلم، وأثار تعاطفَ التلاميذ جميعهم، وسط حيرة ألمَّت بالكل راحت تتحول إلى نوع من التعامل مع الحالة بقداسة غير مفهومة.


في نهاية الحصة، وبعد أن خرج التلاميذ جميعا بمن فيهم الطفل الذي كان ما يزال ينتحب، دفع الفضولُ المعلِّمَ ليلقيَ نظرة إلى السلَّة، فوجد قطعةً من اللحم.


استغرب أن ما كان الطفل يمضغه هو قطعة من اللحم.


لكنه ارتاع كثيرا عندما علم فيما بعد، أنها كانت مُتْعَة بالنسبة لطفل يتيم كانت أمه الأرملة تنتظر عيد الأضحى كي تتمكَّنَ من الحصول على قطعة لحم من المحسنين ليتمكن هو وإخوته من تَذَوُّقِها والتعرف على طعمها الذي قلَّ ما جرَّبوه.


(هذه الحادثة حقيقية وحصلت عام 1968 في صفٍّ مدرسي في مدينة وهران بالجزائر، كنت أنا أحد تلاميذه، حادثة لن أنساها ما حييت، وكان الطفل أحد زملائي الذين لا أعرف مصيره الآن، وهو ابن شهيد جزائري قضى إلى ربه في حرب التحرير عندما كانت أمه حامل فيه.. نعم، الوالد يستشهد في سبيل الجزائر وفي سبيل شعب الجزائر، والأم تعيش أرملة وتعمل خادمة في البيوت لإعالة أبنائها، وابن الشهيد لا يعرف طعم اللحم، وينتظر عيد الأضحى كي يتذَوَّقَه بمضغِه لمدة ساعات.. أذكر أنني كرهت اللحم منذ تلك الحادثة، وأصبح والداي يجبراني على أكله رغما عني بسبب حاجة جسمي له وأنا طفل، وكنت أتهرَّب من ذلك بدفع قطعِ اللحم وإخفائها تحت الأطباق على المائدة كي لا آكلَها.. ولست أدري كيف عدت لأكل اللحم في سن متقدمة.. ولأن العود لم يكن أحمد على ما يبدو، وكان فيه خذلان لزميلي الذي لا أعرف عنه شيئا منذ 45 عاما، فقد أجبرني القدر إلى احتضان هذه الذكرى المؤلمة، عندما أصابني مرض النقرس منذ سنوات، ليعود اللحم ويكاد يختفي من حياتي مجددا).


أرجو ألا يسألي أحد لماذا تذكرت هذه القصة، فقد تذكرتها، وكفى بما يحدث لنا في هذا الوطن المنكوب، ما يدعو إلى تذكُّرِ كلِّ مآسينا (!!)