الفكر السياسي عند ابن خلدون
لاأدري صاحبه سوى نقل من صفحة:
Harfouche Madani

يعد ابن خلدون قمة من قمم الفكر الإسلامي فهو أوّل من استطاع أن يستخلص السياسة من الاعتبارات الدينية(1)، كما أنه أول من أدخل مبدأ العلمية الطبيعية في دراسة الظواهر التاريخية والسياسية والاجتماعية، وحاول استخلاص القوانين الطبيعية التي تحكم قيام الدولة وزوالها وحاول وضع الدولة في إطارها الحضاري(2) منطلقاً من المدن الواقعية التي عرفها وعاش فيها لا من المدن الطوباوية، ومن الأحداث التي سايرها وعرفها، وليس من الخيال. فلقد استقرأ واقعه ملتزماً بالمنهج العلمي، وجعل السياسة موضوعاً لعلم نظري بعدما كانت هزيلة في حركة المسلمين العلمية(3). تقسم إلى ثلاثة أقسام “يسمى أولها بالخلق وموضوعه تحديد العلاقة بين السلطان والرعية والثاني عملي ويحدد تصرف الحكومة نحو الأفراد فيما يتعلق بالمسائل العامة ويتعلق بالتشريع، والثالث نظري ويختص بنظام الخلافة، وضروريتها وأساسها من الدين والعقل. ومختلف آراء المسلمين في وراثة السلطة في أسر الخلفاء واحتمال وجود خليفتين ويكون ذلك جزءاً من علم الكلام(4). وكذلك يُعدّ ابن خلدون رائداً في الفكر العالمي، حقق ثورة في جميع مناهج العلوم الإنسانية(5) ووضع الكثير من العلوم، منها: التاريخ، وفلسفة التاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد وعلم الاقتصاد السياسي وعلم النفس السياسي(6).وُلد عبد الرحمن ابن خلدون في تونس (732هـ ـ 1332م) في وسط ثقافي إسلامي عريق في وقت كانت شمس الحضارة العربية الإسلامية في أفول، وهو سليل أسرة من أعرق الأسر العربية اليمنية في حضرموت، كانت قد نزحت إلى الأندلس منذ الفتح وخرجت من إشبيلية إلى اتجاه تونس لما أدركت حتميّة سقوطها الذي تمّ فعلاً في (646هـ ـ 1248م)(7). عاش متنقلاً ما بين بلاد المغرب والأندلس ومصر والشّام والحجاز، اعتلى مناصب مختلفة، ما بين كاتب وقاض ومعلم ووزير، تكبّد عظام المصائب وتعايش مع بيئة سياسية قلقة مضطربة، مما زاده حنكة وتجربة وجلادة وإدراكاً، أشعره أن التاريخ الحضاري والسياسي للدول الإسلامية يميل نحو المغيب وأن الزعامة والتفوق والقوة انتقلت نحو الشمال؛ إلى الضفة الشمالية من البحر التي ستسحب البساط ثم تغزو الأراضي الإسلامية. لقد كان لابن خلدون “نظرة تنبئيّة تفسر أسباب الكولونيالية التي تمت في القرن التاسع عشر(8).انزوى ابن خلدون في قلعة بني سلامة[1] لمدة أربعة أعوام من (776هـ ـ 1375م) إلى (780هـ ـ 1379م)، متخلياً عن الشواغل كلها وكتب “المقدمة” التي تعتبر دائرة للمعارف(9)، جاءت في صيغة تأليفية لم يترك فيها ظاهرة إلا وأتى على تفصيلها من حيث أسباب نشأتها، ومراحل تطورها، ومدى خطورتها في العمران وفي شؤون المجتمع، سواء أكان ذلك في الميادين السياسية وشؤون الإدارة ومرافق الحياة وأسباب المعاش أم في اختلاف المذاهب وتباين الأخلاق وأصناف العلوم وتنوّع الفنون(10) “فابن خلدون ـ كما ذكر توينبي في كتابه دراسة التاريخ ـ قد أنتج أعظم كتاب من نوعه أبدعه إنساني في كل زمان ومكان”(11).لقد حوت المقدمة أفكار ابن خلدون السياسي التي سنحاول حصرها فيما يلي:يرى ابن خلدون أن الاجتماع الإنساني ضروري وأن الحكماء قد عبروا عن هذا بقولهم: “الإنسان مدني بالطبع”(12)، فلقد اتفق في هذا الرأي مع أفلاطون(13) وأرسطو(14)، وردد بعض حججهم، بل واتفق أيضاً مع الفارابي(15)، وابن الربيع(16) اللذين سارا على المنهج اليوناني مبيّناً: “… أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من الغذاء غير موفية لـه بمادة حياته منه ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلاً، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري. هب أنه يأكله حباً من غير علاج، فهو أيضاً يحتاج في تحصيله حباً إلى أعمال أخرى أكثر من هذه، الزراعة والحصادة والدارس الذي يخرج الحبّ من غلاف السنبل، ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير، ويستحيل أن توفي بذلك كله أو بعضه قدرة واحدة فلابد من اجتماع القدرة الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت لـه ولهم فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم لأضعاف.وهذا التعاون عنده ليس فقط لتسهيل الحياة بل لاستمرارها وبقاء الجنس البشري و”ما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل لـه قوت ولا غذاء ولا تتم حياته، لما ركّبه الله تعالى عليه من الحاجة إلى الغذاء في حياته ولا يحصل لـه أيضاً دفاع عن نفسه لفقدان السلاح فيكون فريسة للحيوانات ويعاجله الهلاك عن مدى حياته، ويبطل نوع البشر”(18).


غير أن ابن خلدون اختص وتميّز عن حكماء اليونان ومن تابعهم بأنه رأى أن هذا التعاون والتجمع بين الناس، لا يحصل إلا بالإكراه الذي يأتي من الدولة التي تقوم على الصالح العام لإدراكها لـه ومعرفتها به، وإلا سيصبح سلوك الإنسان حيوانياً، يأكل القوي الضعيف. يقول ابن خلدون موضحاً ذلك “… فلابدّ من وازع يدفع بعضهم عن بعض، لِمَا في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم… فلابدّ من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض… ويكون الوازع واحداً منهم يكون لـه عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان، وهذا هو الملك”(19). كما يقول أيضاً في فصل “إن السعادة والكسب إنما تحصل غالباً لأهل الخضوع والتملق وأن هذا الخلق من أسباب السعادة”، “… ثم إن هذا التعاون لا يحصل إلا بالإكراه عليه لجهلهم في الأكثر بمصالح النوع، ولما جعل أهم من الاختيار… وقد يمتنع من المعاونة فيتعين حمله عليها، فلابدّ من حامل يكره أبناء النوّع على مصالحهم، لتتم الحكمة الإلهية في بقاء هذا النوع”(20).يبدو أن نظرية إكراه الدولة على التعاون قد تشابهت كثيراً مع نظرية هيجل (1770/ 1831م) القائلة إن الدولة وحدها هي المُدركة للصالح الحقيقي للشعب، ومن ثمَّ فإرادتها هي الواجب فرضها من فوق إلى تحت(21).وعلى الرغم من أن ابن خلدون رأى أن الدولة لها خاصية الإكراه، فإن هذا الإكراه ـ الذي رآه ـ يعدّ إيجابياً، إذ يحمل الناس على التعاون وعلى الاستمرار، ولم يفته أبداً التركيز على الأخلاق، بل إنه ربط بين السياسة والأخلاق، فالأخلاق تكسب الدولة القوة، وزوالها سبب للضعف والانهيار. “… اعلم أن الدنيا وأحوالها كلها عند الشارع مطية للآخرة ومن فقد المطية، فقد الوصول، وليس مراده فيما ينتهي عنه أو يضمّه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه إهماله بالكلية، أو إقلاعه من أصله وتعطيل القوى التي نشأ عليها بالكلية إنما قصده تصريفها في أغراض الحق جهد استطاعه حتى تصير المقاصد كلّها حقاً، وتتحد الوجهة…”(22). كما ربط ابن خلدون بين حسن الملكة والرفق وبين الظلم وخراب الدول الحتمي”… فإن الملك إذا كان قاهراً باطشاً بالعقوبات، منقباً عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم شملهم الخوف والذل ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة فتخلقوا بما فسدت بصائرهم وأخلاقهم، وربما خذلوه في مواطن الحرب والمدافعات وفسدت الحماية بفساد النيّات، وربما اجتمعوا على قتله لذلك فسدت الدولة ويخرب السياج”(23)، ثم إن الرفق عنده يتطلب من السلطان “النعمة” على الرعية، التي يفسرها تفسيراً اقتصادياً إذ تقوم بـ”النظر لهم في معاشهم” فالرعاية هي النسيج الذي يربط بين السلطان والرعية وتنشر بينهم المحبة(24) وفي هذا يقول: “… أما توابع حسن الملكة فهي النعمة عليهم والمدافعة عنهم، فالمدافعة بها تتم حقيقة الملك، وأما النعمة عليهم، والإحسان لهم فمن جملة الرفق بهم، والنّظر لهم في معاشهم، وهي أصل كبير في التحبّب إلى الرعية(25).يرى ابن خلدون أن هناك تلازماً بين الدولة والمجتمع فالمجتمع لا شكل لـه دون دولة إذ هي التي تعطيه شكله فهماً كالصورة والمادّة اللتين يتلازمان في فلسفة أرسطو تلازماً لا يمكن معه اكتشاف أي مادة دون صورة أو أي صورة دون مادة ما عدا حالة مستثناة وهي صورة الله(26) وهذا التصور الميتافيزيقي أخذ به هيجل الذي ذكر أن الشعب مجرد من السلطة لا شكل لـه وإنما الدولة هي التي تضفي عليه الشكل(27). يقول ابن خلدون “… والسبب الطبيعي الأول في ذلك على الجملة أن الدولة والملك للعمران، كالصورة للمادة، وهو الشكل الحافز بنوعه لوجودها، وقد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر، فالدولة دون العمران لا تتصور والعمران دون دولة والملك متعذر”(28).لقد رفض ابن خلدون أن يكون الحاكم مفرط الذكاء أو مفرط الغباء أو فيلسوفاً أو عالماً فقيهاً. وهذا ـ كما يبدو ـ “… إفراط في الفكر، كما أن البلادة إفراط في الجمود، والطّرفان مذمومان من كل صفة إنسانية والمحمود هو التّوسط”(29) فالحاكم الذكي يكلف الناس فوق طاقتهم”… اعلم أنه قلّما تكون ملكة الرفق في من يكون يقظاً شديد الذكاء… وأقل ما يكون في اليقظ أنه يكلف الرعية فوق طوقهم لنفوذ نظره فيما وراء مداركهم واطّلاعه على عواقب الأمور في مباديها بألمعيته فيهلكون”(30). واتخذ من قصة زياد بن أبي سفيان مثالاً، لما عزله عمر عن العراق فقال له: “لم عزلتني يا أمير المؤمنين؟ ألعجز أو لخيانة، فقال عمر: “لم أعزلك لواحدة منهما، ولكنني كرهت أن أحمل فضل عقلك على النّاس”(31). ولا شك أيضاً أن ابن خلدون اعتمد في هذا على الوسطية التي نادى بها الإسلام.أما الفلسفة فقد أبطلها ابن خلدون وجعلها مفسدة للملك ومخالفة للدين(32). وهو بهذا الرأي خالف تماماً ما ذهب إليه أفلاطون في جمهوريته، في أن أحق الناس بالحكم هم الفلاسفة وحدهم(33). أما العلماء الفقهاء فهم “يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي، فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذّهن، ولا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث والنّظر، أو لا تصير بالجملة إلى مطابقة…”(34).يعارض ابن خلدون الفكرة القائلة أن النّبوة ضرورية لتأسيس الحكومة إذ لا يتأتّى قيام دولة ما دون إرشاد من الله، فالله يبدي إرادته بواسطة نبي يرسله إلى الناس، وأولئك الرسل هم الذين يؤسسون الحكومات ويسنّون الشرائع(35). والتاريخ يؤيد ما ذهب إليه ابن خلدون، إذ كثير من الشعوب عاشت دون أن تُسن شرائعها على أيدي رسل(36)، وقد قدم مثالاً عن المجوس يقول فيه: “… فأهل الكتاب والمتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب فإنهم أكثر أهل العالم ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار، فضلاً عن الحياة”(37).