البكالوريا.. بوابة تحفيز واستثمار، أم تثبيط وإحباط ؟! ... بقلم : د. لمياء الحسيني
مقالات واراء

مع اقتراب العد التنازلي لموعد امتحان الشهادة الثانوية، واستنفار الطلاب بالدراسة، والأهالي بالمراقبة والحث والاهتمام، يعود إلى ذاكرتي الحلم الذي أعتقد أن الكثيرين يشاركوني به!!


حلم يعاودني من حين لآخر، يفسر تكرره تأثيره العميق على العقل الباطن. يأتي بأشكال مختلفة ولكن يتعلق بنفس الموضوع.. البكالوريا
فمرة أرى نفسي مرتبكة يائسة من إمكانية إنهاء المنهاج المقرر وفي النهاية لا أذهب إلى الفحص، مرة أخرى يغلبني النوم فلا ألحق موعد الفحص، ومرات أجدني في قاعة الفحص وقد نسيت كل ما درست، ومرات أراني أنهيت دراستي الجامعية ولكن ما زال علي تقديم فحص البكالوريا، الحاجز المخيف الذي علي تخطيه قبل بدء حياتي العملية..
منذ اليوم الأول لدخول المدرسة، يبدأ استعراض مشوار الطفل الدراسي في مخيلة الأبوين، رحلة الفرحة بطفلهما وبنفس الوقت القلق الذي يكبر كل عام إلى أن يبلغ حده الأعلى مع اقتراب امتحان الشهادة الثانوية العامة، التي تتعلق بها الآمال والأحلام بمستقبل الابن.

مع أن العطلة والاسترخاء ضروريان للطالب لاستقبال العام الدراسي بذهن صاف متجدد، إلا أن سنة الطوارئ قد قدمت، وفيها سيثقل كاهل الطالب وعائلته نفسيا وصحيا وماديا من الشدة والضغوطات النفسية والاجتماعية.
يبدأ الطالب بالاستعداد والتحضير في العطلة الصيفية، بدورات مكثفة والاستعانة بأساتذة خصوصيين ومتمرسين في توقع الأسئلة وطريقة حلها. وعليه التقيد بقائمة من الممنوعات والمسموحات، كساعات الدراسة والنوم والأكل والخروج، عليه أن يفهم أن هذه السنة للدراسة والجد فقط، وبالتالي فالترفيه وممارسة الهوايات والاجتماع بالأصدقاء إلا بما يخدم الدراسة ممنوع. أما العائلة فتتقولب حياتها الاجتماعية لتلائم ظروف الطالب ونفسيته ودراسته، وعليها توفير أنسب الأجواء لدراسته ورفع معنوياته ونصحه والتعاطف معه.

البكالوريا.. عقدة الجيل وحاجز نظام الدراسة العتيق، الذي يخشاه الجميع مهما كانت مقدراتهم.. نظام امتحان لا يسبر المستوى الحقيقي للطالب، ولا يعطي أي اهتمام لذكائه وإبداعه، أو سيرته الدراسية السابقة، أو ميوله وطريقة تفكيره ومؤهلاته واختياراته. وحدها علامات البكالوريا هي التي تستبد وتتحكم بالمستقبل.
الكل يعتبرها من اكبر المشكلات التي تعترض الحاضر والمستقبل، وقد ينهار البعض ويضعف فيعجز عن تخطيها لأسباب نفسية شخصية، آخرون يجعلون منها ذريعة لفشلهم وسببا لإحباطهم.

يذكر الأطباء أنه يمكن إضافة مرض البكالوريا الذي يتجلى بالأرق والتوتر والصداع وانقطاع الشهية وآلام المعدة ونوبات الخوف وفقدان الثقة وقد يصل عند البعض إلى الانهيار إلى قائمة الأمراض النفسية الاجتماعية.

لا تنتهي هذه الأعراض كليا بانتهاء أيام الفحص فما يزال هناك مرحلة إعلان النتائج ومعدلات القبول الجامعي. حيث يقرر المجموع العام الفرع الجامعي المسموح دخوله دون النظر لعلامة المادة المناسبة للفرع، ودون أي اعتبار للمؤهلات والميول وحصيلة السنوات السابقة.

طورت أغلب الدول مناهجها وامتحاناتها، بما يناسب مصلحة الطلاب وإمكانياتهم ومصلحتها منهم كأفضل استثمار فعال في تطوير وخدمة البلد. فلماذا يبقى نظام الامتحان عندنا راسخا محافظا على قدمه وتخلفه؟! هل أصبح من العادات والتقاليد أو من التراث الذي لا يمكن تعديله والمساس به!! هل أدرج في قائمة الثوابت غير القابلة للتطوير بما يناسب تغير الزمان وتطور التفكير العلمي والعملي ؟!.
صحيح أن المنهاج التعليمي عندنا يعتبر منهاجا قويا، والشهادة الثانوية معترف بها، ولكنه منهاج نظري بحت يعتمد على حشو المعلومات والحفظ الصم بدون فهم واستيعاب لماهيته، بعيد عن ثقافة الحياة وحاجات العصر وتطوره، وحاجات سوق العمل وطبيعة البلد، يقتل روح التعبير والإبداع وحرية التفكير والتحفيز.لا يأخذ تنمية وبناء الشخصية أو التربية الاجتماعية وتحديد الميول والمقدرات والاهتمام بالمهارات والمؤهلات الخاصة للأفراد وتوجيهها بعين الاعتبار. ويجعل الفرد يقتنع بأن الغاية الأساسية من الدراسة، هي الامتحان والعلامات.
ليس من العقلانية أن يتحدد المستقبل، بامتحان واحد يقرر كفاءة الأبناء ومستقبلهم ويقتل أحلامهم واختياراتهم.

تنفق الدول المتقدمة على التعليم مبالغا طائلة، فهي تعتبر الطالب استثمارا يجب أن يكون ناجحا ورابحا وسبيلا للتطور والتقدم، لذا فعليه اختيار الفرع الذي يناسب مقدراته وميوله وأن ينجح به. وتهتم اهتماما كبيرا بكافة أشكال الشهادات الثانوية الأخرى كالصناعية والتجارية والمهنية والتقنية والتي تنصب في صالح سوق العمل وحاجاته وتتناسب مع طبيعة البلد ومواردها ونوعية العمل والإنتاج.

لنستعرض سويا نظام امتحان الشهادة الثانوية والقبول الجامعي في بعض البلدان المتقدمة حيث لا يتم الاعتماد في صنع وتقرير مستقبل الطالب، على الثانوية العامة وحسب بل على ما قبلها وبعدها أيضا:

في فرنسا، يعتبر النظام التعليمي من أفضل الأنظمة الأوربية، ومع ذلك فهو تابع باستمرار للإصلاح كما في كل الدول المتقدمة، بما يتناسب مع المتغيرات العلمية والاقتصادية والاجتماعية وبما فيه مصلحة الطالب والبلد.
ومع العلم أننا أخذنا في الأساس نظام البكالوريا من فرنسا، ولكننا لم نتابع التطورات التي حصلت عندهم. فالشهادة الثانوية في فرنسا تتم خلال سنتين، يمتحن الطالب بمادتين في الصف الثاني الثانوي، يحتفظ بعلامتهما لامتحان البكالوريا في السنة القادمة. وكوسيلة للمساعدة على النجاح، يهتم النظام التعليمي بالجوانب الإبداعية والمعرفية والهوايات التي يمتلكها الطالب، فيسمح بتقديم مواد كخيار فردي في أي هواية ويكون امتحانها شفهيا. هناك 3 فروع للثانوية العامة، وعشرات الفروع للثانويات التكنولوجية وغيرها.
بعد إعلان النتائج، يتاح للراسبين التقدم لدورة تكميلية. لا أهمية للدرجات للقبول الجامعي (يختلف الأمر في أنظمة المدارس العليا)، المهم هو اختيار الفرع الذي يناسب المؤهلات والميول والنجاح به.

في تركيا، يعتبر النظام التعليمي ونظام لامتحانات من الأنظمة المتطورة والتي تستحق بجدارة أن ترفع لها القبعات. هناك 3 فروع للثانوية العامة ولا أهمية لدرجة التحصيل في الثانوية العامة وبالأحرى السنة الدراسية الأخيرة والتي يكون الفحص فيها خاص بالمدرسة وليس مركزيا، للقبول في الجامعة. وإنما الأهمية تعود لاجتيازه هذا الفحص والذي يعطيه الحق في التقدم لامتحان القبول الجامعي والحصول على الدرجات المقبولة للنجاح به، ولخياراته. من الطبيعي أن الطالب المتفوق الذي يحصل على درجات مدرسية عالية يمنح منحة دراسية جامعية ولكن هذا لا يعني أنه ليس عليه تخطي فحص القبول الجامعي. كما سنرى في ألمانيا نجد أنه في تركيا،إضافة إلى الاهتمام بالتعليم العالي والجامعات، فهناك اهتمام كبير بالمدارس المهنية والمعاهد العليا المهنية والمدارس الفنية والمعاهد التقنية العليا.

في السعودية: تم تعديل نظام امتحان الشهادة الثانوية، بشكل أصبح أيضا على مرحلتين. كذلك الأمر في مصر حيث تم تعديل نظام التوجيهية ليكون على مرحلتين، مع دورة تكميلية في الصيف. وتوجد 3 فروع للدراسة الثانوية، بالإضافة إلى ذلك فقد تم في عام 2009 اعتماد خطة تطوير التعليم الثانوي يبدأ العمل به في عام 2011، يقوم على تطوير المدارس بإعداد وتأهيل المدرسين وتطوير المناهج الدراسية بشكل يسمح بتطوير شهادة الثانوية العامة وتطوير نظم الامتحان والقبول في الجامعات.

في ألمانيا، وكونها بلاد صناعية فقيرة بالمواد الخام فهي مضطرة إلى الاعتماد على الأيدي العاملة الفنية المؤهلة. وتتميز بنظام تعليمي خاص يعتمد على فرز الطلاب منذ المراحل الأولى كل حسب ميوله وكفاءاته واختياراته.
نجد اهتماما كبيرا بالمدارس أو المعاهد التكنولوجية والصناعية والمهنية التي يعتمد فيها إلى جانب الدراسة النظرية على الجانب العملي والتدريب في المعامل والشركات للتأهيل للحياة العملية، فكل الفئات العاملة هناك مختصة وقادرة فنيا بامتياز. يجب أن يتلقى جميع الشباب تعليماً مهنياً عالياً في حال عدم رغبتهم في متابعة التحصيل الجامعي، وهدف السياسة التعليمية هو تمكين كل فرد من الحصول على التشجيع الأمثل والتعليم التأهيلي الذي يتناسب مع اهتماماته.

في المدرسة العلمية العامة، يتلقى الطالب من المواد ما يؤهله لمتابعة الدراسة الأكاديمية. هناك ثلاثة فروع في الثانوية هي: فرع اللغات والآداب والفنون، وفرع العلوم الاجتماعية، وفرع الرياضيات والعلوم الطبيعية والتقنية. ولدى الطالب إمكانية اختيار الفرع والمواد التي تناسب مبنجاح على أن يتابعها حتى انتهاء المرحلة الثانوية، حيث يتم الامتحان في أربع مواد.
والامتحان الأخير ليس مركزيا، يحصل الطالب بعد اجتيازه بنجاح على الشهادة الثانوية العامة التي تخوله لمتابعة التعليم العالي في الاختصاص الذي يرغب.
ولكن بسبب الازدياد الكبير في عدد خريجي المدارس الثانوية العلمية إلى درجة عدم توفر إمكانية قبولهم جميعاً في الاختصاصات التي يريدونها في الجامعات والمعاهد العليا، اضطرت هيئات التعليم العالي إلى فرض نظام القبول المشروط على الاختصاصات المطلوبة بشكل خاص، يجري بموجبه توزيع المقاعد الدراسية المتوفرة على طالبيها استناداً إلى علامات الشهادة الثانوية وإلى فترة الانتظار بين الشهادة الثانوية والتسجيل في الجامعة.

في أمريكا، فحص السنة الدراسية الأخيرة، فحص عادي ككل السنين السابقة والأسئلة تخص المدرسة لا علاقة للولاية أو لأي وزارة بها، يبقى أن القبول في الجامعة يتطلب النجاح بفحص القبول وأخذ درجات تتناسب مع عدد المتقدمين يعني للمنافسة ثم إن تحصيل الطالب في السنوات الدراسية الثلاثة الأخيرة تؤخذ بعين الاعتبار، ولذلك تكون السنة الدراسية الجامعية الأولى سنة تحضيرية تؤهل لدخول الفرع المناسب للميول والكفاءة العلمية.

تهتم البلدان المتقدمة بتشجع الطالب على الإبداع والتفكير الموجه والابتكار وتشجيع البحث والتطوير وبناء الشخصية الفعالة القادرة على مواجهة مسؤوليات الحياة تجاه النفس والغير..

لا شك أن افتتاح الجامعات الخاصة ساعد نسبة معينة من الطلاب لدخول الجامعة بمعدلات اقل من القبول في الجامعات السورية الحكومية، ولكن ارتفاع الأقساط الجامعية يجعل إمكانية الانتساب لهذه الجامعات مقتصرا على أبناء العائلات الميسورة ماديا.

هذا نداء لوزارة التربية وللقيمين على المناهج التعليمية والامتحانات، لإعادة النظر بها والعمل على تطويرها. فقد ثبت، أن إعطاء الطالب فرصة لسبر ما يريد ثم الأخذ بيده في تحديد مقدراته يصب في مصلحته ومصلحة البلد، وبالتالي فالأجدى لكل الأطراف أن تأتي نتائجه حصيلة تراكم علم وثقافة ومعرفة منهجية وتربوية وميول ومقدرات فكرية.. بدل أن تكون حصاد عام دراسي هدفه العلامة وليس العلم؟
لذا نطلب البدء جديا بالعمل على تطوير التعليم ونظم الامتحان والاستفادة من تجارب الآخرين لبناء جيل مبدع منفتح الآفاق واثق بنفسه فعال يعرف مقدراته وميوله ويحدد رغباته واختياراته ويوجهها بمساعدة وتوجيه المدرسة لضمان النجاح والصالح الشخصي والعام.

فالجيل المتعلم المنفتح المبدع العملي المنتج، هو الاستثمار الأهم في بناء وتطور الأمة.

المصدر
http://www.syria-news.com/readnews.php?sy_seq=117722