زخرفة المحاريب
من روائع التراث المعماري والفني الإسلامي

محمد عيد الخربوطلي
بذل العرب والمسلمون جهودهم في كافة العهود والأقاليم لإعمار المدن، وإشادة البنيان، خدمة لعقيدتهم وتلبية لحاجات حياتهم، ولم يدخروا وسعاً في تزيين العمائر وتجميلها، وتوفير أسباب الراحة والرفاه، معبرين عن فطرة الإنسان في ميله للزينة وحبه للفن. ومما اعتنى به المسلمون بزخرفته المساجد، خاصة القباب والمحاريب والأعمدة.
أما المحراب الذي يعرف في اللغة بأنه صدر البيت أو المجلس، وفي الدين هو قبلة المسجد ومقام الإمام، عرف أيضاً في الهندسة المعمارية بالعنصر التزييني أو الزخرفي.
هذا المحراب الذي جُعل مكاناً للإمام، ومن أجل تحديد اتجاه القبلة، تطور مع الزمن بشكل ملحوظ، وأصبح موضوع الإبداع والابتكار والتفنن من حيث التصحيح والزخرفة، وهو جزء من الفن الإسلامي، هذا الفن الحضاري الغني بقيمه، الذي انتشر على مساحة واسعة من الأرض، لم تبلغها أية حضارة أخرى، وعلى فترة زمنية بلغت أربعة عشر قرناً وتزيد، إنه فن وتراث يعد موطن فخر واعتزاز لأهله، وموضع إعجاب وتقدير واهتمام من الأمم الأخرى، لا سيما المنصفون من أهل العلم والاختصاص، فقد صنف كثير منهم مؤلفات وأبحاثاً حول تراثنا الفني والمعماري، فهذا لامارتين يقول في خواطر رحلته إلى دمشق سنة 1833 عندما وقف يتأمل بعض العمائر المليئة بالفن والزخرفة: "إن أمة فيها مهندسون يصممون مثل هذا البنيان، وعمال يجيدون تنفيذه، لهي جديرة بالحياة والفن".
- محراب جامع القيروان:
أسس عقبة بن نافع سنة 50 هـ مدينة القيروان ومسجدها الجامع، وكان الجامع بسيطاً، وجدده يزيد الأموي سنة 102 هـ، ومن بعده جدده والي العباسيين يزيد بن حاتم سنة 157 هـ، فهدمه كله إلاَّ المئذنة الأموية ومحراب عقبة، وفي أيام ثالث حاكم من أسرة الأغالبة (زيادة الله بن إبراهيم) في سنة 221 هـ، جدد المسجد كاملاً وفق مخطط جديد وهندسة حديثة، ومع ذلك أبقى على محراب عقبة، ولكنه حجبه بمحراب جديد عرف بالمحراب الأغلبي، والمحراب الحالي يعود تجميله على هذا الشكل إلى أيام الأمير الأغلبي أحمد أبو إبراهيم في سنة 248 هـ، ويعد المحراب مع القبة التي أقيمت أمامه تحفة نادرة ورائعة من روائع الفن الإسلامي، فتجويف المحراب النصف الدائري، مكسو بألواح من الرخام المنقوش بالزخارف والأشكال الهندسية، والأوراق والعروق النباتية، والكتابات الكوفية، والحفر فيها غائر، وتتخلَّله أجزاء مُخرَّقة، كما كُسيت طاسة المحراب بالخشب المزخرف بالأصبغة والعروق النباتية، وقد كُسيت واجهة المحراب بألواح مربعة (ضلعها 12 سنتيمتراً) من الخزف ذي البريق المعدني، في كل منها موضوع زخرفي يختلف عن الآخر، وتعتبر هذه المجموعة النادرة من الخزف، أقدم ما عرف في العمائر الإسلامية، كما يحمل عقد المحراب عمودان من الرخام الأحمر.

- محراب جامع سامراء:
بُني المسجد الجامع في سامراء بعهد المعتصم سنة 221 هـ، ثم أعاد بناءه المتوكل سنة 237 هـ، وهو اليوم مجرد أطلال، ولم يبق منه إلاَّ أسواره ومئذنته الملوية المبنية من الآجر، وتبلغ أطواله 240 × 56 متراً، فهو مستطيل الشكل، ويعد من أوسع مساجد العالم، ويقول الباحث عبد القادر الريحاوي عن محرابه: "كان محراب القبلة يشبه الإيوان، مسقطه الأفقي مستطيل، عرضه 2.59 متراً، وعمقه 1.75 متراً، ويعلوه عقدان متراكبان يستند كل منهما على سويريتين من الرخام الوردي اللون، ويحيط بالمحراب إطار مستطيل، عثر في زواياه العليا على آثار فسيفساء ذهبية، ويبدو أن الفسيفساء كانت موجودة في أماكن أخرى، بدليل رواية المقدسي عن أن جدران المسجد مزينة بالمينا، وكذلك ما عثر عليه الباحث الأثري (هيرتسفيلد) من الفصوص الزجاجية خلال أعمال التنقيب".

- محراب مدرسة الفردوس:
اشتهرت المدرسة المشيدة سنة 632 هـ في حلب، بسبب تصميمها الفريد، حيث لم يبن قبلها أو بعدها مثلها من المدارس، إنها مدرسة الفردوس، التي تعد واحدة من روائع التراث المعماري والفني الإسلامي، لكثرة ما فيها من عناصر إنشائية وزخرفية تتفرد بها، أنشأتها ضيفة خاتون زوجة ملك حلب الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي، ومكانها عند حي المقامات بالقرب من عمائر أيوبية أخرى، وما تزال المدرسة تحافظ على وضعها الأصلي، فقد كانت العمائر في العصر الأيوبي تتميز بالقوة وإتقان التخطيط والبناء ودقة النِسب، وجودة العناصر المعمارية والزخرفية، فعناصر الزخرفة بالرغم من عدم الإسراف فيها، إلاَّ أنها عناصر متقنة الصنع، رصينة في موضوعها، وتنحصر في بوابات المباني أو في المحاريب والمنابر.
ونال محراب المدرسة شهرة عالمية بسبب عناصره الزخرفية النادرة، والتي تغطي باطن المحراب وواجهته، وتتكون الزخارف فيه من أشكال هندسية متداخلة مرصعة بالرخام الملون، ويبدو أن هذا التصميم الزخرفي، كان موضع إعجاب في ذلك العصر، فقد قُلد في عدة عمائر أخرى.

المصادر:
1- قمم عالمية في تراث الحضارة العربية الإسلامية – د. عبد القادر الريحاوي.
2- زخارف العمارة الإسلامية في دمشق – د. قتيبة الشهابي.
3- الفنون الإسلامية – د. سعاد ماهر.
4- مدارس أنشأتها نساء – محمد عيد الخربوطلي.

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي










Like