الفتنة نائمة لعن الله حارسها
عبد الستار قاسم
اعتدنا من الأنظمة العربية أن تهب في كل مرة تواجه فيه انتقادا جادا أن تتمسك بمقولة عجيبة مفادها أن الفتنة نائمة لعن الله موقظها، وهي تقصد بذلك أن المنتقدين يسعون إلى الفتنة التي هي في النهاية وفق رأي هذه الأنظمة أشد من القتل. وقد واجهت أنا شخصيا هذا الأمر ثلاث مرات، وفي كل مرة يخرج طابور المنافقين والأفاقين والمتزلفين ليصفقوا للنظام على اعتبار أنه لا يسعى في الفتنة، وفقط المنتقدون هم الذين يفتنون الناس. واجهت هذا الأمر عام 1999 عندما أصدر عشرون فلسطينيا كنت من بينهم بيانا انتقدوا فيه فساد السلطة الفلسطينية ووجهوا انتقادهم مباشرة لرئيس السلطة. حشدت السلطة قواها حينئذ في رام الله للتظاهر ضد البيان دون أن تعترف بالفساد. استمر الفساد وارتفع منسوب معاناة الناس بسبب الفساد الذي انتشر بصورة مكثفة وغزا كل زاوية وركن في الأرض المحتلة/67. ومرة أخرى تعرضت لهذا الهجوم عندما انتقدت أحد رؤساء الجامعات بسبب عدم احترامه لقرار محكمة العدل العليا الفلسطينية. اتهموني يومها بإثارة النعرات وبإهانة القضاء، وبدل أن يعتقلوا رئيس الجامعة اعتقلوني أنا. ومرة ثالثة عندما طالبت باحترام قوانين منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية. اتهموني بالمس بهيبة الدولة غير الموجودة وبذم مقامات عليا تخرج من تحت أحذية الاحتلال.
يقولون إن الفتنة نائمة ويلعنون موقظها، ولكن لا يقولون لماذا يريدون الإبقاء عليها نائمة، ولا يقدمون تعريفا لمفهوم الفتة
لعن موقظها
الأنظمة العربية تصر على لعن موقظها لأنه بالتأكيد يوقظ وعي الناس بما يجري حولهم مما يشكل خطرا على النظام الحاكم. يفضل النظام الإبقاء على الفتنة نائمة لكي يبقى الناس على غفلة من أمرهم فلا يعون ولا يعرفون مدى الاستهتار الذي تمارسه الأنظمة بمصالحهم ومصالح أوطانهم. لم تكن الفتنة يوما نائمة، وهي لا تنام أبدا لأنها تعمل ضد الناس، وإذا كان لها من غفوة فهي غفوة في عقول الناس وليس في السرير. والنظام يفضل بقاءها نائمة لكي تستمر فتنته ويستمر فساده وظلمه. ولهذا هو لا يتورع عن اتخاذ مختلف الإجراءات القاسية بحق من يحاولون بث الوعي في نفوس الناس لما في ذلك من خطر جسيم على نظام الحكم. فلا غرابة أن تحل اللعنة على من ينبش وعي الناس ويدعوهم إلى اليقظة والحذر مما يجري. الله لا يلعن أصحاب العقول النيرة الذين يحرصون على مصالح الناس ويحاربون الاستبداد والاستعباد والظلم، لكن اللعنة تعمل من قبل الذين لا يعرفون الله ولا يتقونه.
تعريف الفتنة
ما هي الفتنة ومن هو المفتن؟ كثيرون هم الذين يلعنون الفتنة ويدعون إلى تجنبها لما تولده من آلام وأحزان لدى جمهور الناس، لكن تعريفها مهم وضروري من أجل أن نكون جميعا على بينة مما نتحدث عنه. غياب التعريف يترك المفاهيم غامضة، ويترك تعريفها للأمزجة التي تتعدد بتعدد الأشخاص المهتمين بالموضوع. ولهذا أجتهد رأيي هنا بالقول إن الفتنة هي كل ممارسة من شأنها إلحاق الظلم بالناس أفرادا وجماعات. الظلم هو رأس الفتنة وهو عنوانها، وتحته تندرج ممارسات كثيرة تفتن الناس وتقلق حياتهم وتحيلها إلى جحيم. الظلم هو أساس الفتنة لأنه يلحق الأضرار بالناس، ويميز فيما بينهم فيحابي بعضهم ويحرم بعضهم الآخر، وهو يهضم حقوق الناس وامتيازاتهم وما يمكن أن يتمتعوا به في هذه الحياة.
الظالم يميز بين الناس فمنهم من يرث ومنهم من لا يرث، ومنهم من يُجزى، ومنهم من يعاقب، ومنهم من يحصل على المنح والعطايا والهدايا، ومنهم من يحصل على الآلام والأحزان. منهم من تتاح له فرص النهب والسلب والاعتداء على أموال الناس وثرواتهم، ومنهم من يخضع للتقييد والتضييق حتى فيما يتعلق بملكيته الخاصة، الخ. وبسبب التمييز القائم والمحاباة والمحسوبية تتولد لدى الناس مشاعر البغضاء والكراهية والأحقاد. عندما يعدم الناس الشعور بالعدالة تتولد مشاعر غير صحية فيما بينهم فيأخذ صاحب الحظوة بتطوير مشاعر التفوق على الناس، ويأخذ المحروم بتطوير مشاعر الدنو وتتطور لديه أزمات نفسية تعيش معه لسنوات طويلة وربما لا تختفي إلا عندما يختفي هو من الوجود.
في ظل الظلم يفقد الناس الثقة فيما بينهم لأن نظرة الشك المتبادل هي التي تسود. لا يمكن للناس عموما أن يثقوا بمن يظلمهم أو يساعد من يظلمهم في ظلمه. ولهذا تتطور علاقات اجتماعية وعامة بين الناس على أساس الشك المتبادل وليس على أساس الثقة المتبادلة. الشك قاتل للمجتمعات لأنه يقضي على فرص العمل الجماعي والتعاون المتبادل. وإذا فُقدت هاتان القيمتان في أي مجتمع فإن هذا المجتمع لا يستطيع أن ينهض، وكل محاولات النهوض به تبوء بالفشل. المجتمعات الصحية هي التي تسود فيها علاقات الثقة المتبادلة. في أجواء الثقة المتبادلة يرتفع مستوى الممارسات الأخلاقية في المجتمع، وترتفع معنويات الناس، ويبدأ كل شخص يعي مدى قدراته وطاقاته، ويعي ما يمكن أن يقوم به من أعمال خيرة ومفيدة للمجتمع. الانهيار الأخلاقي هو من سمات المجتمعات الشكاكة، والسمو الأخلاقي من سمات المجتمعات المبنية على الثقة. الظلم يفسد العلاقات بين الناس ويفتت تماسكهم الاجتماعي، ويحول المجتمع إلى فئات متصارعة ومتحزبة وتعصبية متحوصلة حول ذاتها ومصالحها الخاصة.
عندما تغيب الثقة المتبادلة يتحوصل المرء حول نفسه، وتتحول مصالحه الخاصة إلى القيمة العليا التي تحكم تصرفاته، ويتصرف بلا مسؤولية ودون تردد في تخريب المصلحة العامة إذا كان ذلك في خدمة المصلحة الخاصة. الشعور بالمسؤولية يتدهور بصورة كبيرة، ومشاعر الانتماء تتدنى، وينحدر المجتمع إلى قبائل وطوائف ومذاهب وتجمعات عنصرية تسودها مشاعر الاحتقار المتبادل والرغبة في الاستبداد والتحكم في مصائر الناس.
وعليه فإن المحسوبيات والوساطات في الوظائف تشكل ممارسات عنصرية ظالمة بحق الذين لا نصيب لهم لدى المسؤول أو المتنفذ. نهب أموال الناس ظلم، وكذلك الاستبداد والاستئثار بالسلطة والهيمنة على الآخرين وابتزازهم وملاحقتهم أمنيا وسياسيا والتفريط بحقوقهم. الفساد ظلم، والتمييز بين الناس في الوظائف ظلم، وفرض الرسوم المالية الباهظة على الناس ظلم، والغفلة عن الفقراء والمساكين ظلم. يتمثل الظلم الأكبر في تغييب شرعية الحكم، وفي إساءة توزيع الفوائد المادية والمعنوية، والغفلة عن بناء الهوية والشخصية المميزة التي من شأنها أن تساهم في بناء المجتمع. وإذا نظرنا إلى الوطن العربي نجد أن الظلم يستشري ويتمدد وينتهي في النهاية إلى قتال وسفك دماء.
من هو المفتن؟ المفتن أو الفتان هو ذلك الحاكم الظالم الفاسد الذي يفسد المؤسسات ويفسد الناس ويولد بأعماله مشاعر الحقد والكراهية ويدفع الناس دفعا في النهاية نحو حمل السلاح والقتال من أجل كسب احترام الذات والمحافظة على الحقوق. هذا هو المفتن، ولهذا نقول إن الفتنة أشد من القتل. الفتنة أشد من القتل لأنها تؤدي في النهاية إلى حصول مجازر ومذابح وتقضي على الأخضر واليابس في الدولة أو المجتمع. تبدأ الفتنة بالحاكم وهو واحد، لكنه ينشر الفتنة في أوصال المجتمع ويصبح الفتانون جمهورا واسعا. لو تم التخلص بداية من الحاكم المفتن لارتاح الناس من شروره وأذاه، لكن صبرهم عليهم صنع مفرخة من الفتانين. الفتنة أشد من القتل لأنها تؤدي إلى قتل العديد من الناس، وإذا أراد الناس أن يقوا أنفسهم شر الفتنة فإن عليهم أن يقضوا على صاحب الفتنة في مهده.
بسبب العقم الفكري الموجود على الساحة العربية، الفتان ليس الظالم، وإنما الذي يقول عن الظالم ظالما. الظالم يمارس أعماله كالمعتاد وهو يحقق استقرارا في المجتمع قائما على الظلم، لكن الذي يعري ظلمه يصبح فتانا لأنه يكشف عورات الظالم أمام الناس. أي أن تعريف الحاكم العربي للفتنة يتعلق بتعريته وتعرية ممارساته القبيحة والمنحطة أمام الناس، ونجد من يصفق مع هذا الحاكم من المستفيدين من ظلمه. فمن هو الفاسد في الساحة العربية؟ هو الذي يكشف الفساد ويثير وعي الناس حول هذا الفساد الذي يتغذى على مصالحهم، أما الحاكم الفاسد فهو المعلم الأول والقائد والرمز والبطل. ومن الذي يثير الفتنة؟ هل هو الذي يتجاوز القوانين ولا يطبقها، أم الذي يطالب بتطبيق القوانين؟ في الممارسة العملية المجرم هو من يطالب بتطبيق القانون، وهو الذي يطالب بإقامة العدالة الاجتماعية والذي يرفض التعامل مع العدو وتقديم الخدمات له. وهنا أذكر أن أحد أصحاب العمم الدينية البالية قد دعا إلى قتلي بصورة غير مباشرة لأنني أثرت ما أسماه فتنة تطبيق القوانين. الدعوة إلى تطبيق القانون بالنسبة لهذا الشيخ الفاسد وزميله الأستاذ الجامعب الأرعن تثير الفتنة وتزرع الشقاق بين الناس. لقد عهروا الدين الإسلامي، وعهروا كل مبادئ الحرية والديمقراطية وأتوا على كل ما هو إنساني. لقد اعتقلوني لأنني أدافع عن القضاء وكان الواجب حبس رئيس الجامعة، واعتقلوني لمطالبتي بتطبيق القانو وكان المفروض أن يعتقلوا رئيس السلطة الذي يرفض الالتزام بالقانون. بهكذا فساد وهكذا فتنة تسترخي إسرائيل وتكتفي بالتفرج علينا ونحن نخرب بيوتنا بأيدينا.