نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي





كان المقهى بقعة مفضلة له ..من هناك يمكنه أن يراقب المدينة تشق طريقها نحو عالمه..بإمكانه أن يلمح ويتمعن الخطوات والأصوات والوجوه ..ويتخيل الأحاديث التي يتبادلونها ولو من بعيد..من هناك يتأمل الحياة التي يستقيها في فنه..
في كل مساء ..يجلب معه أقلام الرصاص ودفاتر الرسم وألوان الفحم الباستيلي ويرسم..يخطط الوجوه والأجسام ..وتفاصيل المشاهد التي تثير انتباهه..يحب الملمس المرن لورق الرسم وهي تنزلق تحت يديه ..وطريقة خدش ألوان الفحم القاسية وهي تتماوج بين أصابعه فتسكب الألوان ضوء وظلالا..
يلتقط بالرسم ..ابتسامات السياح الذين يرتشفون فناجين قهوتهم ..أو ملابسهم التي تثير ملكته..أو ومضات الزهور اللامعة التي تحتل شرفات المنازل ..أو الأشجار التي تلعب لعبــة الإختفاء مع مصابيح الشارع..
بينما كان منهمكا بما يلمس قلبه على ورقة الرسم..هواء حوله تغير ببطء ..لفح وجهه عطر شفيف استرجع فيه ذكرى ماض بخطفة سريعة .. شد انتباهه إليها وهي تعبر المكان لتأخذ مقعداً لها في احدى المناضد حوله..
في تلك اللحظة التي لا اسم لها ..أدرك كل تفاصيلها ..أصابعها الطويلة تتراقص وهي تمسك كأساً خزفياً مثل قطة ناعمة ..أحس بكلمات كانت نصف منسية لقصيدة شقت طريقها عبر أصابعه في إحدى الأيام الخوالي ..بشرتها البيضاء المائلة للصفرة كزهرة منغوليا ..ذكرّه بوجهٍ كان يزوره كل ليلة كشعاع شمس ارجواني مجنون..عيونها الرمادية وكأنها وعد المطر أخذ يهطل خربشة على الورق ..لكم تمنى أن تعود تلك الساعة التي أحبها وأحبته..شعرها الأسود يمارس أعمال شغب على أكتافها يتساقط مثل قصبات ناعمة عند حنجرتها..لف به ما تبقى محصورًا في مخيلته.. أجبر نفسه على قفل الذكريات..
تشرب قهوتها على عجل وتنظر إلى رسغ يدها وتنهض .. فيدخل الهلع إلى قلبه حين تراءى له تلك السيارة التي سحقت جسد حبيبته أمام عينيه ..فتناثرت أجزاؤها و راح يلملم ما تبقى منها يحمله كحلم الأمس..
بدأ هتان المطر يلطخ ورقة الرسم ويمحو جبروت طيف قاس لمن لا ينساها.




**