الصندوق... وحمايته من كل انقلاب
بقلم: عبدالحق الريكي
"البحث عن المستحيل، وهو التحرر والعدالة"
وصية إدوارد سعيد لمحمود درويش
هناك على العموم نوعان من الصناديق، صندوق خشبي وآخر زجاجي شفاف... أتحدث عن صناديق الانتخابات، حيث يضع المواطنون أظرفة تحتوي على اختيارهم الانتخابي والسياسي حول من له الأحقية والأفضلية لتمثيلهم والدفاع عن مصالحهم... وقد أصبح هذا الصندوق العجيب مطلبا شعبيا قويا في العديد من الدول ورمزا لتقدم دول أخرى عريقة في الممارسة الديمقراطية...
آخر مثال على النوع الثاني من المجتمعات الديمقراطية يتعلق بدولة ألمانيا التي عاشت خلال الأيام السابقة حملة انتخابية وتصويتا لفرز الأغلبية والمعارضة في برلمان البندستاغ الألماني (البرلمان الاتحادي الألماني)، والتي عاد الفوز فيهما للمرأة القوية "أنجيلا ميركل" للمرة الثالثة وهو ما لم يحققه سابقا سوى المستشارين الألمانيين "كونراد أدنور" و"هلموت كول"... لقد كانت انتخابات ألمانيا محط أنظار الألمان بطبيعة الحال وأيضا الأوروبيين نظرا لمواقف وقرارات هذا البلد من أزمة الديون واليورو بالقارة العجوز وكذلك في أمريكا وأسيا حيث تعد ألمانيا من ضمن الدول الصناعية المؤثرة في التجارة العالمية...
ما يهم المواطن في بلدان الصف الأول، حيث الصراع المجتمعي من أجل أن يصبح الصندوق الخشبي أو الزجاجي رمزا وواقعا يعبر عن الاختيارات الحرة للشعب، هو كون انتخابات بلد ألمانيا كما هو الشأن في بلدان عديدة مرت دون تزوير ولا تدخل ولا بيع أوشراء الأصوات... وأعتقد أن هذه الممارسات أصبحت في خبر كان بالنسبة للدول الديمقراطية حيث لا يمكن حتى تصور أحد يقع في المحظور... رغم الأزمات المجتمعية والاقتصادية التي يعيش فيها جزء كبير من ساكنة هذه الدول فالكل متفق على أن النظام الانتخابي الديمقراطي أحسن ما اخترعته البشرية للتعايش داخل وطن واحد ومصالح أحيانا متعارضة...
قلت أن التمثيلية المنبثقة عن الانتخاب وكسب ثقة المواطن عبر الأصوات الممنوحة داخل الصندوق السحري أصبحت راسخة داخل عقلية المواطن العادي والسياسي المحنك في الدول الديمقراطية العريقة... إنها حد فاصل بين فلسفتين وتصورين للحياة والسياسة والتمثيلية... لقد وقع حدث هام خلال صيف هذه السنة كان أحسن مثال عن العقليات المتحكمة في رقاب شعوب الدول الديمقراطية وتلك الباحثة عن سيادة الصندوق.. أتحدث عما دار بين السيناتور الأمريكي "ليدسي كراهام" المنتخب بطريقة ديمقراطية لا ينازعه فيها أحد والتي منها يستمد شرعيته ورئيس الوزراء المصري "حازم الببلاوي" الذي أتت به الدبابات إلى هذا الموقع على إثر انقلاب عسكري بمصر...
يروي الصحفي "كيرك باتركس" مدير مكتب الصحيفة العالمية "نيو يورك تايمز" بالقاهرة أن السيناتور "كراهام" وصف رئيس وزراء حكومة الانقلاب بـ "الكارثة"!!... هذا كلام كبير وخطير، ولكن في أي سياق أتى هذا النعت الحقير والمشين في حق رئيس حكومة أكبر دولة عربية؟... لنرجع إلى مقال الصحفي "كيرك باتريس" حيث نقرأ في تقرير له بالصحيفة عن "كراهام" متذكرا تفاصيل لقائه مع الببلاوي: " رئيس الوزراء كان بمثابة كارثة، لقد ظل يعظني بقوله: " لا تستطيع التفاوض مع هؤلاء الناس، إلا إذا تركوا الشوارع واحترموا القانون، فأجبته قائلا: " إنه من الصعب جدا من شخص مثلك أن يلقي محاضرة حول القانون، كم من الأصوات الانتخابية حصلت عليها؟ أنت لم تخض أي انتخابات".
اللقاء كان في إطار المساعي لإيجاد حل سياسي لما بعد الانقلاب العسكري للفريق "السيسي" وقبل هجوم القوات الأمنية على شعب الإخوان المسلمين ب"رابعة العدوية" وغيرها... ما يهمنا نحن هنا هو الرابط الذي جعل السيناتور الأمريكي يقر ب"كارثية" فلسفة ومنطق رئيس الوزراء المصري القادم إلى منصبه عبر الدبابات وليس الصندوق الانتخابي ومن تم فهو في نظره فاقد للشرعية القانونية ولا يمكن أن يطلب من الآخرين احترام القانون... ومن هنا نفهم أن غياب الصندوق الانتخابي وعدم احترام إرادة الناخبين لا يمكن أن يؤدي إلا "للكوارث" والأزمات...
وحتى تكون الأمور واضحة فأنا لست من المدافعين عن السياسة الخارجية لأمريكا فهي تتحمل قسطا كبيرا من المآسي التي تعيشها العديد من المناطق والشعوب وأقربهم إلي هو الشعب الفلسطيني... أمريكا تدافع عن مصالحها في العالم وهذا من حقها رغم معارضتي لها لكن ما قاله السيناتور الجمهوري "كراهام" فيه صواب كبير... لنتخيل للحظة لو أن هذا السيناتور يتفاوض مع رئيس وزراء مصري منتخب انتخابا ديمقراطيا ومسنودا من طرف البرلمان المصري ومن وراءه شعب الكنانة، هل كان سيقوى على التصريح بمفردة "الكارثة"؟ لا وألف لا...
الحقيقة أن كل الدول التي لم تستقر أنظمتها على الاحترام التام لقواعد الديمقراطية المتعارف عليها عالميا، صوت لكل مواطن في حرية وشفافية مطلقتين، تعيش "الكوارث" وأهم تجلياتها هي الفساد والزبونية والاستبداد والغناء الفاحش... وهي القضايا التي حركت وجدان شباب الربيع العربي وجعلته يضحي بالغالي والنفيس من أجل الحصول على تذكرة تمكن الدول العربية من الولوج إلى نادي الدول الديمقراطية... ويبدو أن ثمن هذه التذكرة سيكون باهظا وسيتطلب زمنا ونفسا للحصول عليه...
إن الثورة المضادة التي تشهدها العديد من الدول العربية هي في الحقيقية انقلاب على الصندوق الانتخابي بذرائع مختلفة اتخذت اليوم شعار محاربة الحركات الإسلامية ومحاولتها السيطرة على الدولة وأسلمة المجتمع ومن ثم الانقلاب على الديمقراطية والصندوق الانتخابي بدعة الغرب المسيحي!! لكن الحقيقة أن هذا الهجوم على الشرعية الانتخابية وعلى الصندوق الانتخابي سيستمر وسيتخذ أشكالا مختلفة حسب البلدان والوضع السياسي والمجتمعي... لكن ما هو أكيد أن المستفيدين من "الدولة العميقة" لن يرتاح لهم بال حتى يتمكنوا من تهميش المطلب الديمقراطي أو التحكم فيه...
هذا التحكم عاشته دول عربية عديدة من خلال سن قوانين انتخابية على المقاس والتحكم في العملية الانتخابية وأحيانا عبر منع أحزاب وأفراد من الترشيح وكذلك التدخل في شؤون الأحزاب وخلق ودعم أحزاب بعينها دون إغفال تزوير الانتخابات واستعمال المال الحرام لشراء ذمم المستضعفين في الأرض... هي تقنيات وآليات يعرفها الجميع واكتوت بنارها العديد من الشعوب... ناهيك عن كل الأفكار التي كانت تحارب الديمقراطية وحق اختيار المواطن بذريعة الأمية والجهل والفقر وتدافع عن حق أقلية واعية لها الحق في أن تحكم وتطور بلداننا حتى يرتفع الدخل الفردي ويصبح المواطن متعلما ومن تم يحق له المشاركة في شؤون بلده...
قلت أن الثورة المضادة ستتخذ أشكالا وحججا وذرائع... لكن جوهر الصراع لم يتغير ما بين الأمس واليوم... هو صراع بين الاستبداد والديمقراطية، صراع بين الفساد والشفافية، صراع بين توزيع عادل للثروة الوطنية والنهب وتراكم الثروة في يد أقلية... صراع من أجل حق كل مواطن في الإدلاء بصوته واحترام اختياره وحقه في الشغل والتطبيب والتعليم والسكن بعيدا عن الزبونية والمحسوبية... هذا هو جوهر الصراع الذي لا يجب أن يختفي عن أنظارنا ولو لثانية لأن النتيجة الحتمية لهذا السهو أو التعتيم أو الاهتمام بقضايا هامشية نتيجته ستكون الانقلاب على الصندوق الانتخابي وحتميا عيش "كوارث" اجتماعية واقتصادية وإنسانية لا تطاق والاستمرار في الانحطاط الحضاري...
إن أم المعارك اليوم هو الدفاع عن الشرعية الانتخابية وعلى شفافية العملية الانتخابية والاختيار الحر للمواطن بعيدا عن أي إقصاء أو تهميش، هو الرجوع دائما إلى المواطن للفصل في القضايا الكبرى والمصيرية، هو التوافق التاريخي ما بين كل المكونات المجتمعية المؤمنة بمنهجية الديمقراطية الانتخابية التي تفضي إلى حكومة منتخبة وبرلمان حر ونزيه، هو القبول بحق أي مواطن كيفما كان وضعه الاجتماعي في التعبير عن إرادته الحرة عبر وضع ورقة انتخابية في صندوق من الخشب أو من الزجاج، سيان بينهما، ما دامت العملية شفافة ونزيهة...
أم المعارك هو بين الصندوق والقانون من جهة و"الكوارث" من جهة أخرى... إن الاختيار الصعب اليوم هو البحث عن المستحيل، الدفاع عن الصندوق وحمايته من كل انقلاب، أو كما عبر عن ذلك الشاعر الكبير الراحل محمود درويش حين قال أن وصية راحل كبير آخر هو إدوارد سعيد هي "ألا أتراجع عن البحث عن المستحيل، وهو التحرر والعدالة" (من كتاب الصحفي عبدالصمد بن شريف بعنوان "ضد الغياب" كتاب دبي الثقافية عدد 89 غشت 2013 صفحة 102)...
نعم على كل القوى الوطنية الديمقراطية الحقة، علمانية أو إسلامية، أن لا تتراجع عن البحث عن المستحيل، تحرير فلسطين وتحرير الشعوب العربية من الاستبداد ورفع راية الديمقراطية وحماية الصندوق الانتخابي من كل انقلاب وبناء مجتمع العدالة والكرامة...
عبدالحق الريكي
الرباط، 25 شتنبر 2013