الاسرى الفلسطينيين ونظرية السجن القائمة على سياسة التطويع والتركيع
بقلم الاسير: ناصر الشاويش
ليس سهلا ان يعيش انسان ما بغرفة مغلقة الابواب على مدار سنوات الاعتقال المتتالية مهما بلغت قوة وصلابة هذا الانسان وقدرته على التحمل فمن اراد التأكد من ذلك ادعوه لعزم نفسه داخل غرفة في بيته ولو ليوم واحد . سوف يكتشف من تلقاء نفسه حجم الجريمة النكراء التي ترتكبها اسرائيل بحق الاف الاسرة الفلسطينيين دونما ذنب اقترفوه سوى ذنب التفكير الحر الذي قاد الاسير الفلسطيني الى حد التضحية بالنفس من أجل احياء نفوس اخرى كثيرة مقدما بذلك حياة الاخرين على حياته وحرية الاخرين على حريته وهو اذ يفعل ذلك انما يدرك تماما ان شعبه يستحق منه ذلك ويستحق هو من شعبه الوفاء له ولكل اسير يسقط في شرك الاعتقال على مذبح الحرية والاستقلال .
ومع ذلك نجد ان هناك من امضى ربع قرن ان الزمن الاعتقالي النازف على مدبح الحرية فهم على هذا النحو المميت دون ان يموتو بل وان الناظر في وجوههم والمتصحف في ملامحهم يكاد يظن انهم اعتقلوه للتو لما في وجوههم من الحيوية والتصميم .
أهل هي الرغبة الجامحة لدى الاسير الفلسطيني لاسقاط نظرية السجن القائمة على سياسة التطويع والتركيع الطامحة لزرع بذرة الندم في نفوس الاسرى وتفريغ الاسير المناضل من محتواه النضالي.
ومصادرة وعيه الوطني وتفكيره الحر لمصادرة ارادته الفلسطينية الصلبة ؟ أم هو الشعور براحة الضمير لدى الاسير وهو يؤدي واجبه الوطني على النحو الامثل للتضحية والعطاء ؟ سألت الاسير المناضل كريم يونس ذات يوم وهو ممن امضوا ثلاثة عقود في السجون الاسرائيلية ولا يزال . حيث من ينظر اليه يظنه قد اعتقل حدثا لما لديه من حيوية واصرار وتحدي وروح عرفاتية شامخة . سألته من اين تأتي بهذه الرغبة في الحياة وقوة الارادة والتحمل والاصرار على المواجهة والايمان بحتمية النصر ونيل الحرية وانت تعيش حالة القبر الموحش بكل تفاصيله المرعبة والمقيتة على مدار ثلاثة عقود في زنزانة صغيرة يتكفف فيها الزمان ويزداد فيها ضغط المكان وتتجمد فيها حياة الانسان وتتعالى فيها صيحات الالم الصامت من ضجر اللحظات الزاحفة كالسلحفاة . رد علي مبتسما ومتنهدا . ان المسالة ببساطة هي (أن نكون او لا نكون) وطالما اننا مرآة القضية الفلسطينية وصورة الحق الفلسطيني علينا اذا ان نكون . وأن نصبح على هذا النحو الذي يثبت حقنا بالعيش والبقاء لنضمن استمرار نبض القضية في عروق الزيتون وأوردة الزعتر البري نعم هذا ما اعتقده كريم يونس ونعتقده نحن الاسرى جميعا ايمانا منا بان التجربة الاعتقالية تقوم بالاساس على خطين متوازيين وهما : قوة الارادة – أمام ارادة القوة .لهذا نجد ان الاسير ومنذ اللحظة التي يتم بها انتزاعه من احضان اسرته واحبته وتقييد خطاه يبدأ بالتجرد من الانا الصغيرة بما يخدم الكل الاعتقالي والانا الجماعية عبر الانخراط والانصهار في الذات الجماعية وطرويد النفس على التأقلم مع الواقع النضالي الجديد الذي فرض عليه وهو اخطر اشكال النضال حيث يتطلب ذلك الادراك الكبير منا بأن المعركة مع الاحتلال انتقلت الى مرحلة اشد خطورة وضراوة . معركة تستهدف الافكار والمعتقدات الثورية لتحطيم المبدأ الثوري والوطني لدى كل اسير . وهذا يستوجب ادراكا فوق العادة بأنه لا وجود وراء الاسوار الاعتقالية للانا الفردية في الوقت الذي تتخندق فيه الذات الكبيرة أو روح الفريق والجماعة في خندق المواجهة المباشرة مع الخصم وهو الاحتلال . لهذا تتشكل لدى الاسير الفكرة الراسخة بأن انهيار الفرد وضعفه يقود الى انهيار وضعف الكل الاعتقلي للاسرى . لذا نجد ان الاسير مجبرا على صهر ذاته الفردية في الذات الجماعية لتعزيز الصمود والقوة والتماسك لدى المجموعة . بل وتراه رغم ما لديه من الم واشتياق وحنين الى جرعة حرية يحرص على ان يظهر دئما قويا وشجاعا ومتسلحا بالصبر وصلابة الموقف وانماء حسه الوطني والانساني والوجداني بداخله . بل ويحرص دائما على اسقاط نظرية السجن القائم على التوطيع والتركيع والتدجين . والحفاظ على ضخ المعنوية العالية في روح الفريق للوصول الى الحرية والانتصار المؤكد . أضف الى ذلك نعمة الخيال والذاكرة اللذان يشكلان لدى الاسير حافزا قويا يمده بالصبر والامل والاستراحة القليلة اليومية من ثقل وغلاظة القيد. حيث يقتات الاسير على فُتاة احلامه وشريط خيالاته عندما يطلق العنان لمهر الخيال الجامح ليسافر في الامكنة المحجوبة عنه بفعل القيد مخترقا بذلك كل الحواجز الاعتقالية فما من احد يستطيع كنه الحقيقة الكامنة بداخل الاسير الا اذا خالطه عن قرب واستدرجه بالتحدث عن الحرية – هذه الكلمة هي بمثابة الشيفرا السرية لقلب كل اسير يحلم بالزواج من حريته لينجب منها طفلا اسمه ( الوطن الحر) وطفلة اخرى اسمها (شمس الحرية) عندها فقط سيعرف ان وراء هذه القوة والصلابة والخشونة تكمن مشاعر مرهفة بالاحساس المتدفق بالحب والحنين واللهفة والصدق والبراءة كمشاعر طفل لا يعرف الخداع والمداهمة . وان وراء هذه العيون الغاضبة التي لا تعرف البكاء والعويل تكمن قلوب كالتلج بيضاء ونقية تختزن فيها الانسانية جمعاء . وسيعرف كم يشتاق هذا الاسير القابع في ظلمات الليل الى لحظة يمزق بها الاثار الذي يلف حياته وأن يحطم القيد الذي يغتال النرجس في ليل احلامه الكبيرة والصغيرة . ولان يطلق ذاته في الآفاق البعيدة ليداعب خيوط الشمس الذهبية ويعيد توكيد انسانيته لحقه بالحياة على الشكل الامثل لاثبات الحق بالحرية والفرح والحب والامن والسلام . ليمتع ناظريه بابتسامة الصيف ويغسل عذاباته بمطر الشتاء ليعود نظيفا من غبار فراش السجن ومعافى من عذابات الاعتقال .
انه حلم كل اسير كلما تعالت ابتهالات الحنين في معبد الشوق . حلما يمتزج بالعتمة الرصاصية الداكنة التي تجعل من الزنزانة قبر لا يدري الاسير كيف يقوى على احتماله ومن أين تأتيه الارادة الحديدية للعيش بداخله عشرات الاعوام وهو يشتهي رؤية الشمس التي يتنفس اشعتها كل يوم عبر الثقوب الضيقة كلما اهلت خصلة منها على نافذة زنزانته الصغيرة التي يطوقها حراس المعتقل المدججين بالقهر والبطش.
ومن منا نحن معشر الاسرى لا يقف مطولا وراء نافذة زنزانته تاركا عصافير الذكريات تسافر عبر جنح الظلام لتحط به في الاماكن التي يحب . وفي كل ارض مشت عليها خطواته الحرة ليتذكر حياته الماضية بأدق تفاصيلها الصغيرة والكبيرة حيث يبقى على هذا الحال واقفا متسمرا كالزمن وراء النافذة ليشتم رائحة الحرية ناظرا ما امكن من خلال ثقوبها الضيقة الى الماضي البعيد حيث ذكريات الامس . بينما تظل عيناه تدور في محاجرها تفتش عن امل يمدها بأسباب الحياة وعن مستقبل مجهول ووجهه يغيب وراء سحب الدخان المتصاعدة من سجائره التي تحترق تماما وتتلا شى رويدا رويدا كما يحترق عمره ويتلاشى شبابه في فسحة ضيقة بحجم طابع البريد . فيترك مهر الخيال سابحا في الدمع المتجمد بالمقل ليبتدع له الخيال صور لأماكن ومحبيه كاد ان ينساهم وينسيه اياهم القيد الدامي . فيرى الطبيعة بكل فصولها ويسمع الاجراس وهي تدق وتقرع في الكنائس ويسمع اصوات الاذان وهو يتعالى في المساجد واصوات الباعة في الاسواق وهم ينادون على بضائعهم وأغاريد العصافير وهي تستقبل الصباح الجديد بأناشيد الحرية في موكب الشمس الضاحكة والمتلئلئة فوق اكتاف الروابي والهضاب . ويحلم في لحظة يضع برأسه المثقل بالهموم والاحزان على صدر ام اعياها طول الانتظار وهي تقف منذ سنوات وعقود على اعتاب بيتها ترقب الغد لعله يأتيها بفلذة كبدها الاسير . لتعانقه وتضمه الى صدرها قبل ان يحرمها الموت الى ما لا نهاية عناق ابنها الاسير . ويبقى على هذا الحال يحلم ويحلم بما سوف يحدث ذات يوم عندما يفتح السجان عليه باب زنزانته ليبلغه بقرار الافراج والانعتاق من القفص الاسمنتي الخانق للانفاس . لعله عندها يقبض على ما تبقى من عمره وشبابه المهدور . ويهرع بعيدا بعيدا عن حدود السجن ليعانق حريته ويقبل ابناءه وذويه ويسجد فوق التراب الفلسطيني المخضب بدماء رفاق دربه الذين سقطوا شهداء واودعوه بنادقهم لاكمال الطريق وتحقيق الوعد انها احلام اليقظة التي تقتات عليها النفوس الجائعة للحرية والحياة وتتغذى على ما تبقى من ذاكرة انهكتها سنوات الاعتقال . انها نعمة الخيال التي تقرب المسافات وترجع الغائبين من غيابهم ولو عبر الخيال وتزرع في تربة الزنزانة بذور الامل وتجعل الاسير يرى نفسه كلما قده الشوق وفاض به الحنين يذهب بالخيال الى من يحب ليرتمي بأحضان الحبيبة فيشتعل واياها نارا : وحبا : ودمعا : كلما اغمض عينيه اكثر. هكذا يصبح الخيال واقعا معاشا لا بديل عنه وهو واقع الاعتقال الدامي الذي يأخذ الاسير الى حد أن يغزل من الوهم والخيال واقعا يعيشه ويمده بأمل جديد ستجده يعتاش عليه ويقنع نفسه به على أمل أن يتحقق ما ينسجه الخيال يوما ما : ربما غدا او بعد غد سنة بعد سنة . حتى تراكمت السنين تباعا فوق مقصلة الروح ودخل الكثيرون من الاسرى الفلسطينين في موسوعة جنس للارقام القياسية حيث اذهلوا هؤلاء العظماء بصبرهم كل أساطين علم النفس البشرية . ولذا نقول الحمدلله على نعمة الخيال والذاكرة اللذات اشطران ادق التفاصيل لحياة أسبل عليها حراس المعتقل ومنهدسي المقابر الجماعية كل ستائر الليل . وجعلوا الاسير لا يبارح نافذة زنزانته وهو يسترق خلسة قطرات ضوء ينير بهل ظلام زنزانته التي تسمر بها دولاب الحياة عند ذلك اليوم الاعتقالي الاول لدى كل اسير . فكم هي صعبة وقاسية حياة الاسر ولحظات الانتظار والترقب الدائم للحظة الانعتاق نحو عالم كدا ننسى شكله وطعم الحياة فيه منذ ان أرخى الليل سجومه على أعمارنا وحياتنا وشبابنا . وما أخطر أن يستفيق الاسير من حلمه وخياله الواسع . لانه عندها سيجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهم : وهما إم الجنون : وإما اليأس: وكلاهما يقودان الى حالة من الضياع والسقوط في مستنقع التسليم والركوع والمهادنة وانتصار نظرية السجن على الاسير . فالخيال والحلم هما الزاد الذي يقتاد عليه الاسير ويرفع منهما الى الله تسابيح الانسانية التي تخفق في جوانحه . ويمدانه بأمل البقاء والصمود وقوة الارادة لتوكيد انسانيته وحق شعبه بالحياة . فالنحلم يا رفاق القيد جميعا لكي لا نخلع ثوب الشهوة للممارسة الحب مع الشمس . وبالامل الصاعد لجلاء المحتل . لكي يعرف هذا المحتل أن احلامنا واحلام اطفالنا تتحدى بشاعتهم وبشاعة فسفورهم الابيض وجرائم الابادة التي ينفذونها بحق شعبنا . وان حقنا بالحياة والحرية يتحدى كل اساطيلهم الحربية . وأن الفكر الحر الواعي سيحطم كل اساطيل سياستهم الاحتلالية فلا منطق يتحدى منقطقنا ولا عدل يضاهي عدلنا وحلمنا بتحقيق العدالة لشعبنا . فالنواصل الحلم حتى يعود العشب اخضرا لفلسطيننا وحتى نعيد رسم الوطن اللامتناهي في اعماقنا . فنحن صامدون ان صادروا حريتنا ان صادروا طفولة ابناءنا ومنعوا تزاوج احلامنا : فانا صامدون: لو غرسوا كل سلاسل القيد في اعناقنا وسدوا على اعمارنا كل منافذ الحياة: انا صامدون:وسنبقى نخطو فوق جراحنا لننسج من خيوط الحزن افراحا فلسطينية . وحتى نرى من وراء الافق نهارا جديدا نكون به اسيادا لانفسنا لا عبيدا للاحتلال . وسنبقى نتحدى ونتحدى حتى نقتلع كل طحالب الاحتلال من ارضنا ونطهر كل البلاد من اسمائهم وسوالفهم المتدلية من اصداغهم على ترابنا وفوق ارصفة شوارعنا . فمن اراد ان يرى القبور هنا صفوفا منتصبة في وجه صناع الموت والاسرى بداخلها مثل شواهد المقابر شامخين من وراء الابواب المغلقة أمام عنجهية المقابر وعشاق الظلام الذين يخافون من النور ويطلقون النار على قرص الشمس . فليأتي الى سجون ومعتقلات اسرائيل وسيسمع اهازيج المقاومة وأناشيد اسرى الحرية الواثقون بالنصر والمصممون على التضحية . نحن ابناء فكرة تحملها العواصف من جيل الى جيل ولن تهزمنا السجون ولن تهزم فكرتنا ومعتقدنا الثوري . وسنبقى الى ما لا نهاية نحدق من وراء حجاب الموت وجدران القبور الى اعماق الحياة . ولن نسمح لسدائل الليل ان تسدل ستائر الدجى على اعمارنا وحياتنا . ولاننا ابناء شعب يستحق الحياة والعيش بحرية وكرامة شمرنا عن سواعدنا وقبلنا بنادقنا واطلقنا ارواحنا في صداءات الوطن لتطارد كل الغزاة المارقون على تاريخنا وحضارتنا . وها نحن اصبحنا نعيش في ظلام السراديب المهم هو ان يبقى شعبنا وفي لآلامنا وأن يساندنا على اقتلاع القضبان الحديدية من صدورنا . وأن يتذكر شعبنا دوما أن هناك في ظلام السجن رجال أنهو عامهم الثلاثين في قبورهم الاعتقالية وهم لا يزالون على قيد الحياة أو بما يسمى (بالحياة) بل انهم منذ ربع قرن من الظلام ينداون كل الثائرون في نور النهارات وتحت عباءة الشمس دون ان يسمعهم احد أو يستجيب احد لندائاتهم . لذلك صاموا عن الكلام بعد أن أذبلت على اعمارهم واسمائهم كل ستائر الدجى وأصبحوا مجرد بوستر في ذكرى السابع عشر من نيسان . فهل من شعب يرفع الستائر عن أسمائهم ويعيدهم من رحلة الغياب الطويل؟ أم ستتسع موسوعة جنس لاسماء جديدة تنضم للائحة الارقام القياسية ؟ وهل سيكون مصير من يسمون بالاسرى الجدد مصير (كريم يونس ) (ابو الناجي)(فخري البرغوثي)(ابراهيم عليان)(ابوشادي الطوس) . وغيرهم من قائمة طويلة يصعب حصرها؟ أم سيكون هناك خطة وطنية استراتيجة تضمن اطلاق كافة سراح الاسرى والاسيرات بعيدا عن الشعارات الانتخابية والتجاذبات الحزبية بعيدا عن توظيف قضية الاسرى بجذب الناخب الفلسطيني الى صندوق الاقتراع؟ فاذا كان المفاوض الفلسطيني لا يستطيع اطلاق سراح الاسرى القدامى وعشرات الاسيرات هل سيكون لدينا ثقة بان تحرر عبر المفاوضات البلاد والمقدسات والشعب الاسير ؟