عناصر لقراءة النصوص الفلسفية
إن اقتراح طريقة لقراءة النصوص الفلسفية قد تبدو كمخاطرة أو شهادة على ثقة مبالغ فيها، ذلك أن مجموعة من العوائق العملية منها أو النظرية تتعارض مع هذا المشروع.
فأي وضع يمكن إعطاؤه لمثل هذه الطريقة؟ وكيف نحدد موضوع هذا البحث؟
نريد أن نبين أولا وقبل كل شيء أنه إذا كان لهذه العوائق بعد فلسفي حقيقي، فمن الممكن تجاوزها لاعتبارات بيداغوجية: فالطريقة هنا لا يمكن أن تعفي من العملية التحليلية ولا أن تقوم مقامها، ولكنها يجب أن توجه وتقوي القارئ الذي ينبهر أمام الصعوبات القصوى أحيانا، وأحيانا أخرى يشعر بالإحباط والحيرة.
1.مشاكل الطريقة:
إن مفهوم الطريقة ملتبس، ويتضمن هذا اللبس 3 أصناف من الصعوبات:
أ.متاهة الحدس الأولى (بادئ الرأي).
إن اعتبار الطريقة هي أولا مجموع التوجيهات التي نقدمها لتفسير النص، هي مجرد بادئ رأي (أو حدس أولي) وهكذا فالطريقة هنا تتشكل من مجموعة من الوصفات، وطرق العمل. يبلورها كل مدرس عن طريق تعميم عاداته الخاصة في القراءة، والتوجيه الأساسي تتم صياغته على النحو الآتي: "يجب أن نتعلم كيف نقرأ"، ومع ذلك لا يتم توضيح قواعد القراءة طوال المرحلة الفاصلة بين البكالوريا والتبريز. وهذا لا يمنع أن بعض المدرسين يقدمون لتلاميذهم تحاليل على درجة عالية من الوضوح. ولكن المحلل يختفي وراء ما يحلله والمهارة في التحليل يصعب تحويلها إلى طريقة. وهكذا على عكس ما نتمنى يتقوى لدينا الشعور بأن من يقرأ هو الذي يعرف كيف يقرأ، أو أن التفلسف غير قابل للتعلم، أو على الأقل مثلما يتم التعلم في ميادين أخرى. يبدو أن مثل هذه المقاربة بمبرر "الحدس الأولى" تجعل الفلسفة لا تقدم نفسها إلا لمن كانوا بطبيعتهم أو بحرفتهم، فلاسفة بشكل مسبق.
ب.حدود اللسانيات:
قد تستهوينا إمكانية تأسيس الطريقة على علم مكون للخطاب الفلسفي، والتي يكفي تطبيقها على هذا النص أو ذاك وقد نميل إلى الاعتقاد فعلا، أنه على شاكلة ما حصل في مجال الأدب حيث مكنت عطاءات اللسانيات من تحديد عادات التحليل على المستوى الأسلوبي والحكائي، بأن الفلاسفة سيهتمون بمقترحات تحليل الخطاب هاته، في حين أنه ودون الدخول في تفسير الأسباب التي منعت هذا التوجه. سنلاحظ أن جملة من الأسباب العامة تفسره بشكل جيد. فأي لسانيات نختار؟ أية مدرسة؟ وأي نوع من المقاربة: السيميولوجية، أم البراجماتية، أم القاموسية، وهل العلاقات قوية بين اللسانيات وتحليل الخطاب.
نحن إذن إزاء مادة تعيش في تحول مستمر، حيث تتقاطع وتتباين المدارس المختلفة بشكل دائم ، إن في طرق اشتغالها أو في مواضيع التحليل التي تختارها. ومن جهة أخرى فالميل هنا إلى اختيار دون آخر، يلزم باختيارات أساسية على مستوى طبيعة اللغة واللسان والخطاب. وهكذا فالمشاكل الابستمولوجية تحيل هي بنفسها، إلى مواقف هي في نهاية المطاف ذات طبيعة فلسفية. ها نحن سجناء للفلسفة، على الرغم من أننا كنا ننوي السيطرة عليها موضوعيا من الخارج. إن الطبيعة العلمية لنظريات الخطاب تشكل حلما أكثر منه واقعا. كما أنه عوض أن نسقط بعناء مقولات تبلورت في إطار نظري متقدم – ولكن قابل للتجاوز غدا- من أجل ربح فهم نصي محدود، من الأفضل استعمال بعض المقولات المؤكدة لتحلل النص (عبارة Ennoncé، تعبير Ennonciation، روابط Embrayeurs...) فعموميتها تسمح بتجاوز ملاحظات الحدس الأولى، والانفلات من الامبريقية. ولكن تعريفاتها واستعمالاتها ليست مرتبطة فقط باللسانيات.
ج.صعوبات فلسفية:
من الواجب إذن أن نخلص إلى مقاربة قراءة النصوص الفلسفية من زاوية نظر فلسفية صرفة وذلك بأن نبلور بأنفسنا مقولات تحليلنا.
ولكننا نصطدم بعائق ثالث، قد يكون تجاوزه أصعب من العوائق السابقة.
وبالفعل، من ناحية التعريف، يبدو أن أي مشروع فلسفي –وهذه خاصية نوعية- يبلور أو يدعي بلورة شروط مشروعيته الخاصة، يعلن إذن حتى عن قواعد القراءة الممكنة.
هذا البناء هو في انسجام مع "القضايا" التي تم تحليلها من ناحية فلسفية عامة، إلى درجة أننا سنكون سجناء داخل كل مشروع. لنلاحظ الطريقة التي ينصح بها فتجنشتين لاستعمال كتابه: "إن قضاياي مبينة انطلاقا من أن من يفهمني يدرك في النهاية أنها بدون معنى، إذ أنه إذا اعتمدها، أو وظفها أو تجاوزها، واستطاع الخروج منها. فمن الواجب أن يتخطى هذه القضايا، وبذلك يكتسب تصورا سليما للعالم".
يتضح إذن أن فهم كتاب فتجنشتين، هو فهم لاستحالته. فالمؤلف يدعونا إلى قراءته، في نفس الوقت الذي يجعل منها قراءة مستحيلة. وبالتالي إذا كانت كل فلسفة توضح شروط إمكانية أو استحالة قراءتها، فإننا نكتشف هنا ظاهرة عامة من أجل الانفلات من التناقضات التي تجعل من الفلسفة مصادمة دائمة.
بإمكاننا أن نتجاوز هذه الصعوبات، حين نسجل أن كل المؤلفات تؤسس نظرية عامة للمعرفة، للمعنى وللغة، وهذا ما يسمح باستخلاص تأويل أو نظرية لإنتاج المعنى، مثلا نجد ماركس في: "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" يبين لماذا لا تظهر مقولات التحليل المادي إلا في لحظة معينة وخاصة من تطور نمط إنتاج الاقتصاد الرأسمالي. ولكننا نرى أن الموضعة السابقة للدائرة تساوي أيضا هنا أن صواب الطريقة المقترحة تتوقف على شرعية الأسس الفلسفية التي تقوم عليها، وبالتالي فمعايير تقويمها هي في النهاية داخل هذه الفلسفة نفسها. فالجميع يريد الانفلات من دائرة التفسيرات، ومع ذلك فالجميع ينخرط داخل الحركة التي بواسطتها يريدون الانفلات وهذا يؤكد على الأقل أننا نواجه عديدا من الظواهر العامة المعبرة عن الخصوصيات النوعية للتفكير الفلسفي.
ولكن ما السبيل إلى السيطرة عليها؟ هل يتحقق ذلك بواسطة الفلسفة؟ وهذا يتعارض مع التأكيدات السابقة. أم بواسطة مادة غير فلسفية؟ وهذا يهدد بالسقوط داخل المتاهات التي سبقت الإشارة إليها.
أمام هذه العوائق المنهجية الثلاثة، نكون فريسة لمأزق: من جهة نجد أنفسنا مسلحين بنظريات "قوية" تمت بلورتها بدقة، وتقدم تصورا عاما للمعنى. وسواء كانت فلسفية أو لسانية فإنها لا توفر سوى فائدة عملية محدودة. ومن جهة أخرى تقدم لنا تعاليق أحيانا مفيدة جدا، ولكنها غير قابلة للتحول إلى طريقة، إما لأنها معتمدة على موقف داخل الرقعة الفلسفية، أو لأنها لا تضيء إلى مظهرا جزئيا من النص.
2.كيف نتجاوز هذه الصعوبات:
نحن نفهم أن تعلم القراءة لا يمكن أن يكون إلا فلسفيا، ولكن لا شيء يمنع من التفكير، دون أن يعني ذلك أنه يجب أن نخلص إلى إثبات لا جدوى محاولة ميتودولوجية.
وفي الحقيقة –وهذا هو الدرس الثاني لهذا التفكير المسبق- فإن تحليل العوائق ينتهي بنا إلى الوعي بخصوصية الفلسفة: إنه نص ذو بعد كوني، ومن أجل بلوغ هدفه، عليه التخلص من علامات خصوصيته. وهذا ما تؤكده بشكل جلي كل نظرة نلقيها على التاريخ. ففي نفس الوقت الذي نجد فيه مشروعا فلسفيا يؤسس نظرة فردية (وجودية مثلا) أو ينكر إمكانية الجمع، فإنه لا يسعى بشكل أقل إلى تعميم نظرته (وهكذا نجد كبر كجارد يؤكد أن الذاتي هو الكوني). وهذا يشجعنا على البحث عن الميكانيزمات العامة التي يتم إنتاج الفلسفة من خلالها عبر النصوص: يبدو أنه على الرغم من تعدد الأنواع، والقضايا، وأساليب العرض، يمكن السيطرة على وظائف جد عامة، تحدد ما الذي بواسطته يكون نص ما نصا فلسفيا فعليا.
وفي الحقيقة، فإن قارئا متيقظا سيدرك بشكل حدسي، أنه فيما وراء الاختيارات الإيديولوجية، ونوعية النصوص (حوار، تقرير، ملخص، رسالة) والسياقات الاجتماعية والتاريخية، يمكن تبين ظواهر عامة.
وقد سبق لنا الوقوف على اثنين منها: فكل نص فلسفي يحاول ضبط علاقة الخاص بالكوني وما يجعل الفلاسفة متناقضين، وما يقرب بينهم.
ولكن ظواهر أخرى سوف تواجهنا ومن ذلك مثلا أن كل فلسفة ملزمة سواء بشكل ضمني أو صريح أن تثبت إمكانية عرضها الخاصة (انظر قولة فتجنشتين أعلاه، وتأمل أيضا مشكلة الشكية le scepticisme) فكل فلسفة مضطرة للقيام باختيارات أمام الضرورة الثلاثية التي تحكم انتظامها: نظام الاكتشاف النظام المنطقي نظام "الأسباب" ونظام العرض ... ولكل فلسفة طريقتها في حل مشكلة التنظيم. ومع ذلك واعتبارا لأن كل فلسفة يجب أن تحل هذه المشكلة، يمكن بناء نمط لأشكال الحل. فداخل كل جزء يمكن أن نجد حصة للمفاهيم، والمجازات، والأدلة، والعمليات التي تهيكلها هي بدورها قابلة للكشف.
فدون ادعاء إمكانية تقديم نظرية عامة للخطاب الفلسفي، نعتقد أنه من الممكن اقتراح حل وسطي، غير ملتزم بإشكالية محدودة، ولا متوقف بشكل مباشر على نظرية للخطاب ضعيفة الأسس. ففي أي اتجاه نستطيع أن نسير لنجد هذه الطريقة؟ إن عليها أن تتجنب اختصار النص في بعد واحد، كالحجاج، أو التحليل المفاهيمي، فالفلسفة تحاجج، ولكنها ليست فقط حجاجية، وهو بعد غير واضح في كل الحالات، إذ يمكنها أن تشتغل بواسطة أساليب أخرى للتعبير، كالتهكم، والسخرية عند نيتشه، أو الحث والبناء عند ابيكتيت.
إن نصا ما ليس فقط مجمعا مركبا بشكل تراتبي، ولكنه أيضا متسلسل في خطية هي زمن الكتابة. يتقاطع هذان البعدان بفضل سلسلة من المرجعيات الداخلية، تعطي لكل لحظات النمو حضورا متميزا ومشتركا. إن المشروع الفلسفي سواء تم تقديمه على شكل تقرير استنتاجي أو حكم متميزة هو كل يتناسل ويتفكك، منفتح على العالم والمعنى، ولكن أيضا منكفئ على الفضاء الذي يكونه. إنه كل متحرك تحركه حركة داخلية تنشر شبكة افتراضات خطابية حسب قواعد ونظم قابلة للتوضيح والتحليل.
3.من أين نبدأ؟
إن الارتباط الذي أشرنا إليه بين الأبعاد المكونة للنص الفلسفي واضح منذ اللحظة التي نأخذ فيها بين أيدينا أي كتاب: العنوان، فهرس المواد، المقدمة، وهي عناصر تمدنا بنظرة شاملة ومسبقة عن الكل. ولكنها تتضح بشكل رجعي خلال القراءة المفصلة. فنحن لا نتعمق في فضاء فكري إلا حينما تغتني قراءتنا لمقطع بالمحصلات الجزئية السابقة. فالنص يصبح مفهوما بفضل التنشيط المتجدد دائما، فكل لحظة ترتكز على التي سبقتها أو تستبق التحليلات اللاحقة. فالغرابة المبدئية لأسلوب ما، لطريقة خاصة لامتلاك المفهمة الفلسفية، تخلي الطريق تدريجيا لألفة، تجعل القارئ قادرا ليس فقط على أن يعبر بسهولة مرة أخرى الاتجاه الذي يقترحه النص، ولكن أيضا قادرا بدوره على أن يولد من النص، بتشغيل الميكانيزمات الفكرية –تلك التي استخدمها هو أو التي يستخدمها النص- أن يولد امتدادات للمذهب، أو توضيحا لما هو ضمني أو تطبيقا على مجالات وموضوعات جديدة ... إلخ.
من أجل الوصول إلى هذه الألفة إذن، تجب القراءة، وإعادة القراءة، ولكن هنا تبدأ الصعوبة: كيف نتجنب التيه في ظلمة المصطلحات، أو في متاهة الحجاج، كيف نميز ما هو أساسي؟ ماذا نفعل بالصور، والأمثلة، بالمنعرجات التي تبدو أنها تكسر نمو عملية التفكير؟ فالتركيز ضروري، وحتى العناد أحيانا، ولكن حتى ولو مارسنا ذلك بذكاء، واعني بذلك عن طريق التحكم في المجهود الذي نسميه الطريقة، فليست هناك طريقة واحدة. في حين أن هناك قواعد للقراءة، وتكييف قراءتنا الخاصة لكل نص. صحيح أن كل فلسفة تصل إلى درجة إملاء شروط قراءتها الخاصة. ولكن القراءة يمكن أن نجد لها خططا مشتركة، ويمكن أن تخضع لتجارب مشتركة. وهذا الكتاب موجه لتسهيل هذا البحث، بإعطاء عناصر ليس بإمكانها أن تعوض العمل التفسيري، ولكنها تسمح بالإعداد له.
فقراءة نص ما، معناها المواجهة المباشرة للعمليات التي تؤسس معناه، وتحقق له وحدته وهو ما يدفعنا إلى تفضيل دراسة الوظيفتين التاليتين.
الوحدة المعطاة بواسطة المؤشرات الداخلية
الوظيفة الأولى تتشكل من كل ما يحقق للنص انسجامه الداخلي، من مؤشرات تسمح بالتسلسل الخطي للقراءة، إرجاعات Renvois بين الفقرات المتفرقة. أن نقرأ، معناه اعتماد حركية دائمة، تربط وتتابع مراكمة مكونات الجملة الواحدة والجمل فيما بينها، لتشكيل وحدة شاملة للمعنى.
فالقراءة تتم بهذه الطريقة في البعد الخطي للزمن، بسبب الإكراه الذي يفرضه التركيب المادي للمكتوب، ولكن أيضا في توالي افتراضي حدوده هي نفسها تلك التي لقدرتنا على التذكر. وبتصريف هذين البعدين نفتح آفاقا محدودة لقراءات متجددة، التي تتبع أثارها الخاصة، أو تغير مكانها بحركة أو قفزات، تشكل الأساس الذي يتبلور من خلاله التعليق، أو الحاشية أو التأويل. أن نقرأ معناه أن نمارس عملا متزنا لفك الترميز، لنبلغ في آن واحد البنية الكلية والديناميكية النصية، ولكنها في آن واحد عملية إعادة تركيب لفصول ممكنة، يسمح بها الجهد التحليلي أو الهم التأويلي. فالقارئ يحرك بدون توقف التجانس الخطي الجامد، ويعيد توزيع العناصر المكونة من خلال عملية تجريب مستمرة. يقتضي الأمر إذن الكشف عن القواعد، والقضايا، وأساليب الحجاج، إما من خلال علامات أو ممرات، أو قضايا مصرح بها داخل النص من طرف مؤلفها، أو الكشف عنها من الخارج عن طريق تنويع هذه الثوابت Paramètres المختلفة.
هذه الملاحظات تبين لنا أنه من الصعب أن نحدد بشكل قبلي وحدة للقراءة، ما دامت حدود النص هي بالضرورة غامضة، بل أكثر من هذا فالتقطيع إلى جمل، وفقرات أو فصول تشكل هي أيضا مؤثرا. وبالفعل فهذه البياضات "التيبوغرافية" المفصلة بعناوين، وأرقام هي إطارات للقراءة، ويلزم أن تؤول بدورها. لأن تقطيع الكتلة الخطابية إلى مجموعات فرعية، لها أيضا دلالة فلسفية، ولا تدوم مع تشكل المعنى.
وهكذا فمقطع من نص ما، لا مصداقية له إلا في الحد الذي نعتبره فيه لحظيا، مثل التثبيت المؤقت للحدود التي تتحرك وتتجانس، وحدة متحركة فيها فراغات يعيد التحليل إدماجها هي بدورها داخل مجموعات متموجة وإذا كان من غير الممكن ضبط حدود الجزء أو "العنصر الفلسفي "PILOSOPHEME" الممثل للحد الأدنى من وحدة المعنى. نستطيع مع ذلك، إذا ما تموقعنا في قلب الخطابية Discursivité الملموسة، أن نحدد ما هو الحد الأدنى لمكونات النص الفلسفي.
فلا الحد الأدنى لوحدة المعنى، ولا الوحدة النصية الشاملة غير قابلين للتحديد المسبق، على الرغم من كونها هي أيضا مطروحة من خلال علامات تيبوغرافية أو مادية (الوحدة الفيزيائية للنص).
فهذه العلامات تشكل لمؤشرات التي يجب أن تؤول، وتظهر أحيانا خارجة عن تقسيم تؤسسه القراءة التي تبني تدريجيا مجموعاتها الخاصة. وفي الحدود التي تصاحب فيها القراءة بمسبقات، ورجوعات إلى الوراء، وحواشي وبمرجعيات متعددة، وهكذا يتجلى التركيب النصي تدريجيا، وترتسم آنذاك شيئا فشيئا آفاق متتالية توسع قراءتنا وتحددها في آن واحد.
هكذا إذن ننتقل من قراءة نص محدد إلى قراءة وحدات نصية أكثر شساعة، فالقارئ يجب أن يوضح هذا الأفق حسب المؤشرات المعطاة من طرف الفيلسوف نفسه، أو حسب مستلزماته الخاصة (فدرجات وأنماط التفسير تتغير حسب غايات التعليق). هذا العمل يسمح في آن واحد بفهم أعمق للفقرة، وبدراسة الطريقة التي بواسطتها تتشكل المذاهب داخل مجموعات منسجمة، على شكل نسقي أو حسب أنماط تنظيمية أخرى.
هذا التحليل للأشكال الكبرى للتنظيم النصي، يصبح أكثر صعوبة لدرجة يلزم معها في نفس الآن اعتبار المظاهر الديناميكية (التكون التهييئات الإذابة، التصدع، تنوع أنماط الصياغة) والمظاهر البنيوية (التراتبية المفاهيمية، التيماتيكية، العلاقات بين المضمون المذهبي وأنماط العرض التي يسمح بها).
إن صعوبة القراءة إذن هائلة، فمن جهة يمثل الجزء وحدة متموجة تستدعينا تحت السلسلة الخطية، لتحليل التركيب النصي المتشكل من عمليات فلسفية أولية، ومن جهة ثانية فهذا الجزء يندمج داخل مجموعات أكثر شساعة ذات أبعاد متحولة هي أيضا، سواء كانت متقاربة، أو موضوع بعضها فوق بعض، أو مبنية عرضيا عبر البناء العام للكتاب.
سنتعرض لدراسة ظواهر التوحيد النصي بعد إيضاح تحليل العمليات المكونة للخطاب الفلسفي.
الوحدة المعطاة بواسطة الوظيفة التصريحية (المتكلم)
الوظيفة الثانية تتعلق بكل ما له علاقة بالوحدة التي يمنحها الاسم الشخصي، من خلال الوظيفة - المؤلف، عبر الصوت الذي يتضمن النص، أو يختفي وراء موضوعية المفهوم.
هذه العلامات التصريحية تتيح فهم كيفية انتظام أساليب العرض، شكل إجراءات التفكير، توزيع الكلام، ترتيب وجهات النظر. وبمباشرة القراءة، ننخرط داخل نسق من العلامات التي تعين لنا مكاننا، وتحدد لنا دورنا – وهي تتعلق بما يجب أن نفهمه أكثر مما يسمح بنا بالفهم: النبرة، الصوت، أحيانا بيضاء وكأنها مشلولة، وأحيانا أخرى مطبوعة ومحملة بانحناءات صوتية فردية ومعروفة.
وهكذا فالنص كله معلق بحضور تم تغييبه، ولكنه ترك في الفراغ علامة مميزة. لا نريد أن نتحدث عن حضور ميتافيزيقي للكلام الفلسفي الذي يلزم أن نلهث للبحث عن حيويته فيما وراء النص، ولكن على العكس من ذلك يجب الحديث عن ضرورة البحث عن الكيفية التي تبنى بها النصوص بوضع العلامات، وبوضع صورة حضور أقل أو أكثر قوة. أنها تشكل النقطة الأساسية لتنفيذ المعاني، وفي نفس الوقت تؤطر شكل الحضور الفاعل للقارئ، إضافة إلى الأشكال التي من خلالها استدعاء أو استحضار تعدد الخطابات، وتجنيدها وعرضها في زاوية نظر فلسفية موحدة نقترح إذن أن نبدأ قراءة نص فلسفي بالبحث عن العلامات الواضحة أو المختفية للمرجع – هو في آن واحد داخلي وخارجي – والذي يعطيه مؤلف النص. وبتجميع هذه العلامات، نستطيع أن نرسم لوحة للفيلسوف في الفراغ، وأن نحلل الظل الذي يحمله عمل الكتابة ويطرحه بمقدار ما يتقدم.
نحن لا نقترح دراسة عامة لشروط إنتاج الخطاب الفلسفي، والتي كان يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الإكراهات المؤسسية والتاريخية التي تحدد بيانه.
لا يعني ذلك أيضا محاولة إعادة كتابة السيرة الذاتية في المؤلف، كما لو أن الطيف لازال يسكن قلعة النسق. نريد فقط، انطلاقا من دراسة داخلية، أن نستخرج العمليات التي بواسطتها يبني النص مرجعية للأبعاد السير –ذاتية (البيوغرافية) والمؤسسة، أو أنه ينبني بواسطة هذه المرجعيات. في إطار متواضع لتعلم القراءة، علينا أن ننظر أولا كيف طرحت الوظيفة – المتكلم، كيف تعمل على مفصلة التفكير كما تم تنفيذها كتابة. وهذا هو موضوع الفصل الأول.
مقدمة كتاب
"Elément pour la lecture des Textes Philosophies"
Frédéric Cossuta
Bordas 1989, pages : de 1 à 10.
ترجمة: ذ. حسن لشهب.
الرشيدية.