في ذكرى مولد فخر الكائنات

ذكرى قيامة الروح وولادة الحرية ونشور الخلق

الباحث الدكتور : عبدالوهاب محمد الجبوري

في مثل هذا اليوم المبارك من كل عام هجري – الثاني عشر من ربيع الأول - تهل علينا الذكرى العطرة ، ذكرى مولد فخر الكائنات وسيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم ، وهي ذكرى حية في قلوبنا ، تتجدد كل عام وكل يوم وكل ساعة في عقولنا وسلوكنا ، لأنها تعيش في أرواحنا وتسري في دمائنا وأجسادنا وتتركز في عقولنا لتصبح دروسها وعبرها منهج حياتنا وبرنامج عملنا ، ومثلما كانت منهجا للمسلمين والبشرية من قبلنا ستكون كذلك منهجا للمسلمين والبشرية من بعدنا حتى قيام الساعة ..

عندما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن الأرض تعرف العدل والمساواة ، وكان الأفراد والجماعات والدول يذبحون بعضهم والجلادون يصنعون بالعبيد ما طاب لهم من التلذذ والمتعة والقتل والاستعباد والذل والمهانة ، وكان الظلم والظلام هو اللون السائد على وجه البسيطة يوم ولد رسول المحبة والسلام والعدل والمساواة والإنسانية ..

فلما ولد صلى الله عليه وسلم تهاوت أركان الظلم من عليائها ، وتساوت حقوق الإنسان مع أخيه الإنسان، لا فرق لعربي على عجمي إلا بالتقوى، والناس سواسية كأسنان المشط لايفرقهم إلا العمل الصالح والصادق ، وانتشر العدل في نفوس الناس قبل أن تُدق به أعناق الظالمين في المحاكم ..

ولد الرسول الأعظم وأصبح الإنسان يستمتع بحواسه الخمس، فلا يرى إلا نوراً ولا يسمع إلا عدلاً، ولا يشم أو يتذوق إلا أطيب حياة، ولا يلمس إلا حناناً ومحبة ، وبمولده استنار الكون بطلعته البهية وتهاوت عروش الظلم والعدوان وأشرقت الأرض بهذا النور الوهاج حتى انقشع الظلام الذي كان يلف الأرض منذ عصور الجاهلية الموغلة في القدم ..

يا رعى الله ذكراك المقدسة ، يا غار ثور.. لقد كنت مبعث الحرية كما كان غار حراء مبعث الروح .. فأنت في جبل الخلاص وهو في جبل التجلي .. كان العالم قبل يوم محمد يعاني من تفكك الخلق وتحلل الرجولة وتغلب الأثرة وتحكم السفاهة ، فلما ظهر الرسول الكريم ، عليه أفضل الصلاة والسلام ، كانت شمائله وأفعاله رسالة أخرى في الخلق ..

كان تطبيقاً لقوانين الدين بالمثل وتعليماً لآداب النفس بالعمل وتنظيماً لغرائز الحياة بالقدوة ، فألفهم على المودة وجمعهم على المحبة والوحدة ثم جعل لهم من كتاب الله نوراً ومن سنته دستورا ورمى بهم فساد الدنيا فأصلحوا الأرض ومدّنوا العالم وهذبوا النفوس ..

إن ذكرى مولد الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم هي ذكرى قيامه الروح وولادة الحرية ونشور الخلق ، ومثلما كان مولده عليه الصلاة والسلام البعث الأول الذي طهّر النفس وعمّر الدنيا وقرّر الحق للإنسان ، فان البعث الأخير سيخلص الروح ويبتدئ رحلة الآخرة الأزلية ليعلن أبدا : أن الملك لله وحده ..

كان العالم يومئذ يضطرب في رق المادية وعبودية الشهوة وسلطان القوة الغاشمة ، فلم يكن للمثل الأعلى وجود في ذهنه ولا للغرض النبيل اثر في سعيه ولا للشعور الإنساني مجرى في حسه ولا للسمو الإلهي معنى في نفسه ، إنما كان حيواناً شهوته الغلبة ، مادياً غايته اللذة ، أنانيا شريعته الهوى ، ثم أسرف في البهيمية حتى جعل كل أنثى مباحة لكل ذكر ، وأسرف في المادية حتى اتخذ إلهه من خشب وحجر وفي الأنانية قتل أولاده خشية الإملاق ، فلما بعث الله الرسول محمد صلى الله عليه وسلم منقذا للبشرية ، تجلت المعاني السامية لغار حراء وتفتحت أبواب السماء لتمنح البشرية أعظم منحة وهبة : إلا وهي الإيمان بوحدانية الله ومعرفة سر الحياة والوجود ، فتنزلت الملائكة والروح على هذا (الهيكل) المنحل و(الجسد) المعتل فنفخت فيه هذا السر وتجسد معنى الخلود في حقيقة الله الواحد الأحد ..

كان العالم قبل يوم محمد يغط في قصور عقلي يقتل التفكير السليم وقصور جسدي يقتل التصرف الحكيم ، فلم يكن للأسرة نظام ولا للقبيلة قانون ولا للأمة دستور ولا للعقيدة شريعة ، وإنما طغيان عاصف يتحكم في الفرد ويسيطر على الجماعة..

فالأب يهب الموت والحياة لأبنائه بحكم الطبيعة ، والشيخ يفرض على عشيرته الأمر والنهي بمقتضى العرف ، والملك يُخضع نفوس الشــــعب باسم الدين والكاهن ينسخ العقول بقوة الجهل .. أما عامة الناس فهم أتباع من سقط المتاع ..

فلما بعث الله سبحانه وتعالى محمدا رحمة للعالمين بعث الحرية من مرقدها وأطلق العقول من أسرها وجعل التنافس في الخير والتعاون على البر والتفاضل في التقوى ثم وصل القلوب بالمؤاخاة والمحبة وأقام العدل والمساواة في الحقوق والواجبات حتى شعر الضعيف أن جند الله قوته وأدرك الفقير أن بيت المال ثروته وأيقن الوحيد أن المؤمنين جميعاً إخوته ، ثم محا الفروق بين أجناس الناس وأزال الحدود بين الأركان فأصبحت الأرض وطناً واحداً والعالم أسرة متحدة لا يهيمن على علاقاتها إلا الحب ولا يقوم على شؤونها سوى الإنصاف والعدل وليس بين المرء وحاكمه أو خليفته حجاب ولا بين العبد وربه وساطة ..


شخصيته صلى الله عليه وسلم

اتصف النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالخلق والحزم ، إذا قال فعل وعازماً صارماً إذا همّ أو أمضى ، عادلا إذا حكم ، حكيماً إذا تصرّف أو قضى ، جمع الله له عقلاً وافراً وخلقاً رضياً ويدا كريمة ونفساً عفيفة وضميراً نقياً وصدراً رحبا واسعاً وذهنا حاضراً ورأيا سديداً ونظرات بعيدة وتدبيراً حسناً ، اتسعت دائرة علومه ومعارفه من غير دراسة ولا مطالعة ولا جلوس إلى معلم ، إنما هي فطرة الله الذي أحسن كل شيء خلقه ..

لقد عرف النبي عليه الصلاة والسلام بالحلم عند المقدرة والصبر على احتمال المكاره وما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن أثما ( حاشاه صلى الله عليه وسلم ) .. وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فيأخذ الحق لها ، وقد يكره المتكلم ولا يكره الكلام إذا كان حقا .. وقد يحب المتكلم ويكره الكلام إذا كان باطلاً ..

كان يغضب ولكنه لا يحقد ويحزن لكنه لا يستسلم للحزن ، كان ابعد الناس غضباً وأسرعهم رضا ، لا يبارى في الجود والكرم والسخاء والنجدة والشجاعة والحياء وحسن المعاشرة والشفقة والرحمة والرأفة على الجميع ، وان كانوا من أعدائه..

كان يصل الرحم والوفاء بالعهد والعدل والأمانة والعفة والزهد في الدنيا والصدق في القول والتواضع مع علو منصبه ورفعة رتبته وأفضل قومه مروءة وأنبلهم خلقاً وأكرمهم معاشرة ومصاحبة وأحسنهم حواراً ومناقشة وأصدقهم حديثاً وأوفاهم عهداً وأعظمهم حلماً وأطهرهم سريرة وأبعدهم عن الفواحش والمنكر ، وكان يمازح أصحابه ويحادثهم ويعود المرضى والثكالى واليتامى ولو في أقصى المدينة ، ويقبل عذر المعتذر ويبدأ بالسلام والمصافحة ، يكرم من يدخل عليه وربما بسط ثوبه ويؤثره بالوسادة التي تحته ويعزم عليه بالجلوس ..

كان يكني أصحابه ويدعوهم بأحب أسمائهم ، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم انه كان لا يجلس إليه احد وهو يصلي إلا خف صلاته وسأله عن حاجته فإذا فرغ عاد إلى صلاته..

وقد وصفه الله سبحانه وتعالى بقوله (وانك لعلى خلق عظيم) وهو الخلق الذي أمره الله تعالى في قوله (خذ العفو وأمر بالمعروف واعرض عن الجاهلين)..



قوة المجتمع وبناء الوحدة الوطنية المتماسكة

وعلى هدي السيرة العطرة لفخر الكائنات تتجسد دروس وعبر أخرى خالدة هي العناية ببناء المجتمع المتماسك الموحد على أساس من إعداد الإنسان الفاضل المتحد مع نفسه أولا والموحد في مجتمعه ثانياً ، وفي هذا يقول الباحثون في السيرة النبوية ، كان لهذا الإنسان النصيب الأوفى من جهد الإعداد حينما جعله الإسلام مدار عملية مركزة لصياغته صياغة عقائدية أخلاقية وفكرية جديدة تستهدي بسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم..

وليس أوضح على مسؤولية الفرد تجاه مجتمعه من قوله صلى الله عليه وسلم : (لا يكن أحدكم إمعة يقول : أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت وان أساءوا أسأت ، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وان أساءوا أن تجتنبوا إساءاتهم)..

فكل فرد في المجتمع راعياً ومسئولا عن رعيته : القاضي في خصومه والرجل في أهله والمرأة في بيتها والعامل في معمله والفلاح في حقله والجار في جاره والقوي في نصرة الضعيف والسائر في امن الطريق والقادر في حماية العاجز ، وبهذه المسؤولية الجماعية تشعر الجماعة بقوة خفية تعينها على المحافظة على واجهة المجتمع موحدة نقية ، والأيمان ، الذي يأتي من سلطانٍ فوق سلطة الإنسان يدين به الخاضع له لأنه مطمئن إليه ، هذا الأيمان هو شرط الشروط في تكوين الإنسان المسئول المكلف ، أي المواطن الذي يراقب الله في علاقته بربه وبالناس أجمعين ، ومن هذا الإنسان المؤمن يتكون المجتمع الفاضل والمجتمع الموحد ويزداد تماسكاً على اختلاف أديانه ومذاهبه وطوائفه ، ذلك ما تلقيه ذكرى فخر الكائنات في روح الإنسان من دروس وعبر خالدة على مر الزمن ..

فأين هم العرب والمسلمون الذين تتجلى في سلوكهم وصفاتهم روح محمد وأخلاق محمد وغيرة محمد ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) ؟ في هذه الأيام ومع مزيد من الحزن والأسف يعيش معظمهم كقطع الشطرنج وأتباعا ، كعبيد الأرض وهمجاً كهمج الجاهلية ؟ وهل كان هذا ليحصل لو أنهم اتخذوا من أحكام الله منهاجاً ومن سيرة المصطفى علاجاً ومن حياة السابقين الأولين الأخيار قدوة؟

ولو كانوا كذلك لما ضعفوا ووهنوا وتخلفوا عن الأمم الأخرى في حضارتهم وقوتهم وعلومهم , ولما تجرأ احد على المساس بشخصية المصطفى عليه الصلاة والسلام والإساءة إليه والاعتداء على مشاعر اكبر كتلة بشرية على وجه الأرض تقارب المليار ونصف المليار من حيث العقيدة والهوية الدينية ، كما انه اعتداء على مشاعر الأسرة الدولية أيضا لان أبناء هذه الأسرة يقرون ويشهدون على إخلاص الرسول صلى الله عليه وسلم ودوره في التاريخ والحاضر والمستقبل .

ولما كانت ذكرى المولد ذكرى انطلاق الإنسانية من اسر الأوهام وطغيان الحكام وسلطان الجاهلية ، فما أجدر بالقلوب الواعية الحرة على اختلاف منازعها ومشاربها أن تستخلص الدروس والعبر العظيمة من الذكرى العطرة وان تخشع أجلالا لها ولصاحبها عليه أفضل الصلوات والسلام ، نبي الحرية والقيم والمبادئ الإنسانية وداعية السلام والمحبة والوئام ..

وإننا في العراق مهما أثخنتنا الجراح لكننا نقف صفا واحدا ضد محاولات التيئيس والتفرقة وزرع الفتنة الطائفية ، وأن أبناء الشعب العراقي واعون جيدا لهذه المخططات ويعرفون حقائق التاريخ ومشاعر الإخوة والمحبة التي عاشوا بين أحضانها آلاف السنين حق المعرفة ، ولن تنطلي عليهم كل محاولات الهدم والتشرذم والتفرقة تحت أي تسمية أو غطاء أو حجة ، لأنهم يعيشون في بلد يحترم الأديان وحقوق الإنسان ومعتقداته وشعائره ..

إن أبناء العراق (ومعهم أبناء امتنا العربية والإسلامية) يقفون صفاً واحداً بوجه كل من يحاول تشويه سمعة الأنبياء والكتب المقدسة لأنهم مؤمنون بان الرسل والأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) وكتبهم المقدسة هي كتب سماوية منزلة ومصدرها واحد هو الله سبحانه وتعالى وتدعو إلى نفس الأهداف والقيم والمبادئ..

صلوات الله وسلامه عليك يا رسول الله يوم ولدت ويوم بعثت ويوم انتقلت إلى الرفيق الأعلى ويوم تبعث حياً رحمة وشفيعا لامتك ، المسيء منهم والمحسن ، فهل يتعض المتعظون ويعتبر المعتبرون ؟

وأخيرا نقول كما قال الشاعر :

ولست أبالي حين أقتل مســــــــلما

على أي جنب كان في الله مصرعي

ولست مبدٍ للعدا تخشـــــــــــــــــعاً

ولا جــــــــزعا إني إلى الله مرجعي