جنود مشروع الهجرة النبوية


الهجرة حدث غير مجرى التاريخ، هكذا سمى الدكتور المرحوم شوقي أبو خليل كتابه عن الهجرة، والهجرة ليست انتقالاً من بلد إلى آخر بل هي هجرة من حال إلى حال، وكانت الهجرة أساساً متيناً لبناء الدولة الإسلامية.

ومن أهم عوامل نجاح الهجرة بعد معونة الباري جل جلاله، هو الاختيار الصحيح للجنود الذين سيقومون بحماية مشروع الهجرة، وهؤلاء الجنود هم:

1 ـ أبوبكْرٍ الصدّيق - رضي الله عنه -:
أبْلغ الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمْر الهجرة إلى أبي بكر - رضِي الله عنْه - تلميحًا لا تصريحًا، فلمَّا أذن لأصحابه أن يُهاجروا من مكَّة إلى المدينة طلب أبو بكر - رضِي الله عنْه - منه أن يَأْذن له في الهجرة، فأمْهله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قائِلاً: ((لا تعجلْ يا أبا بكر؛ لعلَّ الله يجعل لك صاحبًا)).

وفهِم الصدِّيق أنَّه قد يصاحب الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هجرته، فاستعدَّ وجهَّز راحلتَين تنقلانِه هو والرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى المدينة، فلمَّا أذن الله تعالى للنَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالهجرة وأخبر أبا بكر - رضي الله عنه – بذلك، فاضت دموعُ الصدِّيق من فرط السُّرور، وأخذ يقول: "الصحبةَ يا رسول الله، الصحبةَ يا رسول الله"، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الصُّحبة يا أبا بكر))، فبكى أبو بكر من شدَّة الفرح، وخرجا سرًّا في ظلام الليل إلى غار ثور.

ولقد جدَّ الكفَّار في البحث عن محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصاحِبه - رضي الله عنه - إلى أن وقفوا على باب الغار، فقلق أبو بكر خوفًا على حياة الرَّسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال له: "لو أنَّ أحدَهم نظر إلى قدميْه لأبصرنا"، فقال النَّبيُّ العظيم محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا أبا بكْرٍ، لا تحزَنْ إنَّ الله معنا يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما)).

فهدأتْ نفس أبي بكر - رضي الله عنه - وعادتْ إلى قلبه الطُّمَأنينة، وقال الله - جلَّ ثناؤه -: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40].

2 ـ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:
أمر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن ينام على فراشه قائلا: ((نم على فراشي وتسجَّ ببردي هذه الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنَّه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم)).

ودعا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - اللهَ - عزَّ وجلَّ - أن يعمي أبصارهم، فخرج - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد غشيهم النوم، فوضع على رؤوسِهم التراب؛ ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [يس: 9].

قال المرحوم عباس العقَّاد في تحليل شخصية الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "آداب الفروسية هي مفتاح هذه الشخصيَّة النبيلة، كانت القوَّة طبعًا في علي فطر عليه، وأدبًا من آداب الأسرة الهاشمية نشأ فيه، وعادة من عادات الفروسيَّة العمليَّة التي يتعوَّدها كل فارس شجاع".

3 ـ عبدالله بن أبي بكر - رضي الله عنهما -:
وكان دوْرُه هو استطلاعَ أخبار قريْش بمكَّة، والوقوف على ردِّ الفِعْل الَّذي أحدثه خروجُ النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - سرًّا، وما عسى أن يدبِّرَه زعماؤها لوقْف مسيرته؛ وبذلك يكون المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبو بكر - رضي الله عنه - على بيِّنة ممَّا يُحاك خلْفَه من مؤامرات، فيستطيع أن يتَّقيها، ويبلغ مأمنه في طَيْبة (المدينة).

4 ـ أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما -:
وكان دوْرها - رضي الله عنها - في الهجرة أن تأتِي النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصاحبَه - رضي الله عنه - بالماء والزَّاد وهُما في الغار، وظلَّت - رضي الله عنْها - على ذلك ثلاث ليال مُتعاقبة، تقتحِم الصَّحراء الموحِشة في رهبة الظَّلام، وهي صغيرة، ولا تبالي العيون والأرصاد التي تبعثها قريْش في الطَّريق من مكَّة إلى المدينة؛ لتظفر بمحمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم.

ولمَّا همَّ الصَّاحبان بالرَّحيل إلى المدينة جاءتْهما أسماء - رضِي الله عنها - بِما يَحتاجان إليه في رحلتهما من زاد وماء، وهمَّت بتعليقه في رحل البعير، فلم تجِد رباطًا، فحلَّت نطاقها وشقَّته نصفين، ربطت بأحَدِهما الزَّاد، وانتطقت بالآخَر، فقال لها المصْطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أنتِ ونِطاقاك في الجنَّة))، وسمِّيت بعد ذلك: بـ"ذات النطاقين".

5 ـ عائشة بنت أبي بكر - رضي الله عنهما -:
ولقد شاركت أسماءَ دوْرَها الخالد في الهجرة أختُها عائشة - رضي الله عنها - كما ترْوي معْظم كتب السيرة، وكانت لا تزال طِفلة دون العاشرة، فخاضت بذلك تَجربة أكبرَ من سنِّها الصَّغيرة، ممَّا أكْسبها نضوجًا فكريًّا ونفسيًّا مبكِّرًا، أتاح لها القيام بأدْوار كُبرى في مستقبل حياتها، ولقد كان اقتِحام ابنتَي الصِّديق - رضي الله عنْهما - ظلمات البيداء حاملتَين لأبيهِما وصاحبِه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حاجتَهما من الماء والطَّعام، غير مباليتين بما قد يُصيبهما من أذى - بلاءً أي بلاء، وجهادًا أجلَّ جهاد.

6 ـ عامر بن فهيرة - رضي الله عنه -:
وكانت مهمَّته في الهجرة مهمَّة مزْدوجة، أن يرعى غنَمَ أبي بكر - رضي الله عنه - نهارًا، فإذا أمسى قصد إلى الغار، واحتلب للنَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصاحبه - رضي الله عنه - وأن يتبع بالغنم مسار عبدالله بن أبي بكر بعد عوْدته من غار ثور إلى مكَّة، فيعفِّي على ما تركتْه أقدامه من آثار في رمال الصَّحراء، قوَّة إيمان وصدق عقيدة.

7 ـ دليل الهجرة "عبد الله بن أريقط":
إنَّ اختيار النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - والصدِّيق - رضي الله عنه - لعبدالله بن أريقط الديْلمي (وهو رجُل من كفَّار قريش)؛ ليكون دليلَهما في الطَّريق إلى المدينة - ليدلُّ على حسن الاختِيار؛ لأنَّ ابنَ أُريقط قد سلك بالنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصاحبِه - رضي الله عنه - طريقَ الساحل، الأمر الَّذي لم يرِدْ على خاطر قريش؛ إذْ لم يكن طريقًا مألوفًا في ذلك الحين.

وثمَّة شرطان أساسيَّان للاستعانة بخبيرٍ من غير الملَّة:
أوَّلُهما: أن يكون موثوقًا به.
والثَّاني: ألا يوجد من أهل الملَّة مثيل له، وقد توافر هذان الشَّرطان في عبدالله بن أريقط.