(الرسالة السابعة )
Lettres de mon moulin
Alphonse Daudet
بغــــلة البــابـــا
La mule du Pape
للكاتب: ألفونس دوديه
عربها: فيصل الملوحي
ليتك كنت معي ترافقني وأنا أطوف في ربوع البروفانس، لتشنّف أذنيك بأعذب كلام تلوكه ألسنة الفلاحين، فتلك ميزة رفعت ذكرهم في العالمين. كانت يتلذّذون حينن يحلّون بالأمثال والحكم والخيال البديع ألسنتهم.فلوأرادوا– مثلا–أن يذكروا رجلاً مُلئ قلبه حقدا، و شُحن بغضاء و حُبّب إليه الانتقام، لقالوا:هذا الإنسان لا أمان له... فكأنّه بغلة البابا التي صبرت سبع سنوات على ركلة قدم.
أُُعجبت بالمثل أيّما إعجاب، ورحت أتساءل في سرّي: لماذا احتفتظت بغلتنا البابويّة سبع سنوات بشهوة الانتقام ممّن ركلها؟! وبادرتُ إلى البحث عن أصل المثل وفصله، وأخذ مني البحث وقتاً غير قصير.
لم يستطع أحد هنا أن يُغيثني في فهم هذه المعضلة، حتى فرانسي ماماي النافخ بالمزمار، حافظ معتقدات سكّان البروفنس الشعبيّة وأساطيرهم الغابرة عن ظهر قلب، ولقد اتفقنا أن هذا المثل يصوّر جزءاًً قديماً من تاريخ ناحية أفينيون( في جنوب فرنسة )، وأنّ النطق به لا يختلف فيها عن هذه الصورة.
قال الشيخ النافخ في المزمار وهو يقهقه: لن تجد ما تريد في غير مكتبة متخصّصة في حشرات ( الزيز- التي تظهر وقت الحصاد).
أعجبتني فكرته، وبدت سهلة هيّنة، فمكتبة حشرات(الزيز) أمام باب داري، فلأذهب، ولأغلق بابي عليّ!! وسجنت نفسي ثمانية أيّام.
ماأروع هذه المكتبة: فالصعود إليها يبهرك، و قصائد الشعراء لاتفتر فيها ليل نهار! ونغمات الموسيقا لاتتوقّف الصنجات النحاسيّةعن إصدارها كأنّهنّ نادلات (عاملات) يقمن على خدمة الزبائن.
-ما أطيب تلك الأيّام التي قضيتها فيها!
بعد أسبوع من البحث – وأنا مستلق على ظهري- توصّلت إلى ما أبحث عنه، إلى سرّ احتفاظ هذه البغلة بشهوة الانتقام ممّن ركلها بقدمه على مدى سبع سنوات!!
توصّلت إلى قصّة بديعة لما تحمله من براءة الأساطير الشعبيّة، وسأنقلها إليكم بأمانة كما قرأتها صباح أمس في المدوّنة التي عفّرلونَهاالزمنُ، لكنّنا مازلنا نشمّ فيها رائحة الخزامى الجافّة، و تفيض علينا ببركات أبناء العذراء البارّين!
منْ لم يرأفينيون زمن البابوات فما رأى شيئاً يمتّعه، وما عاش حقّا، وحُرم لذّة الحياة، ولم يسعده قطار الاحتفالات في الأعياد. أبداً لن تجد مدينة على شاكِلَتها! مدينة لاتهدأ من شروق الشمس إلى غروبها.
انظرإليها: فمواكب الحجاج تترى، والطرقات تتناثر فيها الأزهار، والجدران يزيّنها ورق بديع، وأحبار الكنيسة المبجّلون يصلون من طريق نهر الرون، ترافقهم الرايات الخفّاقة ، مرفوعة على حواملها،وعسكر البابا في الساحة ينشدون أناشيدهااللاتينية،والإخوة الهواة بمزاميرهم، والبيوت تحيط بالقصر البابويّ الكبير تصدح جميعها من أقصاها إلى أدناها بنغمات واحدة، كأنّها نحل ترفرف بأجنحتها حول خليّتها.
أضف إلى كلّ هذا طقطقة آلة التخريم ومكوكها، وهي تحضّر حلّة القدّاس الذهبيّة.
هناك إلى جانب الجسر تسمع شَوْب أصوات: أصوات مطارق النقّاشين الدقيقة، وأصوات آلات وترية يضبطها صانعوها، ثم أناشيد شعبيّة، ودقّات أجراس تهبط علينا من السماء يُؤازرها صخب قرع الطبول.هكذا كانت عادتنا: أن نرقص رقصة الدبكة ترافقنا ترانيم المزاميروقرع الطبول على جسر أفينيـون، ونسيم الرون العليل يداعبنا ( الرون نهر يمر عبرسويسرة وفرنسةجنوبا)، لانفتُر و لا نكلّ.. ربّاه!! ما كان أبهجه من زمان، وما كان أسعدها من مدينة! في السجون ما كان فيها سوى بلطات لا تؤذي، بل يُكرم فيها السجين بشراب لذيذ. مضى ذلك الزمان الذي ما كنّا فيه نجوع و لانعرى ولانتنازع على عرض زائل ولانتخاصم. هكذا كان بابوات المجالس يديرون شؤون العامّة ، فعرفوا لهم فضلهم، ولمّا زالوا تحسّروا عليهم تحسّرهم على فردوس مفقود!!
لا أنسى أبداً ذلك الشيخ الطيّب بونيفاس، لاأنسى دموع أفينيون التي انسكبت عليه عندما مات. مات ذلك الأميرالظريف المعشوق، مات من كان يبشّ لك وجهه، ويمنحك بركاته في رقّة وعذوبة إن مررت به وهوعلى ظهر بغلته – ولتكن من تكون في البلد: فقيراً معدما، أو عمدة معظّماً!. مات الأحقّ ببابوية ايفيتوالبروفنسية(منطقة على ساحل البحر المتوسط في جنوب شرق فرنسة)،مات من أضفى عليها بهجة في النفوس وحناناً في القلوب،مات عاشق ترابها مات من اتخذ من نبات صعترها البري قلنسوته.
ماكان لهذا الوالد الطيّب من همّ خاصّ سوى كرمته - وماهي في الحقيقة إلا كُرَيْمة- غرسها في شاتونوف وسط نبات الآس على بعد ثلاثة فراسخ من أفينيون.
كان من عادة هذا المبجّل كلّ يوم أحد أن يُروّح عن نفسه برهةً من الزمن، فبعد أن يخرج من صلاة العصر، يتوجّه إلى براحة من الأرض تدفئها شمس ساطعة، معه بغلته ومن حوله كرادلته يرقبون متاعه، فيجلس، ويُمتّع ناظريه بتأمّل كرمته، ويفتح زجاجة من خمرة العنب-هذه الخمرة اللذيذة الحمراء كأنّها الياقوت،التي سمّاها أهل شاتونوف شراب الباباوات– ويتذوّقها في رُشَيْفات حتى يُفرغها. فإذا انسحب ضوء النهار عاد إلى البلد مع مرافقيه تغمره السعادة. وإذا وصل جسر أفينيون، حيث الطبول والدبّاكون ( راقصو الدبكة )، غابت بغلته في الحشد، تفرح بفرحهم فتقفز مرحة سعيدة، أمّا هو فكان يراقب الرقص وعلى رأسه قلنسوته العجيبة، وكان هذا المنظر يزعج الكرادلة، ويُسرّ العامّة فيندفعون قائلين: ما أطيبه من أمير، بل ما أكرمه من بابا!!
تلك البهيمة بغلته كانت أحبَّ ما لدى ذلك الدرويش في هذه الدنيا - بعد كُريمة شاتونوف-. بل كان مدلّهاً بحبّها. وما آوى يوماً إلى فراشه قبل تفقّد زريبتها، والتأكّد من إغلاق بابها عليها، وكفاية معلفها، ولا نسي قطّ وهوعلى مائدته أن يحضّر ماعوناً من خمرة فرنسيّة معطّرة محلاة بالسكّر، ويقدّمها إليها بنفسه، غيرعابئ بامتعاض الكرادلة. والحقَّ أقول: إنّ البهيمة غير جديرة بكلّ هذا. فلم كلّ هذا لبغلة: لونها أسود تخالطه حمرة، وخطواتها متعثرة، وشعرها لمّاع. عجزهاعريض مكتنز، ورأسها ضامر تشمخ به، تغطّيه شرابات وضفائر و جُرَيسات وقطع معدنية من النقود، أمّا عيناها فتقرأ فيهما الغباء، وأمّا أذناها فطويلتان، فهي أرجوحة تترنّح، أو طفل أبله.
أوَلا تعلم أنْ كانت له في أفئدة كلّ سكّان أفينيون منزلة خاصّة؟ فإذا لاقَوْه وهو يتجوّل في الأزقّة عبّروا عن تقديرهم بأفضل ما يستطيعون، لقد أيقنوا أنّ هذاالتصرّف خيرما يفعلون ليكافئوه على طيبته، وليرقّ لهم قلبه في المحكمة.
أمّا بغلة أبينا فقد جلبت الحظ لأكثر من واحد!!ولاأدلّ على الأمر من مغامرة تيستي فيدين الفريدة!
.
إذا ذكرالناس تيستي فيدين فأول مايستهلّون كلامهم بهذه الكلمات: ذلك الصعلوك القذر. اضطرّ أبوه النقّاش في الذهب إلى طرده من بيته، فقد دأب على تنفير المتدرّبين عند أبيه. لقد رأَوْه خلال ستة أشهر يتسكّع قرب سواقي أفينيون، وبخاصّة دار البابا. لقد أضمرهذا الخبيث في نفسه أمراً لبغلة البابا منذ أمد، وستكتشفون حيلته.
وفي يوم كان قداسته يتمشّى في داره وحده، وماكان يرافقه إلا بهيمته، دنا منه تيستي، وقال له بنبرة الإعجاب وهو يعقد يديه:
- ياإلهي، أيّها الحبر الأعظم، ماأروع بغلتك!!أتسمح – سيدي البابا- بأن ألقيَ نظرة على هذه البغلة الحسناء، إنّها بغلة عزيزة الوجود، فما لها مثيل حتى عند(إمبرطور) ألمانيّة!! ومدّ يده يداعبها، ويخاطبها برقّة كأنّه يكلّم آنسة حسناء!!:
- تعالَيْ يا جوهرتي، يا كنزي الثمين، بل درّتي الفريدة!
فاهتزّ لهذه الكلمات كيان البابا، وقال في نفسه:
-ما أطيب هذا الفتى، و ماأرقّّه وهو يداعب بغلتي!!
وفي اليوم التالي، أتدرون ماجرى؟ مع بزوغ فجرذلك اليوم استبدل تيستي فيدين بسترته المهترئة المصفرّة صدريّة بنفسجيّة من الحرير يرتديها عادة الرهبان، ونعلين ذي أزرار.
صارمن الحاشية، ودخلمكاناً ماكان يطأ عتباته غيرُأبناء النبلاء وأبناء إخوة الكرادلة. تلك كانت غايته، لكنّ تيستي فيدين لم يتوقف عند هذا.
تابع هذا الخبيث كيده وهو في خدمة البابا، ونجح فيه أيّما نجاح!!
كيف استطاع أن ينجز أمنيته؟ صرف عن ذهنه كلّ شيء، سوى البغلة التي بذل كل ما وسعه في خدمتها وما فاته أبداً أن يقدّم لها حَفنة من شوفان أو من قَشّ طريّ، أو أن يلوّح تلويح مهذّب بباقة من ورد وهو يرنو إلى شرفة قداسة البابا، كأنّه يقول:
ياساتر، لمن كل هذا؟ لا يحوزه غيرهذا البابا الصالح!! الذي أخذ يشيخ، وماله من الأمر شيء غير الحرص على حراسة الزريبةـ وتقديم ماعون الخمرة الفرنسيّة للبغلة، وماكان هذا الفعل ليسرّ الكرادلة، و لا البغلة!!
أمّا الآن فأخذت تلحظ - وهي تحتسي شرابها- حضور خمسة كرادلة مطوّعة أو ستة يجوسون خلال المعلف بجُبًبهم المخرّمة الذيول ( dentelles )، ومعهم تيستي فيدين حاملاً في حذر ماعون الخمرة الفرنسيّة.
وهكذا كانت البداية، بداية محنة بهيمتنا المسكينة! ومعاملتها الوحشية.
كان المدخل إليها عشقها تلك الخمرة المعطّرة التي تدفئ جسدها، و تركّب لها جناحين تحلّق بهما. هنا، في معلفها ، حيث تتنفّس، فتملأ خَياشيمها.
لم يكتَفَ أولئك الكرادلة الصغارالأوغاد الأبالسة بسرقة خمرتها، ولكنّهم بعد أن شربوا، والتهبت حناجرهم بالسائل الورديّ اللذيذ شد أحدهم أُذنيها،وآخر ذيلها، وثالث امتطاها، وأخذ بيليغيه يخزها بدبّوس شعره، وماكان يلذّ له وهو بين هؤلاء الصبيان الأراذل إلا إيذاء هذه البغلة الصبورفترتجف لضربات يديه،أمّا ركلات قدميه فكادت تقذف بها إلى نجم القطب، وربما أبعد. ماكان ذلك عبثا، بل لغاية يسعَوْن إليها لدى بغلة البابا، منها البركـة و الغفران!! كان الصبيان يعبثون بها، فما غضبت منهم وصبرت على إيذائهم، فقد كان كلّ همّها تيستي فيدين. حضّرت حافرها له، وما أكثرالرفسات التي بيّتتها لهذا الوغد، ذّلك لأنّه كان يؤذيها أشدّ الإيذاء بحيله القذرة، وبخاصّة بعد أن تشرب.
سيفعلها يوماً فيضاعف من تسلّطه عليها،- لا تظننَّ أن ما أقوله حكاية من نسج الخيال-، فقد حدث هناك في سدّة القصر العليا وشاهده مئتا ألف بروفانسيّ. هل تستطيعأن تتخيّل العذاب الذي تلقّته هذه البغلة البائسة: على سلّم حلزوني- تُخطئ عَـدّ درجاته - أخذت تقفز ساعة قفزات دائرية على غير هدى،وفجأة وجدت نفسهاعلى منصة عرض لوحها لا يزيد فيها على بندقة، وأنوارها تبهر العيون، وتحتها ألف من سكّان أفينيون. لم تميّز من بعيد عسكر البابا حراس الثكنة، ولا الراقصين على جُسَيْرلا يُرى من ذلك البعد إلا بمجهر، يمتدّ على خط فضّيّ، و كانوا جميعاً يبدون لها كالنمل الأحمر.
-آخ، ثمّ آخ أيّتها البهيمة المسكينة، ماأفظع ما روّعوكّّ به!!وانفجرت بصيحة ارتجّت لها جنبات القصر.
صاح البابا الطيّب وهو على الشرفة: ماذا هناك، ماذا فعلتم بها’
أمّا تيستي فيدين، فكان أسرع منها إلى الميدان، بعد أن آذاها كلّ هذا الإيذاء، فلما دوّى صوت صرختها، وانتفض البابا أخذ يتباكى، ويشدّ شعره، ثمّ قال:
-آخ، مولانا البابا،هذا ماترونه، إنّها بغلتكم.. ربّاه..الطف بنا،فما جرؤ أحد من قبل على اقتحام سدّة القصرالعليا.
-وحدها!!!
-نعم!مولانا البابا، وحدها!! انظر، ألا تراها في الأعلى، وطرفا أُذنيها يتدلّيان، كأنّهما خفّاشان!!
- رفع البابا المسكين عينيه، وقال: رحمتك... ياربّ... يعني أنّها جُنّت! كادت تقتل نفسها.... ألا تنزلين أيّتها الحمقاء!!
تلك البهيمة التعيسة، أكانت ترجو لنفسها خيراً من أن يُطلب منها النزول! ولكن أيّ سبيل تعبر؟ الدرج، كيف يمكنها أن تتخيل صعوده، أم المصائب التي أمامها، إذا داست عليها تفتّت سيقانها! حالة محبطة، ويأس مدمّر. دارت بها الأرض، فما كان منها إلا أنْ التفتت صوب تيستي فيدين وقالت له في نفسها:
-آخ، يالعين، صبرك عليّ..لن أنساك من رفستي صباح غد إنْ أبقاني الله إلى ذلك الوقت!!
أنعشت هذه الفكرة قلبها، ونفخت فيها بعض العزم لتنتصب على أقدامها! و بعد جهد جهيد مُكّنت من الوصول إلى الأعلى وخُلّصت من مأزقها برافعة وحبال ونقّالة.
هل تتخيّلون عظم الإهانة التي أصابت بغلةً صاحبُها البابا المحترم، أمن اللائق أن تُرى معلّقة في هذا العلوّ الشاهق، تسبح أقدامها في السماء كأنّها جُعَلٌ ربط بطرف خيط،، وأنظاركلّ الأفينيونيين مصوّبة إليها!؟
لم تنم بهيمتنا تلك الليلة، وأنّى لها أن تنام وهي تحسّ أنها لم تتخلّص من تلك المنصّة اللعينة، وانّ ضحكات المدينة من تحتها لا تفتأ تسخرمنها!! وكان عزاءَها أن تحلم للشقيّ تيستي فيدين برفسة من حافرها تثلج الفؤاد في الصباح. آخ، يا أصحاب،ستكون رفسة فظيعة يسمع دويّها أهل بامبيريغوست ( مدينة الأساطيرفي منطقة البروفانس الفرنسية ). أو تدرون ما كان يفعل تيستي فيدين، وهي تحضّر له هذا الاستقبال في الزريبة؟ لقد نزل نهر الرون وهو يغنّي على مركب للبابا ، وذهب إلى ميدان نابل (سُمّي الميدان باسم ميناء نابل الإيطالي ) مع عُصبة من فتيان نبلاء، كانوا يرسلون كلّ عام قريباً من عرش الملكة جان، فيتعلّمون آداب اللياقة وحسن التعامل مع الأخرين. ما كان تيستي من النبلاء،و كاد البابا أن يكافـئه بهذه البعثة لعنايته ببهيمته، وبخاصّة تلك الخدمة التي قدّمها يوم إنقاذها! إلا أن البغلة قضت على هذا الحلم في اليوم التالي!!
ويل للصّ! لقد رابه أمر، ولكن، ماهو؟ لقد خطر على بالها أن تعبّر عن مرارتها بهز أجراسها بعصبية، ولكن لا يهمّ الآن، سأتركك الآن أيّها الشرير، فستتلقّى وعدك برفسة من حافري بعد حين، وعداً عليّ لن أُخلفه!!
وإليكم الحكاية:
بعد رحيل تيستي عادت إلى بغلتنا حياتها المعتادة وراحة البال، وأمنت من ألاعيب يأجوج ومأجوج(كيكي وبيليغي). ورجعت أيامهاالحلوة بخمرتها الفرنسيّة،ومعهاالمرح والسرور، وقيلولة الظهيرة الطويلة، ورقصتها الريفية وهي تمشي الهوينا على جسر أفينيون. لكنْ ما كان لهذه الفرحة أنْ تكتمل، فأهل المدينةأخذوا ينظرون إليها بعد محنتها المريرة نظرة لا وُدّ فيها، ويتهامسون في شأنها حين تمرّ أمامهم، ويهزّ كبارهم رؤوسهم مستهزئين، ويقهقه الجهّال أولادهم ساخرين،حتى أبونا الطيّب، ماعاد ً إلى ثقته الكاملة بصاحبته. ولو حملت حملاً خفيفاً في يوم أحد وهوعائد من زيارة نخلته لأرعبته الصورة التي انطبعـت في ذهنه: أن يراها في العلوّ، على المنصّة.
كانت نفسها ترى هذا على البابا، فتتألّم في نفسها صامتة، وترتعش أذناها، وإنْ سمعت باسم تيستي فيدين ضحكت ضحكة مكتومة، وسنّت حديد حوافرها ببلاط الأرض.
عاد تيستي فيدين بعد سبعة أعوام من ميدان نابل. وماعاد لأنّ مدّة غيابه المفروضة قد انقضت، ولكنْ لوصول خبرمفاجئ بموت الخبيرالأوّل بالخردل(واضع البهارات في الطعام) في أفينيون، فطمع في هذا العمل الذي رآه حسنا، وأسرع للحصول على هذه الرتبة.
و دخل بهو القصر بحيله المعتادة، وحين رآه الأب الأقدس لم يعرفه ، لأنّ جسمــه تضخّم، وملامح وجهه تبدّلت، وأبانا الطيّب نفسه قد شاخ، وضعف بصره،فصارلا يرى إلا بعدسة. فما ارتجّ لتيستي جسد، ولا طرف له جفن!!
-أمعقول، يا أبانا الأقدس، ألم تعرفوني؟! أنا تيستي فيدين!
-فيدين؟
-أنتم لم تنسَوْا حتماً من كان يقدّم لبغلتكم الخمرة الفرنسيّة.
-أف، بلى، صحيح، تذكّرت، ذلك الصبي الصغير تيستي فيدين!.. والآن لماذا خطرنا على بالك، وماذا تريد منّا؟
-ماهوإلا طلب هيّن،أبانا الأقدس، جئت أسألكم..أوه! تذكّرت،أما زلتم تحتفظون ببغلتكم، كيف حالها؟.. لعلّها بخير... جئت أسألكم مكان الخبير الأوّل بالخردل الذي مات قريبا.
-أنت، أنت صغير على هذا، كم عمرك؟
-عشرون عاماً وشهران، أكبرمن بغلتكم بخمس سنوات بالضبط..ربّاه، ما كان أطيبها من بهيمة!!...ليتكم تعلمون بحبي الكبير لها، لقد أسقمني بعدي عنها في إيطالية!.. أتسمحون لي برؤيتها؟
-كُنْ لها يا ولدي الأب الحنون حين تراها. أنا لا يرضيَني أن تبتعد عن هذه البهيمة المسكينة، مادمت تحبّهاهذاالحب فسألحقك منذاليوم بخاصّتي خبيراً أوّل بالخردل.. سيزعج هذا كرادلتي، لا يهمّ، هو أمر معتاد .. عد إلينا غدا بعد أن نخرج من صلاة العصر، فسنقلّدك شارات رتبتك في اجتماع عام لرجال الدين في الكنيسة، ثمّ ترافقني إلى البغلة، وتصحبني إلى الكرمة، (يضحك )،اتفقنا.. والآن اذهب في سبيلك!!
انشرح صدر تيستي فيدين وهو خارج من القاعة الكبرى، وماأنتم بحاجة أن أقول لكم: كان ينتظرالحفلة بفارغ الصبر في اليوم التالي. ولم يفُقْه حينها أحد في القصر بمثل هذا الشعور سوى البغلة التي لم تتوقّف عن حشو بطنها بالشوفان ورفس الجدار بحافريها الخلفيين منذ عودته إلى صلاة العصر في اليوم التالي. ولم تستغربون؟! لقد كانت مثله تحضّر نفسها للحفلة!!
وهكذا كان في اليوم التالي: بعد أن فرغوا من صلاة العصر دخل تيستي فيدين إلى بهو القصر البابويّ، حيث أُعد كل شيء، فقد أخذ رجال الدين َفي الكنيسة مواضعهم:
- الكرادلة بأرديتهم الحمراء،
- ورؤساء الأديرة بقلنسواتهم،
- والقيّمون على شؤون القديس أغريكو،
- و الكرادلة الأدْنَوْن بعدهم،
- وعسكر البابا بلباس التشريفات الكامل،
- والأخوة التائبون الثلاثة،
- ورهبانجبل فينتو بلباس الدراويش،
- والكردينال الصغير حاملا الجرس،
- والمتأبّطون سياطهم عراة الصدور والظهور،
- وخدم الكنيسة الأَزْهَرُون (مُشْرِقوالوجوه) في زي القضاة،...لا أحد تخلّف، حتى سقّاؤوالماء المقدّس، والضومريّون ( لفظ تركي شائع يعني مشعلي المصابيح ومطفئيها ).
ماكان أروعه من نظام كهنوتي!!
هناك،على جسر أفينيون: تلاقت النواقيس والمفرقعات والشمس الدافئة والموسيقا والدفوف تتعالى ضرباتها صاخبة لتتمكن من هزّ الراقصين.
حين ظهر فيدين بلباسه الزاهي اللافت للنظرأخذ الحاضرون يتهماسون تعبيراً عن شدّة إعجابهم: هذا جمال البروفانس الرائع في شعر أجعد على الرأس،وزغب في الوجه يُنبيك عن مشروع لحية هذّبها برقاقة ذهبية فاخرة أخذها من أبيه النقاش. وقد تهامس الناس بشائعة مفادها: أنّ أصابع الملكة جين كانت تداعب أحياناً هذه اللحية الشقراء، وما كان هذا ليثير غضب الملك - كان الناس وقتها يتباهَوْن إن أحبتهم الملكات -...
لقد أحبّ فيدين في هذا اليوم البهيج أن يُكرّم شعبه فاستبدل بملابسه النابلية(نابل مدينة ساحلية في الجنوب الغربيّ من إيطالية)المعتادة سترة بروفنسية بطانتها وردية، وكانت على قبّعته ريشة منجليّة ترفرف كالعلم (أبو منجل طائر مائيّ طويل القائمتين والمنقار يعيش في المناطق الحارة والمدارية).
ما إن دخل حتى حياه تحية الفرسان المسؤول الأوّل عن الخردل( واضع البهارات في الطعام )، وسار به إلى صدر المجلس، حيث كان البابا ينتظره ليقلّده وسام منصبه: ملعقة خشبية صفراء، ولباس تشريفات صاحب البهار (لباس الزعفران ).
أمّا بغلتنا، فقد وُضعت أسفل الدرج مسروجة جاهزة للتوجّه إلى الكرمة... وعندما مرّ فيدين بجانبها تبسّم لها ابتسامة لطيفة، وتوقّف ليربّت على ظهرها تربيبة وُدّية ، ناظراً بطرفيْ عينيه إلى البابا ليرى إن انتبه إلى حركته.. وكانت اللحظة الموفّقة لتستجمع البغلة كلّ قواها:
-خذها، أيّها اللصّ، سبعة أعوام وأنا أنتظر هذه اللحظة!!
ورمته برفسة شنعاء، لم ترو مثلها أساطير مدينة بامبيرغوست(مدينة الأساطير في منطقة بروفانس الفرنسية).
ماأتعسك يا فيدين! لم يبق من أناقتك سوى ريشتك المنجلية التي طارت في الهواء.
لم تكن تلك الرفسات غريبة في شناعتها – فحسب – بل كانت رفسات من بغلة بابوية احتفظت بها سبعة أعوام...
بعد سبعة أعوام أخذت البغلة بثأرها!!
فهل وقعتَ على حقد مثيل في التاريخ كلّه!!