الأردنيون هل "يعترفون بشرعية النظام"، أم "يشككون فيها"، أم "ينفونها"..
أسامة عكنان
في الحالة الأولى تكثر بشكل ملفت المطالب التفصيلية، من مثل:
"رفع مرتبات، تشريعات ترفع من سوية العمل النقابي، تشريعات تعزز الحريات، تعديل المادة الدستورية الففلانية، حذف فقرة أو إضافة أخرى من المادة الدستورية العلانية، إعادة هيكلة المرتبات الحكومية، تخفيض الأسعار، دعم السلع الأساسية، ضمان تعليم جامعي مجاني، خفض سن التقاعد، حماية العمال من مستخدميهم، ألغاء حزمة من الضرائب وتخفيض نسبة أخرى.. إلخ"، من منطلق أن من سيتفذها هو النظام المعترَف بشرعيته، فتغيب الكليات، ليتم التَّشَتُّت والتيه، ومن ثمَّ الغرق في الجزئيات والتفاصيل..
في الحالة الثانية تتقلص المطالب التفصيلية، لتتمحور في عناوين رئيسية كبرى، من مثل:
"تعديلات دستورية جوهرية تحقق الفصل بين السلطات، ملكية دستورية، عدالة اجتماعية"، انطلاقا من الشك في نوايا وتوجهات النظام، تأكيدا على التشكيك في شرعيته، عبر اختباره في عناوين كبرى من شأنها أن تضعفه وتقوي الحركة الشعبية في حال تنفيذها..
أما في الحالة الثالثة فتُخْتَزَل كافة المطالب لتتوحد في مطلب واحد ووحيد ينطوي بشكل معلن أو بشكل ضمني على "إسقاط النظام"، الذي لم يعد مقبولا التعامل معه أو الرجوع إليه في أيِّ مطلب من مطالب الشعب..
ويتم اللجوء إلى الشكل المعلن أو الضمني في المطالبة بإسقاط النظام، بحسب ما تمليه طبيعة الساحة السياسية ومُكَوِّناتها..
فإذا كانت المطالبة العلنية بإسقاط النظام غير ضرورية، بسبب انطواء المطالبة غير العلنية على سقوط ضمني للنظام، فيغدو من الحكمة حسن إدارة المعركة مع النظام الآيل إلى السقوط بما يعبر عن "ذكاء ثوري"..
في الحالة الأردنية تجاوزت أيديولوجية الكثير من فصائل الحراك الشعبي في جوهرها النظري أيَّ تصوُّرٍ بشرعية هذا النظام، وهو ما يعني أن هذه الأيديولوجية باتت متمحورة حول مطلب واحد ووحيد هو "إسقاط النظام"، حتى لو لم يتم إعلان ذلك..
إذ لماذا أضطر إلى إعلان مطالبتي بإسقاط نظام سيسقط حتما، لأنه غير مؤهل لتنفيذ أيِّ شيء يحافظ له على شرعيته، إذا كنت أدرك أن مطالبتي بـتشكيل الشعب لـ "حكومة إنقاذ وطني"، هي أداة كافية جدا لحشر النظام في زاوية مَقْتَلِه، وإجباره من ثمَّ على الرحيل والتنحي عن السلطة؟!
ولكن ما يحدث في الأردن على وجه الحقيقة يدل على أن هناك شرخا انعدم معه التناغم حتى الآن، بين المستوى الأيديولوجي المتحقِق للحراك تجاه النظام والذي هو "عدم شرعية النظام"، والمستوى التفصيلي للمطالب الشعبية التي ما تزال تتحرك في منطقةٍ أيديولوجيتُها هي "الاعتراف بشرعية النظام"..
أي – وبكلمة أخرى – فإن الحراك الذي وصل أيديولوجيا وعلى نطاق واسع إلى تبني أيديولوجية "عدم شرعية النظام" واعتناقها مبدءا راسخا، ما يزال لم يعِ ضرورة وحتمية أن يطابقَ بين مطالبه السياسية من جهة، وبين هذا المستوى الأيديولوجي من جهة أخرى، وهو ما أوضحناه سابقا من أن أيديولوجية "عدم شرعية النظام" لا يناسبها التَّشَتُّت والغرق في المطالب التفصيلية، التي تناسب أيديولوجية "الاعتراف بشرعية النظام"، وإنما يناسبها فقط المطلب الواحد والوحيد المنطوي على ميكانيزمات تجسيد مطلب "إسقاط النظام"، علنا أو ضمنا..
ولأن مطلب "تشكيل حكومة إنقاذ وطني"، يُعَدُّ وحدَه مطلبا كافيا لسيرورةٍ سياسية تؤول في نهاية المطاف إلى تحقيقِ مطلبِ "إسقاط النظام"، فإن الوقوف عند هذا المطلب، والمناداة به حتى تبحَّ الحناجر وتسيل الدماء أو يتحقق، يعتبر هو شعار المرحلة السليم والقادر وحده على إنقاذ الحراك الشعبي من حالة الشرخ التي يعاني منها، والتي تجعل النظام في حالة استرخاء، والشعب في حالة تجاذب داخلي تحيِّرُه وتخلخل لديه حالة الوعي التي عجزت عن أن توحِّده حتى الآن باتجاه أيديولوجيةٍ تناسب مطالبَه وتتناغم معها..
الممارسة السياسية الغارقة في المطالب التفصيلية تعجزُ عن خلق ثقافةٍ ثوريةٍ دافعة باتجاه أيديولوجية "لاشرعية النظام"، لأنها بطبيعتها ممارسة لا تناسب إلا حالة إصلاحية ضيقة تعترف بشرعية النظام، ولا يمكنها أن تتناسب إطلاقا مع أيديولوجية لا شرعيته، لذلك يحرص النظام على أن يبقينا شعبا وحراكا غارقين فيها إلى الأذقان، أي غارقين في المطالب التفصيلية، كي يحافظ لنفسه على أمرين هامين..
الأول.. إصلاحية حراكنا المرسِّخ لشرعيته هو..
الثاني.. تكريس الشَّرخ في جسد الحراك وفي وعي الشعب، بتناقض المستوى الأيديولوجي المتحقق نظريا، مع المستوى المطلبي المعروض عمليا، وهو ما من شأنه الدفع إلى إحباط الحراك وإلى إحباط الشعب من الحراك، وهو ما ينتظره النظام بكل شغف..
إن المَخْرَج الوحيد من المطب الخطير الذي وقع فيه الحراك ومن ورائه الشعب، بالمعاناة من حالة الشدِّ المربكة بين مستوى أيديولوجي متقدم أصبح يتمحور حول "لا شرعية النظام"، ومستوى سياسي متأخر ما يزال يتمحور حول "المطالب التفصيلية"، يكمن في تَحَقُّق العناصر التالية..
أولا.. إسراع قوى الحراك الشعبي في إنجاز مؤسساتها السياسية، ممثَّلة في "أحزابها السياسية" الطليعية، أو في "حزبها السياسي" الطليعي، وصياغة برنامجه أو برامجها، باعتبار أن الحزب هو الأداة الضامنة لترسيم الرؤية السياسية الكاملة، والكفيلة بحماية الحراك وثورته المقبلة من أن تُسْرقَ كما حدث في أكثر من دولةٍ من دول الربيع العربي، لتتولى هذه الأحزاب أو هذا الحزب قيادة الحراك وتوجيهه بغية إيصاله إلى هدفه المتمثل حتما وقطعا في الاستيلاء على السلطة وفق برنامج الدولة المدنية الديمقراطية، المحققة للعدالة، والمقاومة للمشروع الصهيوني – الإمبريالي..
ثانيا.. الصحوة المبكرة من الشرخ الحاصل بين الأيديولوجيا والسياسة قبل أن يستفحل أمر هذا الشرخ الخطير فيتحول إلى سرطانٍ مستعصٍ على العلاج، وذلك عبر إحداث نقلة نوعية ضرورية في مستوى "الممارسة السياسية" لترتقي إلى مستوى "الأيديولوجيا الثورية" التي يزحف الحراك نحوها يوما بعد يوم. وهو ما لن يتحقق إلا بأن يتم اختزال كافة مطالب الحراك حاليا في مطلب واحد ووحيد هو "تشكيل حكومة إنقاذ وطني" تتولى بنفسها عملية إعادة إنتاج الدولة الأردنية، وتنفيذ المطالب التفصيلية التي كانت تُطلب من النظام فيما مضى، كي يتحولَ الحراك إلى مقدمات ثورة حقيقية، تتناسب مع أيديولوجية "لا شرعية النظام" المتجسِّدة نظريا في العقل الجمعي للحراك على المستوى الأيديولوجي..
ثالثا.. العمل الدؤوب والمثابر وبلا كلل ولا ملل، على تطوير وتفعيل وتوحيد وتوعية الحراك، وربطه بأحبال سريَّة متشابكة وأخطبوطية مع الشعب الذي يعتبر مصدر التغذية الدائم بالنسبة له، لضمان تخليق ساعة رملية ثلاثية الطبقات على شكل هرم مقلوب، حبات رملها هي "أبناء الشعب الأردني"، تمثل الطبقة العليا – وهي الأوسع – الشعب الأردني، الذي تعمل الطبقة الثانية التي تمثل الحراك الشعبي، وهي الواقعة أسفل الطبقة السابقة مباشرة، على فلترته – أي الشعب – عبر ذلك الحراك، فيما تقوم الطبقة الثالثة، وهي الأضيق والتي تمثل الأحزاب السياسية الطليعية، بفلترة الحراك لضمان تحشيد طبقة طليعية قادرة على حماية الشعب وحراكه وثورته، لتحتضنَه ببرامجها وبرؤاها السياسية المتكاملة والصارمة..
إن فشل قوى الحراك الشعبي التي تمسكُ حاليا بحبلين سرِّيَّين، يربطها أحدهما بالشعب كمصدر تغذيةٍ دائم لها، فيما يربطها الثاني بالأحزاب السياسية المرتقب انبثاقها عن هذه القوى الشعبية المتحركة، بصفتها هي كقوى حراك شعبي مصدر تغذية تلك الأحزاب الدائم..
نقول: إن فشل قوى الحراك الشعبي في ذلك، يعني إما أن قيادات وطلائع تلك الحراكات تعاني من انعدام الوعي بالسيرورة السياسية والأيديولوجية للحالة الأردنية، وإما أنها تعاني من النرجسيَّة عالية "الأنا"، في ظل قاعدة منطقية تؤكد على أن "النجم الحراكي" ليس بالضرورة أن يكون "نجما حزبيا"، فإذا حرص "نجوم الحراك" على نجوميتهم التي يخشون على فقدانها في أحزاب قد لا يستطيعون أن يكونوا نجومها، حتى لو جاء هذا الحرص على حساب متطلبات الحالة الأردنية، فإننا لا نملك إلا أن نقول:
"تهانينا لك أيها النظام الأردني، بإمكانك أن تقرَّ عينا، فطريق هذا الشعب إلى أوكار ذئابك ما يزال طويلا"!!!!!
ملاحظة هامة..
تجدر الإشارة إلى أن مقولة "إسقاط النظام" التي استخدمناها في هذا المقال، ليس بالضرورة أن تعني إسقاط "الملك" و"المَلَكِيَّة"، لكنها تعني قطعا إسقاط "الملكية المطلقة"، وإحلال "الملكية الدستورية" مكانها كحدٍّ أدنى للإسقاط..
هذا ويُعْتَبَر النظام نفسُه، وعبر مؤسسته الأساس، ألا وهي "مؤسسة العرش"، هو صاحب القرار في تحديد مستوى وحدِّ الإسقاط الذي يقبله ويرضى به. بمعنى أنه هو وحده من يستطيع أن يُقَرِّر إن كان يريد أن يكون الإسقاط المستهدف، إسقاطا لشكل المَلَكِيَّة بإزاحتها من "المطلقة" إلى "الدستورية"، أو إن كان لا يبالي بأن يكون إسقاطا لشكل الحكم بإزاحته من "المَلَكِيَّة" إلى "الجمهورية"..
الشعب الأردني يريد "إسقاط النظام"، ولأن إسقاط النظام يتخذ واحدا من شكلين، أحدهما يُبْقي على مؤسسة العرش والآخر يلغيها، فهذا الشعب لا يمانع في أن يمنح "رأس النظام" فرصةَ اختيار السقوط الذي يناسبه..
وعليه أن يشكره على ذلك، فهي فرصة لم يحظَ بها نظراؤه الذين يعرفهم جيدا..