حكي في المحكي (1)
المقاومة لخدمة مشروع نهضة الأمة
مصطفى إنشاصي
سألني بعض رؤوساء تحرير صحف ومنتديات ومواقع الكترونية على تباعد: لماذا لم أعد أكتب؟! كان ردي مضمونه واحد، وأثناء بحثي أمس عن مقالة لي وجدت أحدهم واضعه باسمي بأحد المنتديات حكمة اليوم (23/3/2014):
في هذ الواقع الصعب الأفضل لنا أن نصمت .. نحن كمن عندما تعجزه الكلمات يبكي، وعندما يعجزه الواقع ومرارته يصمت .. ولو كان هناك معايير للكتابة والنشر ما وجدنا هذ الكم الخيالي من المواقع الالكترونية ومَنْ يزعمون أنهم كتاب وباحثين ومحللين .. نكاد لا نجد ما يمكن أن يُعبر عن ما بداخلنا إلا الصمت ...!
فعلاً ما فائدة الكتابة في زمن (الفوضى الخلاقة) التي لا يميز فيها إلا القليل بين الغث والسمين، من وسط كتاب مثل الهم على القلب يتسابقوا على الشهرة، وكل حكيهم في المحكي، وبلا ريحة ولا طعم! فقد كتبت يوم 5/9/2018 عدة منشورات من وحي فكرة لأخ غيور نشرها على صفحته على الفيس، إحداها قلت فيه:
درس من غزوة حنين: أحدهم غره العدد قال: لن نهزم اليوم من قلة! فكادت تقع الهزيمة مقاومتنا اغترت بصواريخها ونسيت أن النصر من عند الله!
كتب أخ تعليقاً استفزتني ظناً منه في زمن الفيس (الفوضى الخلاقة) أني جاهل! فقررت استعارة عنوان لمقالة لي عن مؤتمر أنابوليس في كانون الأول/2007 بعنوان "حكي في المحكي"، لأُعيد تحته نشر بعض مقالاتي السابقة التي حذرت فيها مثل بعض الكتاب والمفكرين مما آلت إليه القضية! أبدأها بالحلقة الأخيرة من سلسلة مقالات كتبتها في كانون الثاني/يناير 2008 بعنوان "فلسطين في ذكرى انطلاقة فتح"! كانت موجهة للمقاومة وحماس تحديداً، بعد أن نصحت لهم على مدار سنوات وجهاً لوجه بالبحث عن أساليب حرب عصابات تناسب التغيرات الجغرافية التي حدثت بعد فك العدو الصهيوني الارتباط مع غزة من طرف واحد، وبعد الانقسام وما يمليه ذلك من تحديد الأولويات بما يخدم مستقبل القضية كقضية مركزية للأمة، والمقالة سجلت فيها موقفي الثابت من سلاح الصواريخ وأشباهه منذ نحو أربعين سنة!المقاومة لخدمة مشروع نهضة الأمة
(الحلقة الأخيرة) مصطفى إنشاصي
مشروع مقاومة شامل
في الذكرى الثالثة والأربعون لانطلاقة حركة فتح فشلنا في الحفاظ على الحضور وترتيب فلسطين كقضية شعب ينشد التحرر وحق تقرير المصير في سلم الأولويات العربية قبل الدولية، وضاعت إنجازات الجماهير ومعاناة وتضحيات عشرات السنين إلى صراع بين نهجين وبرنامجين متناقضين في فلسطين، كلاهما لم يعد يخدم مصلحة الجماهير الفلسطينية وقضية الأمة ومشروع نهضتها ووحدتها الحضاري. برنامج يرى في التفاوض إلى ما لانهاية والتنازل والتفريط بالثوابت والحقوق الوطنية الفلسطينية من أجل الحصول على أي شيء يسمى دولة فلسطينية، حتى وإن كانت معازل لا يملك فيها السكان حق تقرير المصير أو حرية التنقل والاتصال بالعالم الخارجي إلا عبر معابر يسيطر ويتحكم بها العدو اليهودي! وبرنامج لا يفقه من ووسائل المقاومة إلا إطلاق الصواريخ متجاهلاً التغيرات التي حدثت في الواقع الفلسطيني وفي واقع الصراع مع العدو اليهودي على الأرض، وما تتطلبه من تجديد وتطوير وابتكار لأساليب وتكتيكات حرب العصابات التي تعتمد في الأساس على الاقتراب من العدو وتحقيق عنصر المفاجأة. ومتجاهلاً ما حدث من الانقسام والقطيعة في الواقع السياسي الفلسطيني وما يُحدثه ذلك من تغيرات تكرس فصل جديد في الواقع والتاريخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والنضالي والوحدوي ...إلخ الفلسطيني، يهدد مستقبل الوجود الفلسطيني كقضية وشعب ووحدة جغرافية. وما يسببه عدم معالجة وإنهاء تلك الحالة من تكريس العدو للفرقة والتشرذم الفلسطيني جغرافياً وسكانياً واقعاً جديداً في حياة وتاريخ الفلسطينيين، في الوقت الذي يغير فيه معالم التاريخ والجغرافية والهوية الحضارية والثقافية الفلسطينية على الأرض، ويحاول تكريس وقائع جغرافية وتاريخية وثقافية جديدة لصالح مشروعه اليهودي الديني في فلسطيننا.
كما يتجاهل ذلك النهج الذي لا يفقه من وسائل المقاومة إلا إطلاق الصواريخ دون أن تبالي بحجم التضحيات والدماء التي تُسفك رداً عليها بما يخالف القاعدة الشرعية التي تقول: درء المفاسد مقدم على جلب المنافع. ذلك الحصار والإغلاق للمعابر الذي يفرضه العدو اليهودي على قطاع غزة، وما يسببه ذلك من معاناة وجوع ومرض ونقص حاد في الأدوية وانعدام إمكانيات علاج كثير من الأمراض ووفاة كثير من الحالات وارتفاع لمعدل الفقر بين سكان قطاع غزة، وإلى انتشار كثير من الأمراض الاجتماعية والأخلاقية التي تهدد النسيج الاجتماعي لمجتمع الصمود والمقاومة الفلسطيني، وإلى تراجع كثير من القيم الأصيلة في المجتمع التي حافظت على تماسكه ومنعت تفككه في وجه أساليب الاحتلال اليهودي لتدمير عناصر القوة والمقاومة فيه، ولعبت الدور الأكبر في دعم الانتفاضتين الفلسطينيتين اللتين هزتا العالم وساعدت الجماهير على الصمود ودعم المقاومة باختيارها لا دعم العاجز عن تغيير الواقع، وتقديم نماذج فذة وتسطير مواقف وملحمة إنسانية عظيمة في التضحية والفداء.
حتى لا يظن البعض من أصحاب النفوس المريضة ومحدودي الثقافة والعلم والخبرة، الذين اختزلوا مبرر وجودهم والحفاظ على حضورهم في ذلك الأسلوب من المقاومة بعد أن عجزوا عن تطوير أساليبهم كما عجزوا عن القيام بدور البناء في المجتمع الفلسطيني! الذين لا يملكون الوعي الذي يساعدهم على تحديد أولويات كل مرحلة من مراحل الصراع التي تساعد على استمرار جذوة المقاومة المسلحة وسط الجماهير. حتى لا يظن البعض أني تراجعت عن موقفي المطلق في تأييد ودعم المقاومة! أود توضح موقفي الثابت من مشروع المقاومة في فلسطين وكل بقعة في وطننا الكبير:
أنا مع مشروع المقاومة في ضوء الفهم لخصوصية فلسطين وطبيعة وأبعاد الصراع وشموليته الذي جعل من قلب الأمة والوطن (فلسطيننا) مركز المشروع اليهودي ـ الصليبي ضد الأمة والوطن. تلك الخصوصية التي تجعل من المقاومة في فلسطين طليعة ورأس حربة للأمة ضد عدوها المركزي (اليهود)، وتقوم بدور مقارعته بشكل يحرك الأمة ويهيئ فيها العوامل الإلهية التي تساعدها للقيام بدورها الحقيقي في تحرير فلسطين واقتلاع ذلك الجسم الغريب (الإسفين) الذي زرعه الغرب اليهودي ـ الصليبي في فلسطيننا مستهدفاً منع الأمة من تحقيق وحدتها ونهضتها واستعادة دورها الحضاري بين الأمم. أنا مع مشروع المقاومة الذي يهدف لتوحيد صف الأُمة واستنهاض هِمم أبنائها لبعث مشروعها الحضاري من جديد، الذي يكون جزء من إعادة بناء الذات وإعادة اللحمة لنسيجنا الاجتماعي والسياسي ...إلخ، الذي يدرك أن البندقية هي أحد أساليب المقاومة التي قد تتقدم في مرحلة وقد تتأخر في أُخرى بحسب المصلحة العامة لمشروع الأمة العام والشامل. أنا مع مشروع المقاومة الذي يجمع بين المقاومة المسلحة وعملية البناء الداخلي والحفاظ على قيم وعوامل الصمود والنصر في المجتمع الفلسطيني والأمة من خلفه، ويكون على رأس أولوياته في هذه المرحلة إفشال المشروع اليهودي لتكريس واقع تشظي الوطن وتعميق الكراهية بين أبنائه، وتصفية المقاومة وشطب القضية المركزية للأُمة من قاموس حركات التحرر في العالم بعد أحداث غزة. أنا مع مشروع المقاومة الذي يسعى إلى إصلاح ذات البين بكافة السُبل، ويدرك أولويات احتياجات أهلنا المحاصرين في غزة ويخفف عنهم الحصار ويساعدهم على مزيد من الصمود والثبات على خيار المقاومة، وليس مشروع المقاومة الذي يختزل قضية الأمة ومشروع مقاومتها في صاروخ أو بندقية فقط لن تحرر فلسطين بدون جهد ومشاركة الأمة.تكتيكات حرب عصابات كثيرة
إنه نفس الموقف الذي سبق أن اتخذته من الثورة الفلسطينية أيام كنا بلبنان وبعد خروجنا من بيروت. فقد كان من ضمن ما أخذته على الثورة الفلسطينية على الصعيد العسكري ركونها إلى امتلاكها بعض الأسلحة الثقيلة من مدفعية وصواريخ ودبابات وغيرها من الأسلحة التي ساعدتها على قصف مواقع العدو من مسافات بعيدة. لأن ذلك كان له آثار ذات أبعاد خطيرة على نفسية وعقلية المناضل، وعلى حياته وواقعه الاجتماعي، ومستقبل النضال والثورة السياسي والعسكري، الثوار الحقيقية. فقد تسبب ذلك في ركون المناضلين إلى وهم قوتهم العسكرية وإمكانية الرد على العدو من الأراضي اللبنانية إلى عمقه الجغرافي والسكاني، وتخيلوا أنهم بذلك أصبحوا نداً للعدو عسكرياً وأنهم حققوا توازن الرعب والردع العسكري مع العدو! كما تسبب في ركون المناضلين للاستقرار الأسري والاجتماعي، وحرص المسئولين على تنمية مكتسباتهم التي حقوقها من وراء الجمود في حركتهم النضالية، وأدى الهدوء والركون إلى روتين حياة القواعد والحراسة ليلاً والانتشار نهاراً، وحياة المكاتب الأكثر رتابة وروتينية وهدوء بالمناضلين إلى فقدانهم لنقائهم الثوري وروح ونفسية وحياة الثوار الحقيقية.
وبتقديري أنها كانت من أهم الأسباب التي أدت إلى خروج الثورة من لبنان عام 1982. وسبق أن قلتها وصدمت بها الجميع في أحد الحوارات: أن الثورة قوة مالية ضخمة وميزانيتها تفوق ميزانية دول ولكنها ليست قوة عسكرية قادرة على مواجهة أي ضربة حقيقية يستهدف العدو منها تدميرها والقضاء عليها، وذلك قبل شهور قليلة من العدوان اليهودي على لبنان عام 1982، وقد حدث ذلك.
وقد أوضحت موقفي من أساليب وتكتيكات حرب العصابات التي على أي حركة تحرر ومقاومة استخدامها أو يجب أن تكون هي الأصل في مقاومتها للمحتل؛ في إحدى الدورات العسكرية بإحدى الأكاديميات العسكرية الجزائرية، حيث كنا نأخذ دورة(رشاشات م.ط) أي مضادة للطيران، وكانت مدتها أربعة أشهر، وقد كان مُشرف الدورة الملحق العسكري الفلسطيني السابق باليمن، وقد تزامنت دورتنا مع دورة على صاروخ مضاد للطيران مدتها عام ونصف، ولأنه يخطط لمستقبله الشخصي لا الوطني فقد أراد أن يمدد دورتنا إلى عام ونصف كي يتسنى له المشاركة في تلك الدورة. وما أن علمت بذلك حتى قمت بحملة تحريض ضد تلك الفكرة التي كان يرفضها آخرين مثلي، وبعد أيام من النقاش بين رافض ومؤيد جلسنا الجلسة الأخير للتصويت ديمقراطياً ولكن ليس على طريقة ديمقراطية فتح ولكن للأخذ برأي الأغلبية. وقد فوضني الرافضين للفكرة بالحديث؛ فلخصت مأخذي السابق على الثورة أيام لبنان في الآتي:
نحن ثورة ضد المحتل الغاصب لوطننا، والثائر هو صاحب الحق الذي يطلب حقه من المحتل، ولأن المحتل لن يُعطي أو يتنازل عن حق اغتصبه بسهولة، فإنه يجب على صاحب الحق أن يذهب بنفسه إلى المحتل ليطالب بحقه! ومنذ أن امتلكنا مدفعية وصواريخ ودبابات تكاسلنا وتواكلنا وكادت تنعدم عملياتنا العسكرية المباشرة ضد المحتل الذي يقتلنا بقصفنا بطيرانه أو بالإنزالات (كان ينزل بعض مجموعاته الخاصة عبر البحر لتقطع الطرق ليلاً وتقتل من يمر عليها أو تهاجم بعض المواقع في غفلة من الحراسة) التي يحقق بها عنصر المفاجأة فيقتل ويذبح ويعود في معظم المرات آمناً. ونحن نعتمد على تلك الأسلحة في الرد على قصف طيرانه أو إنزالاته التي لم تنقطع، أي أصبح المحتل هو الذي يأتينا ولا نذهب إليه، فلم نعد ثوار حقيقيين.
لذلك علينا نحن أن نذهب إليه في عقر وطننا المحتل وأن نحقق نحن عنصر المفاجأة ضده، وأن نقلق منامه وراحته ليلاً وعمله نهاراَ، ولكي نحقق ذلك علينا أن نكون ثوار حقيقيين ونعود إلى الأساليب والروح التي انطلقت بها الثورة ومارستها بداية انطلاقتها، وعليه فإن أفضل سلاح للثائر هو الـ بي7 والكلاشنكوف واللغم وغيرها من الأسلحة الخفيفة التي تساعد الثائر على سرعة الحركة والتنقل وتحقيق عنصر المفاجأة للعدو وتُوقع أكبر الخسائر الجسدية والمادية فيه. وإذا كنا حضرنا لهذه الدورة التي لا تصلح لحرب العصابات فقد أتيناها من منطلق كسر الجنرال مَلَل الذي أراد أن يقتلنا به شارون عندما أخرجنا من لبنان إلى المنافي كما قال. وما أن فُتح باب التصويت حتى كانت الغالبية مع رأيّ.
هذا الرأي أبلغته لأحد القيادات في أحد الفصائل بعد خروج العدو من غزة، وقلت له: أن عليهم استخدام أساليب حرب عصابات جديدة تعتمد الوصول للعدو وتخفيف إطلاق الصواريخ التي تكلف أهلنا الكثير من الدماء، مثل: التركيز على العمليات الاستشهادية والأنفاق وإن كان على تباعد لصعوبة الأوضاع الآن، وكذلك عليكم استخدام أسلوب التعايش خلف خطوط العدو عبر مجموعات استشهادية خفيفة التسلح وسريعة الحركة، تتسلل إلى الأراضي المحتلة عام 1948 وتقوم بعملية الرصد لقوات العدو وتكمن له وتضرب ضربتها بسرعة وخفة وتنسحب قبل وصول التعزيزات إلى نقطة بعيدة، أو تعتمد زرع أسلوب زرع الألغام والانسحاب وهكذا إلى أن يستشهدوا أو يعودوا بعد فترة من العمل إلى قواعدهم سالمين، وغيرها من الأساليب بحسب إمكانيات المقاومة وقدراتها.