تفضلت عليّ أختنا الدكتورة نعيمة بنت إبراهيم الغنام فأهدتني نسخة من كتابها (مدخل في جودة التعليم والتعلم)،والكتاب صادر عن دار النشر للجامعات بالقاهرة،في طبعته الأولى – لهذا العام 1434هـ = 2013 م – وقد قدم للكتاب الأستاذ الدكتور سامي نصار.
انتهيت من قراءة الكتاب .. فأحببت أن أقتبس منه بضع قبسات مما لفت نظري فيه ..
القبسة الأولى : لدينا في الجامعة (عمادة للجودة والاعتماد الأكاديمي)،وتمر عليّ عبارة (الجودة) كثيرا .. ولكن يبدو أننا كالعادة نبدأ متأخرين .. فالمؤلفة تخبرنا أن .. (الجودة بمفهومها الحديث،والتي تعني التحول من الأحكام القيمية للجودة إلى أحكام مبنية على أسس علمية وإحصائية،قد بدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية والتي أعقبت الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين،ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن يكتسب المفهوم الشامل للجودة معاني ومدلولات جديدة كل يوم){ص 43}.
وتضيف ... (ففي السنوات الأولى من خمسينيات القرن العشرين،قام إدوارد ديمينج W.Edwards Deming بالإلقاء محاضرته الشهيرة أمام قادة العمل الياباني الذي استقبل أفكاره بحماس شديد في وقت قد رفعوا فيه شعارهم التاريخي بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية "التصدير أو الموت"وقد تلخصت فلسفة "ديمينج"في(رضا الزبون) من خلال تسليمه منتجات عالية الجودة بأقل تكلفة ممكنة.){ص 43}.
معلوم أن الحرب العالمية الثانية انتهت سنة 1945،وأن الكساد الكبير بدأ سنة 1929،وحتى بداية الأربعينات.
القبسة الثانية : هنا أيضا تؤرخ المؤلفة لبدايات البحث عن الجودة في الجامعات العربية،وتبدأ من الخليج،حيث تم عقد ..(الندوة الفكرية الثالثة لرؤساء ومديري الجامعات في الدول الأعضاء بمكتب التربية العربي لدول الخليج،والتي انعقدت في بغداد في الفترة من 18 – 20 نيسان (أبريل) 1987م،وصدرت عن المكتب منشورة مؤرخة في العام 1988.
وتتكون الوثيقة الأساسية للندوة ..){ ص 24}.
هذه كانت المحاولة الأولى،أما المحاولة الثانية فقد .. (قامت بها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بالتعاون مع اتحاد الجامعات العربية في عام 1998م){ص 25}.
ونتج عنها ( إعداد "دليل منهجي للتقويم الذاتي لمؤسسات التعليم الجامعي والعالي"،بالإضافة إلى "دليل التقويم الذاتي الخارجي والاعتماد العام للجامعات العربية أعضاء الاتحاد"صدر بعد خمس سنوات،أي في عام 2003م){ص 26}.
وعودة للحديث عن الخليج مرة أخرى :
(على صعيد دول مجلس التعاون الخليجي،فقد أصدرت الأمانة العامة للمجلس في عام 2003 م تقريرا تحت عنوان"التطوير الشامل للتعليم بدول مجلس التعاون،وذلك على خلفية التوجيهات الواردة في قرار المجلس الأعلى في دورته الثالثة والعشرين..){ص 28}.
وإلى دولة الإمارات تحديدا،وجامعة الإمارات كأول جامعة ( التزمت بضمان الجودة بعد أن أطلق سمو الشيخ نهيان آل نهيان،الرئيس الأعلى للجامعة،إشارة البدء في جهود بهذا الاتجاه في شهر يوليو من العام 1987م){ص 30}.
وضعت هذه المعلومات في (قبسة واحدة) لأسال بعد ذلك :
هل كان ثمة ربط بين ندوة مكتب التربية لدول الخليج (سنة 1987) ومحاولة المنظمة العربية للتربية،متعاونة مع اتحاد الجامعات (سنة 1998)،و إنشاء جامعة الإمارات (سنة 1987)... بمعنى آخر .. هل العمل هنا تراكمي وبُني على التجارب السابقة .. أم أن كل تجربة تبدأ من الصفر؟
القبسة الثالثة : كما أفادت المؤلفة بدأت الجودة بالصناعة .. ويبدو أن الصناعة ظلت مهيمنة على فكرة الجودة،حتى أن المؤلفة .. وحسب مصادرها ..ظلت تدور في تعريفاتها في فلك الصناعة والخدمات .. حتى وصلت بنا إلى الباحث جون ديو (John Dew) نائب رئيس جامعة تروي الكندية،ليعرف الجودة بأنها ( تعني القدرة على التحمل (Quality as Endurance)،فمنتجو السيارات الأوربية يصورون قدرة تلك المركبات على تحمل الأجواء والمتغيرات البيئية بأنها المؤشر الأساسي على جودتها،وبالمثل فإن قدرة التعليم العالي على الصمود مع مرور الوقت يمكن أن يمثل معيارا لجودته){ص 49}.
هذا التداخل بين الصناعة والثقافة أشارت إليه المؤلفة بقولها ... (إن إحدى المعضلات الأساسية المرتبطة بتوظيف إدارة الجودة الشاملة في التعليم تتعلق بمدى ملاءمة النموذج المطبق في الصناعة للموقف التعليمي الفعلي في المدرسة. وترى بولا سزتاجن أننا"ما زلنا نستخدم المبادئ والمفردات الاقتصادية للتعبير عن الأفكار التربوية،وما زلنا نسمح للاقتصاد والإنتاج بتشكيل فهمنا للتربية وتحديده،وما زلنا نعتبر الطلبة مواد خام ينبغي معالجتها بأفضل الطرق الممكنة كفاءة".
هكذا لخصت "بولا"المعضلة الأساسية لتوظيف الجودة الشاملة في التعليم،والتي تكمن من وجهة نظرها في عدم وضوح مفاهيم الجودة الشاملة بمجال التعليم،وسيطرة المفاهيم الإنتاجية الصناعية على عقلية المسئولين بالتعليم،وتعتقد المؤلفة أن"لبولا"الحق في ذلك فالمنشأة التعليمية تقدم خدمة خاصة،فهي"خدمة بشرية"و متلقي الخدمة هو الإنسان الذي يحتاج لمهارات لا تنمي مهاراته فقط بل وقبل ذلك تبني ثقافته وأفكاره فالقابلية للتعلم المستمر صفة إنسانية وستظل متجددة دائما..){ص 137}.
القبسة الرابعة : ظللنا لعقود نقرأ أن الأمة العربية لا تنفق ما يكفي على التعليم .. أو لا تنفق عليه إلا أقل القليل من موازناتها .. ولكنني فوجئت بأختنا الباحثة تنقل عن بعض مراجعها ( تشير البيانات المالية للإنفاق على التعليم في المملكة العربية السعودية إلى ارتفاع تكلفته،حيث بلغت حوالي 25% من إجمالي الإنفاق الحكومي،في حين يصل متوسط هذه النسبة في الدول الصناعية إلى 12.3%) {ص 149}.
بطبيعة الحال هذا رقم كبير جدا .. ويثير الكثير من الأسئلة حول دقة البيانات التي تصدرها بعض الجهات الرسمية !!!
وفي الوقت الذي نقرأ فيه هذه النسبة العالية من الصرف على التعليم،نجد وجها آخر للصورة ،وذلك عبر دراسة أصدرتها الأمانة العامة لدول مجلس التعاون تتحدث عن .. نقص الموارد المالية للإنفاق على التعليم.){ص 20}.
هذا في دول في ثراء دول الخليج!!!
القبسة الخامسة : الأرقام الرسمية التي أشرنا في القبسة السابقة أنها قد لا تكون دقيقة،تقودنا إلى نقاط محددة وضعت فيها المؤلفة أصبعها على الجرح .. فيما يتعلق بمسالة الجودة .. (وتتعاظم صعوبة دراسة موضوع الجودة إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه قد يجرى اقتباس أهداف التعليم،ومعايير الجودة ومؤشراتها من مجتمعات أخرى،ونقلها إلى بلدان عربية بعينها مع أنها قد لاتكون ملائمة لأوضاع هذه البلدان خارج نظم التعليم أو داخلها){ص 15}.
هذا أحد جوانب المشكلة،أما جانبها الآخر والأخطر،من وجهة نظري فهو استنتاج الباحثة والذي قالت فيه :
(أصبحت الدعوة إلى الاهتمام بجودة التعليم شائعة في الأوساط الأكاديمية العربية،ولقيت تجاوبا ملحوظا من قبل صناع القرار في الدول العربية،وصارت تمثل إحدى الموضوعات البارزة في التوصيات والقرارات الصادرة عن المؤتمرات والندوات والاجتماعات الإقليمية (..) غير أن النداءات المتكررة بالتركيز على موضوع الجودة ليست نابعة من تحليل الواقع التربوي الملموس في البلد المعني بل ترمي في أغلب الأحيان إلى إشعار الآخرين بأهمية الموضوع،وبأن جهودا ما تُبذل باتجاه تحقيق جودة التعليم،بصرف النظر عن المنطلقات المحفزة لها،والرؤى المؤسسة لمضمونها،إذ يتم بذلها في سبيل رفع العتب،وتجنب اللوم بالتخلف وعدم مجاراة المستجدات الدولية (.. ) ثانيا : ترافقت الدعوات إلى الجودة،في معظم الأحيان،مع تشكيل لجان أو هيئات أو مجالس لضمان الجودة والاعتماد الأكاديمي ملحقة بالأجهزة والدوائر القائمة داخل وزارات أو مجالس التعليم العالي العربية،ووجود هذه الدوائر أو الأقسام الجديدة أدى إلى تضخم الجهاز البيروقراطي بدلا من تسهيل أداء الأجهزة والمؤسسات القائمة (..) ثالثا : تم حصر مهمات الهيئات والمجالس ذات العلاقة بتجويد التعليم في البلدان العربية في أعمال الرقابة والتفتيش الإداري على مؤسسات التعليم العالي بناء على مواصفات ومقاييس محددة سلفا. إلا أن هذه المواصفات لم يتم تعديلها كي تلائم أوضاع وظروف المؤسسات التعليمية التي يتم فيها،وتواكب المتغيرات التي طرأت على النظام التعليمي في البلد المعني،ويبدو أنه تم تبنيها بمعزل عن مدى ملاءمتها للواقع الملموس في المؤسسة التعليمية موضوع الفحص،وكأن المهم في الأمر هو الحصول على بيانات وأرقام بعول عليها في اتخذا القرار بشأن المؤسسة،وليس التقييم الموضوعي الرصين لأدائها،والرصد الدقيق لنوعية مخرجاتها (..) رابعا : إن الهدف النهائي للتحقق من الجودة في المؤسسة التعليمية العربية هو إصدار شهادة اعتماد لها (..) بيد أن الجودة نفسها تظل مسألة ثانوية،وذلك بسبب التركيز على النتيجة دون التمعن في تفاصيل العمليات والإجراءات المؤدية إليها ){ص 33 - 34}.
الحقيقة أنني لسمت شيئا مما توصلت إليه المؤلفة .. وإن كنت لا أستطيع إصدار حكم قاطع،لقصر التجربة،فقد حضرت ورشتين للجودة – ممثلا لإدارة المشتريات – فلمست أو استنتجت وجود اهتمام بالإجراءات وكم الاعمال المنجزة أكثر من تجويد العمل نفسه،كما لاحظت أنهم يحاولون تطبيق (قوالب) جاهزة .. مثل ضرورة وضع (رسالة) لكل قسم حتى لو كان مجرد قسم داخل إدارة - المالية مثلا - لها هدف واضح هو صرف المستحقات المالية،كما افادونا بتجربة جامعة خرى وكيف وضعت (عبارات ) على أكواب الشاي .. إلخ.
أذكر أنني تناقشت مع الدكتور حول كون الأمر قد لا يتخطى (الشعارات) دون منجز حقيقي على الأرض .. ولكن يبدو أننا كنا نحمل معنيين مختلفين لمصطلح(شعاارت)!!
وهذا يقودنا إلى ما جاء في الكتاب الذي بين أيدينا،نقلا عن وزارة التخطيط .. (حيث تضمنت خطة التنمية الثامنة للدولة في سياق أولوياتها "العمل على تطوير التعليم العام بأقل تكلفة،وبأعلى نسبة من الجودة النوعية،وفي أقصر وقت ممكن"){ص 179}.
بطبيعة الحال هذه مجرد(شعارات) غير قابلة للتطبيق .. خصوصا في ظل رفع رواتب الموظفين بما فيهم المدرسين .. إلخ.
القبسة الأخيرة : تنبه الدكتور (نعيمة) إلى أن ..( مفاهيم الجودة ستظل لأجل غير مسمى غير ثابتة،ويجب أن نتعامل معها كمفهوم مرن دون أن نحصرها في قوالب للحفظ والتنفيذ،فالمهم بالنسبة لمجتمعنا أن نعمل على نشر ثقافة الجودة كهدف استراتيجي أهم من تطبيق القوالب النظرية في المجالات المختلفة باستخدام تقنيات معطاة لنا سلفا،ولم نشارك في وضعها. إن ثقافة الجودة تعتمد على الاستفادة من الإمكانيات الخلاقة للبشر واستثمار قدراتهم على الإبداع){ص 44}.
نعم .. ثقافة الجودة .. وعدم (قولبة) الجودة في قوالب جامدة ..
ختاما .. أشكر الدكتورة الكريمة على تفضلها بإهدائي كتابها هذا .. والذي استمعت بقراءته ..
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة