ليس أحد منا إلا ويعرف سورة الطارق بآياتها. لكن تذوق الآيات والتوغل في المعاني يتفاوت بين إنسان وآخر خاصة عند أولئك الذين خبروا صاحب الكلم عزوجل وعظمته؛ "الرحمن فأسأل به خبيرا"-(الفرقان). وإن الذين يعلمون قدرة الخالق يدركون وجود حكمة كبرى تقف وراء اختيار الله (تعالى) للعربية لغة لبيانه وذكره الحكيم، وجعلها أداة فريدة يتعقل الناس عبرها المعاني والمقاصد العلية (كما اراد الله)؛ "إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون". ولئن تفكرنا في الآية الكريمة: "إنه على رجعه لقادر" لوجدنا سحرا بيانيا عجيبا. فأي سبك معجز هذا يبتدئ من دقة وروعة المبنى وشمول المعنى. وليست زحلقة اللام، وكذا الضمير المتصل (الهاء المتصلة بحرف التوكيد: "إنه") سوى لمسات رائعة تشير الى الحكيم المبدع. أما التعبير بكلمة (الرجع) ومفهومها فهو إعجاز آخر ذو معنى يغطي كل رجوع مادي في الدنيا وغيبي في الاخرة؛ بمعنى أن الله (تعالى) قادر على ارجاع الإنسان من التراب إلى الجسد بمجرد المشيئة، وقادر كذلك على إرجاعه اليه ليوفيه حسابه.
إن الذي يعمل عقله ويستعرض عظمة ربه يرى إعجازا مبينا في مبنى الآية وسبكها ومعانيها وقوة وجمال التعبير فيها. ويرى كذلك أن كلماتها الأربع لا تقف في آفاق معانيها عند هذا فحسب، بل تمتد في المعنى كلاما جامعا يحكي قصة الخلق ويشير الى غيوبها. فالله (تعالى) قد خلق الإنسان من ماء مهين يتدفق عند الجنسين وفق إعجاز عجيب. ولقد أثبت العلم حديثا بأن الخصية عند الرجل والمبيض عند المرأة، وهما العضوان المسؤولان عن إنتاج الحيوان المنوي والبويضة، يتم تكوينهما أصلا في منطقة ما بين الصلب (اسفل الظهر) والترائب (موضع القلادة من الصدر) عند كلا الجنسين أثناء خلق الانسان في بطن أمه. ثم يهاجر كل منهما من الأعلى إلى أسفل الجسم ليستقر في مكانه تناط به مهمة انتاج المواد التي تصنع الخلية الأولى بأمر الله. ورغم أن للعلماء في هذه المسألة آراء شتى لا يتسع المقام هنا لتفنيدها، إلا أن النفوس المتفكرة السليمة التي نأت بنفسها عن جواذب الدنيا وزخرفها لا يسعها إلا أن تخر ساجدة لله خاشعة لا ترفع رأسها أبدا.
ما قرات مرة سورة الطارق في سر أو جهر الا وارتعدت نفسي أمام الآية أعلاه، وباتت تفكر وجلة بالرجوع إلى الله، وموعده، وطبيعة الحياة بعده، والمثول بين يدي مقام الرحمن العلي. ولابد لنا أن نقف عند القسم الذي أتى ممن لايحتاج إلى قسم؛ إذ حكمه نافذ وأمره مبرم. ولعل المتابع لجواب القسم يجد بأنه توكيد من الله بأن الخلق لم يترك عبثا بل إن الله قد جعل لكل نفس انسانية ثلة من الملائكة يحفظونها بأمر ربها؛ "له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله" -(الرعد) .. أي بأمر الله.
سبحان الله .. كلمات أربع لو جال الإنسان حولها وتفكر فيما وراءها لوجد بحارا من العلم، وما لا يمكن تخيل آفاقه مما هو مطلق في علم علام الغيوب.