النقد في الفكر العربي المعاصر.. الطابع العام/ د. جيلالي بوبكر

مصطلح الفكر العربي المعاصر شامل لكل أنماط التفكير في الثقافة العربية الإسلامية الراهنة، وفي جميع قطاعات الحياة في عالمنا العربي والإسلامي، ونعني بذلك التفكير السياسي والتفكير الاقتصادي والتفكير الديني والتفكير التربوي والتفكير العلمي والتفكير الإعلامي والتفكير الأدبي والتفكير الفني والتفكير الفلسفي والتفكير النقدي وغيره، والنقد بصفة عامة من فعل التفكير، ومنه جاء الفكر النقدي، والتفكير النقدي يلازم كل أنماط التفكير الإنساني، فهو منهج وأسلوب، يتحدد بقيّم ومبادئ وأصول، ووسائل وسبل، وأهداف وغايات.


والنقد نوعان، بناء وهدام، إيجابي وسلبي، وكل نوع يظهر في مستويات ودرجات من ألأدنى إلى ألأعلى، وينزل من فوق إلى تحت، في سماحته وموضوعيته ودقته وعمقه وتحليله ووقوفه على المزايا والهنات، وفي مدى ارتباطه بالروح الفلسفي واتصاله بالروح العلمي، والنقد في فكرنا العربي المعاصر يتصف بما يتصف به الفكر ذاته، فهو خالي من مكارم الأخلاق، وغير قائم على الحوار البناء، في معظمه يكون نقدا غير مؤسس ولأجل الهدم لاغير، والنقد البناء مؤداه الحقيقة من جوانبها المختلفة، ولا يكرس التعدد في الرؤى والإثراء في المواقف واستمرار البحث، فهو إقصائي يعيق التنوع والثراء في البحث ويفقده حريته وأصالته وإبداعه باعتبار هذه الشروط هي الماء والهواء والغذاء الذي يحيا بها الفكر والبحث والعطاء.


ويفتقر النقد في فكرنا العربي المعاصر إلى مقومات الروح الفلسفية المطلوبة في العملية النقدية، والتي تنطلق من المشكلة - بفتح الميم- فحصر التصور أو التصورات للحل إن كثرت وهو ما يعرف بالصورنة، فإقامة الحجج والبراهين أو ما يعرف بالبرهنة، وفي سياق هذا المنهج والالتزام به، يتحقق الفعل النقدي في الفكر في أي مجال من مجالاته، بتحليل الصورنة والبرهنة تحليلا يتميز بالدقة والعمق واليقين النسبي والوفرة المطلوبة.


بالنقد في الفكر على أسس فلسفية وعلمية يتم الوقوف فعلا على جوانب القوّة وجوانب الضعف، ومن خلال عرض البدائل المقترحة والخاضعة للنقاش والمساومة الفكرية والاستدلالية على العقل والمنطق والتاريخ والواقع، وعلى سائر مصادر الوعي والمعرفة في الماضي والحاضر، وموازنة ذلك بكل ما هو متاح للعقل والتجربة في الزمان والمكان لبناء موقف بنّاء مثمر مما هو مطروح للبحث والتحقق، وليس غير النقد كفيل بالرسالة الفكرية.
بالرسالة الفكرية النقدية تنكشف عورات البحث كما تظهر حسناته، بالقياس إلى المتاح في التاريخ وفي الواقع وفي الوعي القائم، وبالنسبة لاجتهاد العقل وإبداعاته في إيجاد البدائل ومسوغاتها، وأهم ما ينبغي أن يتصف به الروح النقدي السماحة والإيثار في البحث عن الحقيقة، والموضوعية والحياد في إصدار الحكم، والإيمان بنسبية الأحكام تفاديا للتعصب ولمنطق الإقصاء.


فأين فكرنا العربي المعاصر من النقد بشروطه المطلوبة وأخلاقه السامية؟ وأين هو من قول أحد العلماء المسلمين يعبّر عن قمّة الإيثار الفكري والعلمي، قوله في الحوار البناء والنقد الإيجابي : "ما ناظرت أحدا قط في حياتي إلا سألت الله بيني وبين نفسي أن يظهر الحقّ على لسانه
". ؟