وها نحن نقلب صفحات الزمن لنعيش وقتاً يسيراً مع صحابي جليل أل وهو : ( سهيل ابن عمرو – رضي الله عنه - ) .
إنه سيد من سادات قريش وخطيبهم وفصيحهم ..لقد كان في الجاهلية عدواً للإسلام ولرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يؤلب الناس على الدعوة وصاحبها الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم .
وعلى الرغم من ذلك يستجيب ابنه ( أبو جندل بن سهيل بن عمرو ) لنداء الإسلام ويسلم لله – جل وعلا – فحبسه أبوه وأوثقه في الحديد .
ولما كان يوم بدر خرج (سهيل بن عمرو) لمقاتلة المسلمين فلما كتب النصر للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه – رضي الله عنهم – كان ( سهيل بن عمرو) من بين الأسرى .
فلما أراد ( سهيل ) أن يفدي نفسه بالمال نظر إليه عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : دعني أنزع ثنيتي (سهيل) فلا يقوم علينا خطيباً فقال :" دعها فلعلها أن تسرك يوماً".
فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم قام ( سهيل بن عمرو ) فقال لهم : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت .
فكان موقف (سهيل بن عمرو ) في مكة يعدل موقف أبي بكر في المدينة يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .

سهل لكم من أمركم :

إنها الكلمة المشهورة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية عندما رأى ( سهيل بن عمرو) وقد أرسلته قريش لإبرام الصلح مع النبي صلى الله عليه وسلم :
كما جاء في رواية البخاري أنه لما جاء ( سهيل بن عمرو ) قال النبي صلى الله عليه وسلم : " سهل لكم من أمركم ".
( قال معمر قال الزهري في حديثه ) فجاء (سهيل بن عمرو) فقال : هات اكتب بيننا وبينك كتاباً فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" بسم الله الرحمن الرحيم " فقال (سهيل بن عمرو): أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي ولكن اكتب
" باسمك اللهم " كما كنت تكتب فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"اكتب باسمك اللهم " ثم قال :"هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " فقال( سهيل بن عمرو) : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب " محمد بن عبد الله " فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " والله إني رسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله " قال الزهري : وذلك لقوله :" لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها " فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :" على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به " فقال ( سهيل بن عمرو): والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل فكتب فقال (سهيل بن عمرو ): وعلى أنه لا يأتيك منا رجل – وإن كان على دينك – إلا رددته إلينا .
فقال المسلمون : سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً ؟!. فبينما هم كذلك إذ دخل ( أبو جندل بن سهيل بن عمرو) يرسف في قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال (سهيل بن عمرو ): هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إنا لم نقض الكتاب بعد .قال : فوالله إذا لم أصالحك على شيء أبداً .قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فأجزه لي .قال : ما أنا بمجيزه لك .قال : بلى فافعل .قال : ما أنا بفاعل .

يوم مولده من الشرك إلى الإسلام :

وظل ( سهيل بن عمرو ) على موقفه تجاه الإسلام إلى أن امتن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بالنصر من غير قتال ودخل مكة فاتحاً منتصراً .
ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دخل البيت ثم خرج فوضع يده على عضادتي الباب فقال :" ماذا تقولون؟" فقال ( سهيل بن عمرو): نقول خيراً ونظن خيراً أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت .فقال :" أقول كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم " .
فذاب (سهيل بن عمرو) ومن معه خجلاً وحياءً من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته التي نجعل العقول تطيش من الحيرة و تجعل الألسنة لا تملك أن تقول كلمة واحدة .
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يملك أن يقضي على أهل مكة قضاءً لا رجعة فيه – وهو غير ملوم – وعلى الرغم من ذلك يعفو ويصفح بعد كل ما فعله أهل مكة بأصحابه – رضي الله عنهم - .
فامتلأ قلب ( سهيل بن عمرو) بحب النبي صلى الله عليه وسلم والرغبة في الإسلام فأرسل ( سهيل بن عمرو ) إلى ابنه عبد الله – أبو جندل – ليستأمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه فخرج إلى حنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على شركه حتى أسلم بالجعرانة منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ مائة من الإبل من غنائم حنين .

استدراك ما فات :

وها هو (سهيل بن عمرو) – رضي الله عنه – بعد أن أسلم ولا مس الإيمان شغاف قلبه يحاول أن يعوض ما فاته وقلبه يعتصر ألماً على كل لحظة قضاها بعيداً عن طاعة الله - جل وعلا - .
عن ابن قمادين قال : لم يكن أحد من كبراء قريش الذين تأخر إسلامهم فأسلموا يوم فتح مكة أكثر صلاة ولا صوماً ولا صدقة ولا أقبل على ما يعينه من أمر الآخرة من ( سهيل بن عمرو) حتى إن كان لقد شحب لونه وكان كثير البكاء رقيقاً عند قراءة القرآن .لقد رئي يختلف إلى معاذ بن جبل حتى يقرئه القرآن وهو بمكة حتى خرج معاذ من مكة فقال له ضرار بن الخطاب: يا أبا يزيد تختلف إلى هذا الخزرجي يقرئك القرآن؟ ألا يكون اختلافك إلى رجل من قومك من قريش؟ قال : يا ضرار هذا الذي صنع بنا ما صنع حتى سبقنا كل السبق أي لعمري أختلف إليه لقد وضع الإسلام أمر الجاهلية ورفع الله بالإسلام قوماً كانوا يذكرون في الجاهلية فليتنا كنا مع أولئك فتقدمنا.




ندم وأسف :

وها هو ( سهيل بن عمرو ) – رضي الله عنه – يتفطر قلبه أسفاً وندماً على تأخره عن الاستجابة لدعوة الحق .
فعن الحسن قال : حضر باب عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ( سهيل بن عمرو) والحارث وبلال وتلك الموالي الذين شهدوا بدراً فخرج آذن عمر فأذن لهم وترك هؤلاء فقال أبو سفيان : لم أرَ كاليوم قط يأذن لهؤلاء العبيد ونحن على بابه لا يلتفت إلينا؟ فقال ( سهيل بن عمرو) وكان رجلاً عاقلاً : أيها القوم إني والله لقد أرى الذي في وجوهكم إن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم دعي القوم ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم ؟ أما والله الذي كنتم تنافسوهم عليه .قال: ونفض ثوبه وانطلق .
قال الحسن : وصدق والله ( سهيل) لا يجعل الله عبداً أسرع إليه كعبد أبطأ عنه .

العزم على قطع الطريق إلى الجنة :

ومضى ( سهيل) يشق طريقه إلى جنة الرحمن وإلى تعويض ما فاته وإذا به يقول قولته الشهيرة : والله لا أدع موقفاً وقفته مع المشركين إلا وقفت مع المسلمين مثله ولا نفقة أنفقتها مع المشركين إلا وأنفقت على المسلمين مثلها لعل أمري أن يتلو بعضه بعضاً.

الشهادة في سبيل الله :

ويا لها من خاتمة السعادة أن يموت الإنسان شهيداً .
قال الزبير بن بكار: كان ( سهيل) كثير الصلاة والصوم والصدقة خرج بجماعته إلى الشام مجاهداً ويقال : إنه صام وتهجد حتى شحب لونه وتغير وكان كثير البكاء إذا سمع القرآن وكان أميراً على كردوس يوم اليرموك.
قال المدائني وغيره : استشهد يوم اليرموك وقال الشافعي والواقدي : مات في طاعون عمواس .
وقال صلى الله عليه وسلم : " الطاعون كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء وإن الله جعله رحمة للمؤمنين فليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
************************************************** ***
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( منقول بتصرف)






التعليقات : عبر وفوائد – عشنا أمتع اللحظات مع سيّدنا سهيل في جاهليته وبعد إسلامه الّذي جاء متأخراً , فتحصّل لنا من الفوائد والعبر الآتي :
1- القدرة العجيبة الّتي أعطيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على التأثير فيمن يسمعه فيحدث في كيانه تحولاً إلى النقيض تماماً كما حصل مع سيدنا سهيل بن عمرو رضي الله عنه,حيث كان أشد ما يكون إصراراً على الشرك ولمّا سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تثريب عليكم اليوم مع قدرته على القضاء على كل مشرك حتى أيقن أنه أمام دعوة الحق وجها لوجه.
2- على كل من أوغل في المعصية ثم منّ الله عليه بتوبة صادقة أن يستكثر من عمل الصالحات بوتيرة عالية ليستدرك ما فات. مقتدياً بهذا الصحابي الجليل.
3- تفاؤل النبي صلى الله عليه وسلم بالأسماء ( سهل لكم من أمركم ) قالها لما أقبل سهيل رضي الله عنه. وحقاً سهل الأمر وأبرم الصلح الّذي عاد على المسلمين بخير عظيم.
4- هيبة النبي صلى الله عليه وسلم كان لها وقع في القلوب مما جعل سهيل بن عمرو يرسل ابنه أبا جندل ليطلب له الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5- إذا عصيت الله في مكان فاعزم أن تطيع الله فيه وكذلك إذا ارتكبت معصية بحق شخص فعد وأطع الله فيه, وما أنفقت من مال في معصية فعد وأنفق مثله في طاعة الله.
6- قدرة عجيبة على جهاد النفس أعطيها سهيل بن عمرو رضي الله عنه, على جهاد النفس حيث كان كثير الصلاة الصوم والتلاوة والصدقة والإنفاق.
7- حسن جوابه لأبي سفيان على باب عمر رضي الله عنهم جميعاً ( دعي القوم ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم , فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم )
8- وجوب الندم على تأخر التوبة والإكثار من الاستغفار والتهجد بالليل.
9- إيمان سهيل رضي الله عنه دليل على نبوة سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم, حيث استأذن عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم بنزع ثنيتي سهيل حتى لا يقوم فيهم خطيباً, فقال : ( دعها فلعلّها أن تسرّك يوماً ) فقام خطيباً في مكة يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم, فقال : ( من كان يعبد محمداً فإنّ محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإنّ الله حي لا يموت .) فكان موقفه في مكة كموقف أبي بكر في المدينة. هذا ما فتح الله عليّ به من الفوائد والعبر آمل أن تكون سبباً في حصول الفائدة لكل من يطلبها.