محمد الغربي عمران يبدّد ظلمة يائيل
د. يوسف حطيني
تعدّ رواية "ظلمة يائيل " للكاتب اليمني محمد الغربي عمران واحدة من أكثر الروايات العربية جرأة؛ إذ تنكأ الجراح الأكثر إيلاماً في حياتنا المعاصرة، على الرغم من أنها تجعل العقود المتوسطة من القرن الخامس الهجري خلفية تاريخية لها.
في رحلة السرد الروائية هذه يتجاور خطّان يحمل أحدهما خيبة الماضي (بما يكشف الحاضر ويجعل تداعياته أقل إدهاشاً) وذلك في المتن الروائي، بينما يحمل الآخر في هامش هذا المتن حكاية أخرى لا ترقى إلى مستوى الحكاية الأولى، ولكنها ترسّخ حالة ثقافية حاضرة تشي بالخراب.
تشبه هذه الرواية التي تجسّد الرحلة السندبادية الجسدية والروحية لبطلها جوذر، من حيث التكنيك الروائي، عدداً غير قليل من الروايات العربية والأجنبية من حيث وجود متنين سرديين، ومن حيث اعتمادها على مخطوطة يتم عرضها من قبل سارد آخر، ولكنها تحيل مباشرة إلى رواية (اسم الوردة) للإيطالي أمبرتو إيكو، ومن بعد ذلك رواية (عزازيل) للمصري يوسف زيدان اللتين استخدمتا ساردين: داخلي للمسرود الروائي، وخارجي لبيان كيفية نقل هذا المسرود، لمعالجة خلافات دينية كنسية، غير أنّ محمد الغربي عمران يفضلهما في أنه جعل السارد الخارجي أقلّ حيادية، وحمّله حكاية أخرى لا تبتعد ظاهرياً عن المشهد الروائي الأساسي.
تنقسم الرواية/ المخطوطة شكلياً إلى ثلاثة أقسام كبرى هي:
1- صنعاء.
2- ظلمة يائيل.
3- الرحلة.
ويسرد النسّاخ جوذر في هذه الأقسام رحلة حياته المريرة في بحثه المضني عن الحقيقة، وعن أمه وعن شوذب، مبتدئاً من عمله عند معلمه صعصعة الذي شهد قتله فيما بعد، ثم القبض عليه وأسره عدة سنوات في ظلمة دامسة، ثم خروجه للبحث عن أمه التي لم تعد تعرفه، وعن شوذب التي تم سبيُها.
فيما يسرد السرد ذاته خلفيات المجتمع السياسية والاجتماعية والعقيدية، حيث الخلاف على أشدّه بين مجموعات يعتقد كل منها أنه يمتلك الحقيقة، فيما هو يمتلك (إضافة إلى إيمانه هذا) طاقة هائلة على البطش، وعلى تحويل الخلافات الفكرية بين الجماعات الصغرى إلى معارك دموية لا رحمة فيها.
رحلة البحث عن الحقيقة:
لقد سلخ جوذر سنوات طوالاً من حياته باحثاً في مسارين: أولهما بحثه عن الحقيقة، وثانيهما بحثه عمن يرشده إليها، وقد كان المسار الثاني أكثر وضوحاً؛ إذ سرعان ما كان جوذر يطمئن إلى الداعي، ليملأ في روحه خواء أو ضياعاً، أيّاً كان معتقد ذلك الداعي، ويستسلم لعقائده أو حركاته أو ترانيمه... إلخ.. فهو معلّق بحبال دعوة معلمه ودعوة أمه ومناجاة الرجل الأشيب، وتعليمات العيلوم والحاخام، وخطبة المولى الأجلّ، وتعاليم قانح الذي أسلس له قياده حتى قبل أن يسمع أياً من تعاليمه. والمقطع السردي الحواري التالي (الذي يجعل فيه قانح الاتباع شرطاً للمعرفة) يبدو ذا دلالة كبرى على ضياع جوذر وعلى انقياده الجارف وراء أية فكرة، ولو كانت وهماً:
"- الصبر طريق الخلاص!.
- أَيّ خلاص ؟.
- الخلاص عبر الصراط المستقيم !.
- كيف ؟.
- أن تسلك معي الصراط إلى الصبر الذي يقود إلى الخلاص.
- أهي أحجية.
- ذاك شرطي إن أردت مسايرتي.
- لا أجد ما أصنعه هنا ولا ضير من متابعتك ".
غير أن جانباً آخر في خلال بحثه عن الحقيقة يتجلّى من خلال مناجاته للخالق التي تغطي مساحة معتبرة من السرد الروائي، وتتوزع على مساحات سردية هنا وهناك (في الكهف والجبل والظلمة والطريق إلى الحج)، ومن خلال ذلك الربط الفريد بين الحقيقة والجمال؛ إذ يتحد بحثه عن الوجد والجمال ببحثه عن الخالق، فهو يشعر حين يفكر بمعشوقته شوذب أنه ضائعٌ الضياعَ ذاته: "حين أفكر بشَوْذَب أشعر بأني أمام كائن هُلامي.. كائن يتسرَّبُ كما الضوء "، كما يمارس طقس التأمل خلال توحّده في عمق الكهف، فيخرج يراعه للمناجاة والبحث: "أخرج يَراعي.. أقتل الوقتَ بنقش الجدران بالنقوش.. أرسُمُ كلماتٍ.. توسلاتٍ إلى مَن أبحثُ عنه.. على جدران الصوان .."
وأترك للمستقصين دراسة مدى نجاح الروائي في دقة تحديد أمكنة الرواية، في أجزائها الثلاثة حيث دارت الأحداث في صنعاء بأحيائها وشوارعها وبيوتها وجبالها، ومن ثم في طريق الحج ذهاباً وإياباً؛ حيث ثمة إشارات مكانية غنية غنى الأحداث ذاتها، لكي أركّز على علاقة عناصر الفضاء الروائي بمضمونها الذي تحيل عليه، فالمسجد الذي كان ملاذ صعصعة، وملاذاً غير ثابت لجوذر كان يحيل بقوة على الجمال الذي نؤكد ها هنا أنه أقنوم من أقانيم الخلود عنده، لذلك تسحره "رسوم الجدران، ألوانـُها.. تداخلُ خطوطها. سقوفها.. أعمدتها.. "، ولذلك أيضاً يعلن في سياق مبكّر من الرواية أنه حين بلغ العاشرة بدأ يكتشف تأثير النقوش على روحه، وصارت جولة الجمال في نقوش المصحف تأخذ لبّه ،حتى إنه نقش ذات يوم (حرفاً جديداً) أسماه شوذب، يشبهها بانحناءاته ومرونته ولينه ،
وصار النقش بحدّ ذاته أحد مؤثثات الفضاء الروائي الأكثر حضوراً في الروح، وعلى سقوف الغرف التي يزينها بصورة اتحاد مرجوّ بينه وبين شوذب، وصارت صورتها هي الكمال المفقود الذي يبحث عنه جوذر، والذي يراه في جميع الأحوال ناقصاً، مثله في ذلك مثل نقوش المصحف التي توحي للصانع الماهر بمزيد من إمكانية الإبداع: "واليوم أتذكر كيف تعلمتُ من ذلك المصحف أن الكمالَ مستحيل.. وأن النقصَ هو الاكتمال.. أَوْ هكذا تيقنت.. وأصبحت أنتظرُ ما هو أجمل :
وثمة في هذا الفضاء الرّوائي ثنائيتان ضدّيتان متواشجتان تلفتان النظر، هما (المفتوح X المغلق) و(الظلام X الضوء) وهما ثنائيتان تنضحان بما هو غير مألوف على صعيد الرواية، فالمغلق كما هو شائع نظير الحبس الجسدي أو الذهني، بينما هو في هذه الرواية آفاق يمكن فتحها (غرفة الكتب في حانوت المعلم/ المغارة المظلمة). ولعلنا نذكر هاهنا صعصعة وهو يتحدث لجوذر عن الحجرة الخلفية للحانوت التي يتم تحويل مغلقها إلى مفتوح في السياق التالي:
"أشار علي أن أسبقه.. رائحة تكتم الأنفاس ركع بعدي.. زحف بقوائمه.. كدت أختنق.. كاد سراج الفتلة أن ينطفئ.. حُجرة خلفية صغيرة بحجم الحانوت أَوْ أصغر قليلاً.. عدة صناديق بأحجام مختلفة.. ذرات الغبار تلون المكان.. قال هامساً: هنا يمكنك إخفاء ما تشاء من كتب." .
وتأتي أهمية هذا المقتبس من كون المغلق هنا لا ينفتح على مكان فحسب، بل على آفاق فكرية لا حدود لها، تتمثل في مفهوم الثقافة التي يريدها صعصعة دليلاً في بحث جوذر عن ضالته.
والظلام الذي يملأ مساحة نصية كبيرة من الرواية ليس رديفاً للإظلام الفكري، بل هو مساحة لمناقشات فكرية بين العينات الصغرى لمجتمعات محكومة بالصراع: فالظلام هنا دعوة للتفكير والاتّباع، والنور مربك لأنه يكشف حقيقة الاشياء المادية، وكأنّ ولع السارد الذي يهمين عليه هو الطريق إلى الحقيقة لا الحقيقة ذاتها، وشاهِدُنا في ذلك ما شهده الظلام من رؤى فكرية متوافقة ومتعارضة، وما شهده النور من انفتاح على القبح المطلق. ولنا أن نتأمل السياقات السردية التالية:
• "اختفت الظلمة.. لم تستطع عيناي النظر إلى ذلك النور .."
• "ارتبكت عيناي حين حاولت رؤية ما حولي.. جدران صخرية تلمع لشدة سوادها وتشبعها بطبقه تشبه القطران الندي.. شروخ غائرة في أعماق بعيدة" .
• "ضَجَّ نور أصفر من مكان علٍ بدد الظلام .. بعيني لمحت جُدراناً صخرية بعيدة.. سقفاً حجرياً عالياً.. أشباحاً متفرقة أقرب إلى القردة بشعورهم الطويلة وعريهم.. يتقافزون.. وجوههم باتجاه مصدر الضوء.. يتعاركون صارخين دون وعي" ..
الحكاية ولعبة الزمن:
تفترض التقنية الروائية التي ارتضاها محمد الغربي لروايته تلاعباً بالزمن يعتمد في شكله الأساسي على موازاة مفترضة بين الماضي والحاضر، يقيمها النص السردي المتني مع النص السردي الهامشي، مثلما يعتمد على استذكار يقترحه جوذر لشكل الرواية برمتها: ذلك أن التدوين الذي قام به جوذر إنما أتى بعد نهاية أحداث الرواية، واستقراره من جديد في محل صعصعة، على نحو ما يشي المجتزأ التالي:
"أما بعد.. أنا جَــوْذَر بن...... عشت كما شاءت لي المشيئة.. أجيراً في صباي.. تعلمت رسم الحروف ونقش الزخارف على يدي معلمي صعصعة.. وَخلط الأزهار بالصمغ والجير ومسحوق الفحم بمقادير مختلفة وغليها لاستخراج ألوان الكتابة والتصوير.. كما حذقتُ تحضير رقوق الكتابة من جلود الماعز.. وتحضير الكاغد من القنب الأبيض.. وكذا جمع وحباكة الورق وتجليدها كُتباً" .
ويضاف إلى ماسبق طبعاً ما يتطلبه النص السردي المتني ذاته من استذكارات دلفت إلى نفس جوذر الوادعة، أو اطمئنت إليها نفسه الضائعة في رحلة البحث والشقاء، وقد أفاد الروائي من الاستذكارات الخارجية والداخلية، فعاد إلى زمن الروي نفسه (حين يسترجع جوذر ذكرياته)، كما عاد إلى ما قبل زمن الروي (حين يروي الآخرون من مثل أمه يائيل) حكايات تمتد ارتداداً إلى ما قبل ذلك الزمن. فهو يروي بدء حكايته مع المعلم صعصع؛ في سياق استذكاري محدد، وهو ابن الثامنة تمسك أمه بذراعة، وتقوده إلى دكان النسخ والنقش:
"- سلام عليك يا جار.
يرفع المعلم وجهَه مبتسماً.
- وعليك السلام يا جارة.
تتسع ابتسامته حين يرى وجهَ الطفل ملتصقاً بثوب أمه.. يبتسم الطفلُ بعينيه الصغيرتين.. قالت الأم وهي تشير إلى طفلها:
- هذا ابني أتيتُ به إليك ".
ولعلّ أكثر الاستذكارات إلحاحاً على نفس جوذر مشهد قتل المعلم صعصعة الذي حضر في النص عدة مرات، وهذه هي المرة الأولى التي تظهر مقتله في شهر محرم الحرام:
"سأعود بحكايتي إلى قادم الأيام.. إلى يوم جمعة من شهر محرم الحرام 435 للهجرة.. يومها انتشر خيالة ملثمون في أحياء وأسواق صنعاء.. يبحثون عن ضحاياهم.. لتصل مجموعة منهم إلى سوق الوراقين.. لحظتها صرخ بي المعلم صعصعة لمرآهم ..: "اُهرب ياجَــوْذَر بسرعة.. اُنج بحياتك". حينها رأيتُ الموت في عينيه.. وسريعاً ما سدت الخيالة باب الحانوت" . ولعل ميزة تكرار هذه الحادثة أنه تورث النص إيقاعاً لافتاً يشعر به القارئ، خاصة عند تكرار أنساق لفظية بعينها كما سنشير عند الحديث عن الإيقاع الروائي.
والحقّ فإنّ النصوص الاسترجاعية تملأ الفضاء النصي للرواية، لأنها لا تمثل مجرد تقنية يلجأ إليها الكاب، بل فسحة لروح جوذر الوثابة التي تجد في الذكريات ملاذاً من ضغوط الحاضر السردي، غير أن هذا لا يعني أن الاستذكارات كانت حكراً عليه، بل إنّ النص يفيض أيضاً باستذكارات المعلم وزوجته وأم جوذر وصديقه قانح وغيرهم. فأمه تروي له حكايتها مع عمّها ومع زوجها "سأحكي لك حكاية قديمة" ، وقانح يحكي لجوذر حكايته التي قادته اخيراً إلى الظلمة، وهكذا.
ويبدي الروائي مقدرة لافتة في السرد الذي يتكئ عليه الاسترجاع، إذ ينوّع في تسويغ اللجوء إليه مكاناً وزماناً وحدثاً، فمرة يرجعه منظر السوق إلى صعصعة، ومرة يرجعه نقش إلى شوذب، وهكذا.. ولعلنا نشير هنا إلى اتكاء أحد الاسترجاعات على الظلمة التي عاش فيها جوذر سنين عددا؛ إذ ينجح ها هنا في كسر الاسترجاع والعودة إلى الزمن الحاضر متكئاً على حدثٍ، هو نشب معركة مفاجئة من المعارك التي لا تنتهي:
"أعادتني من تراتيل أمي ضجة بين الجماعتين.. رفضت مجموعتنا دعوة صلاة الإمام الآخر.. أَو الإنصات لمواعظه.. ارتفع صوته منذراً.. انتشرت أصوات أتباعه لتصطدم أيديهم بآخرين.. انهالوا بالضرب على من لمست أيديهم.. نشبت المعركة ..
وفي خلال هذا الزمن المتعاقب الذي تكسره الاستذكارات يقدّم الروائي حكايته التي تشبه دوامة حَدَثيّة، توازي دوامة البحث الفكرية التي يعيشها جوذر، تبدأ باستقرار هشّ تعيشة شخصيات المجتمع في ظلّ إمام من الأئمة، ثم يهتزّ هذا الاستقرار بهجوم مباغت يتخلله عنف وقتل وتدمير واعتقال وسبي، ليصير المجتمع أسيراً في ظلّ استقرار الإمام الجديد، انتظاراً لإمام آخر يقلب الوضع المستقرّ على عقبية بالوسائل ذاتها، وهكذا دواليك. حتى إن الحوافز الصغرى تتشابه، فثمة بعد الانتصار الدموي استقبالات واحتفالات وولاءات جديدة، وثمة من يلهج بالدعاء للقادم الجديد. ولعلنا نشير هنا إلى بعض السرود التي تمثّل لمحطات الدوامة الحكائية المختلفة، فالناس الذين لم يروا بعد الإمام الجديد، ولمسوا سطوة رجاله وبأسهم، سيكون عليهم استقباله، فقد جاء "لينشر الحقَّ ويُبيد الباطل.. وعلى الجميع إشعالُ المواقد ليلاً على أسطح الدُّور والمنازل.. والحوانيت.. والمنارات .
تبدأ الدوامة الحكائية إذاً بالقتل والقمع والدم، لتأتي بعده القدرة الباطشة على إقناع الناس بأن مولانا الجديد جاء لكي ينشر الحق، لذلك فهو جدير بالحفاوة والضيافة، وهو جدير مع عساكره بالحصول على الغنم والبقر والحبوب والدجاج والفاكهة، ومن ينكر هذه الجدارة فعليه أن يكون جاهزاً لكي يُهدم بيته ويُقتلع زرعه وأشجار بستانه، وتنهب مواشيه ، وفي نائبة من نوائب القدر تعود الحكاية إلى بدايتها التي تقودها إلى النهاية بعد العبور في خضم الضياع والعدمية والدم واللاجدوى والغدر حيث كل شيء مباح، حتى القتل بسُمّ الخديعة، وبعد العبور أيضاً في متاهات النفاق التي تجعل الدين الذي يرفض النقش والرسم ألعوبة في يد القائمين عليه، يقول جوذر حين يُطلب منه رسم نقوش الغرف في السكن الشخصي للحاكم بأمر رغباته:
"في البداية لم أستوعب ما أنا فيه.. ولم أعد أعرف حدود المحلل من المحرم لديهم.. كنت بالأمس أقف خائفا من الطرد والتشرد.. و اليوم أنا مطالَبٌ بنقش تلك الجُدران والسقوف بما كانوا ينهوني عنه .
ويلجأ الروائي لتقديم كل هذه المواقف التي يملأ بها بياضات الخط الروائي الأساسي، إلى طرق أشكال متنوعة لتقديم حكاياتها، منطلقاً من تدوين المذكرات الذي يحكم الرواية برمّتها، معتمداً على الأحلام والكوابيس التي كانت تهاجم نوم جوذر، مقدّماً أحداث تلك الحكايات المتداخلة (الصغيرة منها والكبيرة) من خلال ما يتيحه النظام السردي من أنواع الشخصيات الرئيسية (جوذر وشوذب) والمساعدة (مثل: صعصعة ويائيل وقانح وجعدن) والمعوّقة (مثل: الشخص الذي ادّعى أنه رسول الحرازي ومجموعات الخطف والقتل والسلب) وطيفية عابرة (من مثل البشاري والقاضي وغيرهما).
في لغة الرواية:
على الرغم مما تعاني منه الرواية على صعيد الأغلاط الطباعية واللغوية القليلة، فقد بقيت لغتها الجمالية هي الأكثر حضوراً، فيما غابت اللغة الذهنية التي ترافق عادة مثل هذا النوع من المضامين الروائية، واستطاع الروائي أن ينتصر لشعرية الرواية من خلال عدد من الروافع اللغوية المتنوعة، مستثمراً البعد الجمالي للغة، إضافة إلى البعدين الثقافي والاجتماعي، دون أن يهمل استثمار الإيقاع الروائي، إن على صعيد الحكاية أو على صعيد تقديم لغتها.
ثمة وحدة يقيمها الروائي بين لغة الرواية ولغة الشعر، فترى في بيئته الجغرافية جبالاً (تعتصر من السحب رغوة السيول في مواسم الأمطار"، وأصوات أغانٍ "لونت سواد الليل حياةً وشجناً "..
وإذا كانت العبارة الأخيرة تقوم على مبادلة حسية بين المسموع والمرئي، فقد بادل الروائي في كثير من عباراته بين الروحي والملموس، فكانت لغة روايته نقشاً فسيفسائياً غنياً بمثل هذه المبادلات، ولعلنا نشير هنا إلى السياق التالي المنتزع من رحلة الظلمة الدامسة الذي يمزج الحواس جميعاً بعضها ببعض:
"صحوت من نومي فزعاً من ذلك الحلم.. تبحث أصابعي عن ذلك الرفيق.. سألته عن حلمي.. قال لي ستواجه قدرا أنكى مما نحن فيه. لم تزدني كلماته إلا شقاءً وتأملاً. يحدثني ومخيلتي تنقش ملامح وجهه.. لون بشرته.. عيونه.. قامته .
وقد وشّى الروائي روايته بنصوص ذات بعد ثقافي من النصوص الدينية، ومن الشعر العربي القديم والحديث، الفصيح والشعبي، محققاً بذلك بعداً ثقافياً اجتماعياً يجسّد الرؤى الفكرية والبنى الاجتماعية للشخصيات التي تحتمي من العنف المنتظر بالمسجد فتنشد "ما في الوجودِ سواك رَبٌّ يُعبَـد// كلا ولا مولى سواك فيُـقصَد " أو تغرّد إعجاباً بجمال الطبيعة المحيطة: "سيره دلا يا نجوم الليل سيره دلا.... سيره على وجه بقعا مثل قبض الهواء ".
ولا يكتفي الروائي بأن يقدم المجتمع من خلال حامله اللغوي الجمالي، بل يلجأ إلى الحامل الحكائي لإضاءة وجوهه المختلفة، فيسرد عباداتٍ وطقوساً وعاداتٍ تلوّن مجتمع الرواية، إذ نجد إشارات حكائية إلى المساجد والكنس وطقوس لباس (الإحرام) ، ولباس (التفلين والطاليت) ومجالس الختان والنخاسة والطرب واللهو والفحش، وها نحن نعرض للقارئ الكريم نسقاً سردياً يصف واحداً من مشاهد النخاسة:
"يصرُخُ المنادي مُمسكاً بإحدى الجواري: انظُرْ هذه الجارية البيضاء الفارسية.. لها صَوتُ ملاك.. وقدُّ بان.. تجيدُ الرقصَ والغناء.. والعزف.. وإثارة سيدها.. وهذا الغلامُ ابن الرابعة عشرة أتينا به من الشام.. يُجيدُ ما تجيدُه النساء.. وهذا العبدُ أتينا به من بلاد الزنج له قوة البغال وصبر الجمال.. ويحسن إراحةَ سيده.. وهذه الجارية يمانية لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها.. كما تَرَون كالغزال في خفتها لها طلعة أميرة.. تسيرُ راقصة كالـمُهرة ..".
وقد أفاد الروائي مما يتيحه نظام لغة السرد من تكرارات لغوية أو حكائية ليرسّخ في رواياته إيقاعات متعددة، تقوم على اللغة والموضوع في آن. ولعل أكثر الإيقاعات اللغوية بروزاً في الرواية تلك العبارة المرعبة التي يقولها المعلم صعصعة لجوذر"اُهرب ياجَــوْذَر بسرعة.. اُنج بحياتك " التي تتكرر في سياقات مختلفة، تضبط إيقاع الحكاية، وتقدّم تفصيلاً جديداً في قصة موت المعلم، وتذكّر جوذر في كلّ مرة أنّ عليه أن يهرب من جديد، أما فيما يتعلّق بإيقاعات الموضوع فقد برز إيقاع النقاش الديني، وإيقاع المشهد الجنسي، غير أن أبرز تلك الإيقاعات وأكثرها تكراراً كان إيقاع القمع الوحشي الذي يسربل الرواية كلها بحوافز متنقلة تثير الهلع في النفوس، ولعلنا نتجاوز هنا روائح القتل والسلب والنهب والسبي وقلع والعيون، لنكتفي بالمشهد التالي الذي يستقبله الناس (ربما رغماً عنهم) بالتهليل والتكبير:
"ظهرَ رجلٌ ذو قامة مديدة.. ملثماً بالسواد.. عاري الساعدين والصدر.. ممسكاً بسيفٍ يلمع تحت خيوط الشمس.. رقص رقصة السيف .. حام حول المكبلين.. يرقص بنشوة والجموع يتعالى صراخها.. في لمح البصر يهوي بسيفه على إحدى النساء.. لينسل الحبل من رقبتها بعد أن بتر رأسها.. وزغرد الدم الفوار.. عاد لرقصته وهياجه وهو يلعق السيف بلسانه.. تختلط أصوات الجموع.. يتقافز.. ينقض هاوياً بسيفه يقسم جسدَ إحدى النساء الصغيرات من الخاصرة (...) تقدم الإمام الملثم على خيله.. مجرداً سيفه.. شد رسن خيله.. وقف العاري ينظر الجموع.. تغيرت ملامح وجهه.. جال بنظره في كوم الأشلاء.. قهقه بصوت عالٍ.. نظر إلى السماء.. غير مبال أو أنه فقد عقله.. تقدم الملثمُ بسيفه.. وبضربات خبيرة بتر رأسه العاري.. الذراعين.. القدمين.. بقر بطنه ليترك سيفه كالوتد.. ومضى مترجلاً ليختفي خلف أبواب القلعة.. ".
باختصار نقول: إنّ رواية محمد الغربي عمران( ظلمة يائيل) رواية إشكالية، تشبه حجراً كبيراً يلقي في مياه راكدة، فيوسّع من حوله دوائر الاتفاق والاختلاف؛ وحسبه في كل ما قدمه أنه يحرض ذهن القارئ على التفكير، ويثير في نفسه مكامن الجمال، وذلك من خلال طاقة ثقافية مصوغة بلغة جمالية خلّابة.
See Translation
‎محمد الغربي عمران يبدّد ظلمة يائيل

د. يوسف حطيني

تعدّ رواية "ظلمة يائيل " للكاتب اليمني محمد الغربي عمران واحدة من أكثر الروايات العربية جرأة؛ إذ تنكأ الجراح الأكثر إيلاماً في حياتنا المعاصرة، على الرغم من أنها تجعل العقود المتوسطة من القرن الخامس الهجري خلفية تاريخية لها.
في رحلة السرد الروائية هذه يتجاور خطّان يحمل أحدهما خيبة الماضي (بما يكشف الحاضر ويجعل تداعياته أقل إدهاشاً) وذلك في المتن الروائي، بينما يحمل الآخر في هامش هذا المتن حكاية أخرى لا ترقى إلى مستوى الحكاية الأولى، ولكنها ترسّخ حالة ثقافية حاضرة تشي بالخراب.
تشبه هذه الرواية التي تجسّد الرحلة السندبادية الجسدية والروحية لبطلها جوذر، من حيث التكنيك الروائي، عدداً غير قليل من الروايات العربية والأجنبية من حيث وجود متنين سرديين، ومن حيث اعتمادها على مخطوطة يتم عرضها من قبل سارد آخر، ولكنها تحيل مباشرة إلى رواية (اسم الوردة) للإيطالي أمبرتو إيكو، ومن بعد ذلك رواية (عزازيل) للمصري يوسف زيدان اللتين استخدمتا ساردين: داخلي للمسرود الروائي، وخارجي لبيان كيفية نقل هذا المسرود، لمعالجة خلافات دينية كنسية، غير أنّ محمد الغربي عمران يفضلهما في أنه جعل السارد الخارجي أقلّ حيادية، وحمّله حكاية أخرى لا تبتعد ظاهرياً عن المشهد الروائي الأساسي.
تنقسم الرواية/ المخطوطة شكلياً إلى ثلاثة أقسام كبرى هي:
1- صنعاء.
2- ظلمة يائيل.
3- الرحلة.
ويسرد النسّاخ جوذر في هذه الأقسام رحلة حياته المريرة في بحثه المضني عن الحقيقة، وعن أمه وعن شوذب، مبتدئاً من عمله عند معلمه صعصعة الذي شهد قتله فيما بعد، ثم القبض عليه وأسره عدة سنوات في ظلمة دامسة، ثم خروجه للبحث عن أمه التي لم تعد تعرفه، وعن شوذب التي تم سبيُها.
فيما يسرد السرد ذاته خلفيات المجتمع السياسية والاجتماعية والعقيدية، حيث الخلاف على أشدّه بين مجموعات يعتقد كل منها أنه يمتلك الحقيقة، فيما هو يمتلك (إضافة إلى إيمانه هذا) طاقة هائلة على البطش، وعلى تحويل الخلافات الفكرية بين الجماعات الصغرى إلى معارك دموية لا رحمة فيها.
رحلة البحث عن الحقيقة:
لقد سلخ جوذر سنوات طوالاً من حياته باحثاً في مسارين: أولهما بحثه عن الحقيقة، وثانيهما بحثه عمن يرشده إليها، وقد كان المسار الثاني أكثر وضوحاً؛ إذ سرعان ما كان جوذر يطمئن إلى الداعي، ليملأ في روحه خواء أو ضياعاً، أيّاً كان معتقد ذلك الداعي، ويستسلم لعقائده أو حركاته أو ترانيمه... إلخ.. فهو معلّق بحبال دعوة معلمه ودعوة أمه ومناجاة الرجل الأشيب، وتعليمات العيلوم والحاخام، وخطبة المولى الأجلّ، وتعاليم قانح الذي أسلس له قياده حتى قبل أن يسمع أياً من تعاليمه. والمقطع السردي الحواري التالي (الذي يجعل فيه قانح الاتباع شرطاً للمعرفة) يبدو ذا دلالة كبرى على ضياع جوذر وعلى انقياده الجارف وراء أية فكرة، ولو كانت وهماً:
"- الصبر طريق الخلاص!.
- أَيّ خلاص ؟.
- الخلاص عبر الصراط المستقيم !.
- كيف ؟.
- أن تسلك معي الصراط إلى الصبر الذي يقود إلى الخلاص.
- أهي أحجية.
- ذاك شرطي إن أردت مسايرتي.
- لا أجد ما أصنعه هنا ولا ضير من متابعتك ".
غير أن جانباً آخر في خلال بحثه عن الحقيقة يتجلّى من خلال مناجاته للخالق التي تغطي مساحة معتبرة من السرد الروائي، وتتوزع على مساحات سردية هنا وهناك (في الكهف والجبل والظلمة والطريق إلى الحج)، ومن خلال ذلك الربط الفريد بين الحقيقة والجمال؛ إذ يتحد بحثه عن الوجد والجمال ببحثه عن الخالق، فهو يشعر حين يفكر بمعشوقته شوذب أنه ضائعٌ الضياعَ ذاته: "حين أفكر بشَوْذَب أشعر بأني أمام كائن هُلامي.. كائن يتسرَّبُ كما الضوء "، كما يمارس طقس التأمل خلال توحّده في عمق الكهف، فيخرج يراعه للمناجاة والبحث: "أخرج يَراعي.. أقتل الوقتَ بنقش الجدران بالنقوش.. أرسُمُ كلماتٍ.. توسلاتٍ إلى مَن أبحثُ عنه.. على جدران الصوان .."
وأترك للمستقصين دراسة مدى نجاح الروائي في دقة تحديد أمكنة الرواية، في أجزائها الثلاثة حيث دارت الأحداث في صنعاء بأحيائها وشوارعها وبيوتها وجبالها، ومن ثم في طريق الحج ذهاباً وإياباً؛ حيث ثمة إشارات مكانية غنية غنى الأحداث ذاتها، لكي أركّز على علاقة عناصر الفضاء الروائي بمضمونها الذي تحيل عليه، فالمسجد الذي كان ملاذ صعصعة، وملاذاً غير ثابت لجوذر كان يحيل بقوة على الجمال الذي نؤكد ها هنا أنه أقنوم من أقانيم الخلود عنده، لذلك تسحره "رسوم الجدران، ألوانـُها.. تداخلُ خطوطها. سقوفها.. أعمدتها.. "، ولذلك أيضاً يعلن في سياق مبكّر من الرواية أنه حين بلغ العاشرة بدأ يكتشف تأثير النقوش على روحه، وصارت جولة الجمال في نقوش المصحف تأخذ لبّه ،حتى إنه نقش ذات يوم (حرفاً جديداً) أسماه شوذب، يشبهها بانحناءاته ومرونته ولينه ،
وصار النقش بحدّ ذاته أحد مؤثثات الفضاء الروائي الأكثر حضوراً في الروح، وعلى سقوف الغرف التي يزينها بصورة اتحاد مرجوّ بينه وبين شوذب، وصارت صورتها هي الكمال المفقود الذي يبحث عنه جوذر، والذي يراه في جميع الأحوال ناقصاً، مثله في ذلك مثل نقوش المصحف التي توحي للصانع الماهر بمزيد من إمكانية الإبداع: "واليوم أتذكر كيف تعلمتُ من ذلك المصحف أن الكمالَ مستحيل.. وأن النقصَ هو الاكتمال.. أَوْ هكذا تيقنت.. وأصبحت أنتظرُ ما هو أجمل :
وثمة في هذا الفضاء الرّوائي ثنائيتان ضدّيتان متواشجتان تلفتان النظر، هما (المفتوح X المغلق) و(الظلام X الضوء) وهما ثنائيتان تنضحان بما هو غير مألوف على صعيد الرواية، فالمغلق كما هو شائع نظير الحبس الجسدي أو الذهني، بينما هو في هذه الرواية آفاق يمكن فتحها (غرفة الكتب في حانوت المعلم/ المغارة المظلمة). ولعلنا نذكر هاهنا صعصعة وهو يتحدث لجوذر عن الحجرة الخلفية للحانوت التي يتم تحويل مغلقها إلى مفتوح في السياق التالي:
"أشار علي أن أسبقه.. رائحة تكتم الأنفاس ركع بعدي.. زحف بقوائمه.. كدت أختنق.. كاد سراج الفتلة أن ينطفئ.. حُجرة خلفية صغيرة بحجم الحانوت أَوْ أصغر قليلاً.. عدة صناديق بأحجام مختلفة.. ذرات الغبار تلون المكان.. قال هامساً: هنا يمكنك إخفاء ما تشاء من كتب." .
وتأتي أهمية هذا المقتبس من كون المغلق هنا لا ينفتح على مكان فحسب، بل على آفاق فكرية لا حدود لها، تتمثل في مفهوم الثقافة التي يريدها صعصعة دليلاً في بحث جوذر عن ضالته.
والظلام الذي يملأ مساحة نصية كبيرة من الرواية ليس رديفاً للإظلام الفكري، بل هو مساحة لمناقشات فكرية بين العينات الصغرى لمجتمعات محكومة بالصراع: فالظلام هنا دعوة للتفكير والاتّباع، والنور مربك لأنه يكشف حقيقة الاشياء المادية، وكأنّ ولع السارد الذي يهمين عليه هو الطريق إلى الحقيقة لا الحقيقة ذاتها، وشاهِدُنا في ذلك ما شهده الظلام من رؤى فكرية متوافقة ومتعارضة، وما شهده النور من انفتاح على القبح المطلق. ولنا أن نتأمل السياقات السردية التالية:
• "اختفت الظلمة.. لم تستطع عيناي النظر إلى ذلك النور .."
• "ارتبكت عيناي حين حاولت رؤية ما حولي.. جدران صخرية تلمع لشدة سوادها وتشبعها بطبقه تشبه القطران الندي.. شروخ غائرة في أعماق بعيدة" .
• "ضَجَّ نور أصفر من مكان علٍ بدد الظلام .. بعيني لمحت جُدراناً صخرية بعيدة.. سقفاً حجرياً عالياً.. أشباحاً متفرقة أقرب إلى القردة بشعورهم الطويلة وعريهم.. يتقافزون.. وجوههم باتجاه مصدر الضوء.. يتعاركون صارخين دون وعي" ..
الحكاية ولعبة الزمن:
تفترض التقنية الروائية التي ارتضاها محمد الغربي لروايته تلاعباً بالزمن يعتمد في شكله الأساسي على موازاة مفترضة بين الماضي والحاضر، يقيمها النص السردي المتني مع النص السردي الهامشي، مثلما يعتمد على استذكار يقترحه جوذر لشكل الرواية برمتها: ذلك أن التدوين الذي قام به جوذر إنما أتى بعد نهاية أحداث الرواية، واستقراره من جديد في محل صعصعة، على نحو ما يشي المجتزأ التالي:
"أما بعد.. أنا جَــوْذَر بن...... عشت كما شاءت لي المشيئة.. أجيراً في صباي.. تعلمت رسم الحروف ونقش الزخارف على يدي معلمي صعصعة.. وَخلط الأزهار بالصمغ والجير ومسحوق الفحم بمقادير مختلفة وغليها لاستخراج ألوان الكتابة والتصوير.. كما حذقتُ تحضير رقوق الكتابة من جلود الماعز.. وتحضير الكاغد من القنب الأبيض.. وكذا جمع وحباكة الورق وتجليدها كُتباً" .
ويضاف إلى ماسبق طبعاً ما يتطلبه النص السردي المتني ذاته من استذكارات دلفت إلى نفس جوذر الوادعة، أو اطمئنت إليها نفسه الضائعة في رحلة البحث والشقاء، وقد أفاد الروائي من الاستذكارات الخارجية والداخلية، فعاد إلى زمن الروي نفسه (حين يسترجع جوذر ذكرياته)، كما عاد إلى ما قبل زمن الروي (حين يروي الآخرون من مثل أمه يائيل) حكايات تمتد ارتداداً إلى ما قبل ذلك الزمن. فهو يروي بدء حكايته مع المعلم صعصع؛ في سياق استذكاري محدد، وهو ابن الثامنة تمسك أمه بذراعة، وتقوده إلى دكان النسخ والنقش:
"- سلام عليك يا جار.
يرفع المعلم وجهَه مبتسماً.
- وعليك السلام يا جارة.
تتسع ابتسامته حين يرى وجهَ الطفل ملتصقاً بثوب أمه.. يبتسم الطفلُ بعينيه الصغيرتين.. قالت الأم وهي تشير إلى طفلها:
- هذا ابني أتيتُ به إليك ".
ولعلّ أكثر الاستذكارات إلحاحاً على نفس جوذر مشهد قتل المعلم صعصعة الذي حضر في النص عدة مرات، وهذه هي المرة الأولى التي تظهر مقتله في شهر محرم الحرام:
"سأعود بحكايتي إلى قادم الأيام.. إلى يوم جمعة من شهر محرم الحرام 435 للهجرة.. يومها انتشر خيالة ملثمون في أحياء وأسواق صنعاء.. يبحثون عن ضحاياهم.. لتصل مجموعة منهم إلى سوق الوراقين.. لحظتها صرخ بي المعلم صعصعة لمرآهم ..: "اُهرب ياجَــوْذَر بسرعة.. اُنج بحياتك". حينها رأيتُ الموت في عينيه.. وسريعاً ما سدت الخيالة باب الحانوت" . ولعل ميزة تكرار هذه الحادثة أنه تورث النص إيقاعاً لافتاً يشعر به القارئ، خاصة عند تكرار أنساق لفظية بعينها كما سنشير عند الحديث عن الإيقاع الروائي.
والحقّ فإنّ النصوص الاسترجاعية تملأ الفضاء النصي للرواية، لأنها لا تمثل مجرد تقنية يلجأ إليها الكاب، بل فسحة لروح جوذر الوثابة التي تجد في الذكريات ملاذاً من ضغوط الحاضر السردي، غير أن هذا لا يعني أن الاستذكارات كانت حكراً عليه، بل إنّ النص يفيض أيضاً باستذكارات المعلم وزوجته وأم جوذر وصديقه قانح وغيرهم. فأمه تروي له حكايتها مع عمّها ومع زوجها "سأحكي لك حكاية قديمة" ، وقانح يحكي لجوذر حكايته التي قادته اخيراً إلى الظلمة، وهكذا.
ويبدي الروائي مقدرة لافتة في السرد الذي يتكئ عليه الاسترجاع، إذ ينوّع في تسويغ اللجوء إليه مكاناً وزماناً وحدثاً، فمرة يرجعه منظر السوق إلى صعصعة، ومرة يرجعه نقش إلى شوذب، وهكذا.. ولعلنا نشير هنا إلى اتكاء أحد الاسترجاعات على الظلمة التي عاش فيها جوذر سنين عددا؛ إذ ينجح ها هنا في كسر الاسترجاع والعودة إلى الزمن الحاضر متكئاً على حدثٍ، هو نشب معركة مفاجئة من المعارك التي لا تنتهي:
"أعادتني من تراتيل أمي ضجة بين الجماعتين.. رفضت مجموعتنا دعوة صلاة الإمام الآخر.. أَو الإنصات لمواعظه.. ارتفع صوته منذراً.. انتشرت أصوات أتباعه لتصطدم أيديهم بآخرين.. انهالوا بالضرب على من لمست أيديهم.. نشبت المعركة ..
وفي خلال هذا الزمن المتعاقب الذي تكسره الاستذكارات يقدّم الروائي حكايته التي تشبه دوامة حَدَثيّة، توازي دوامة البحث الفكرية التي يعيشها جوذر، تبدأ باستقرار هشّ تعيشة شخصيات المجتمع في ظلّ إمام من الأئمة، ثم يهتزّ هذا الاستقرار بهجوم مباغت يتخلله عنف وقتل وتدمير واعتقال وسبي، ليصير المجتمع أسيراً في ظلّ استقرار الإمام الجديد، انتظاراً لإمام آخر يقلب الوضع المستقرّ على عقبية بالوسائل ذاتها، وهكذا دواليك. حتى إن الحوافز الصغرى تتشابه، فثمة بعد الانتصار الدموي استقبالات واحتفالات وولاءات جديدة، وثمة من يلهج بالدعاء للقادم الجديد. ولعلنا نشير هنا إلى بعض السرود التي تمثّل لمحطات الدوامة الحكائية المختلفة، فالناس الذين لم يروا بعد الإمام الجديد، ولمسوا سطوة رجاله وبأسهم، سيكون عليهم استقباله، فقد جاء "لينشر الحقَّ ويُبيد الباطل.. وعلى الجميع إشعالُ المواقد ليلاً على أسطح الدُّور والمنازل.. والحوانيت.. والمنارات .
تبدأ الدوامة الحكائية إذاً بالقتل والقمع والدم، لتأتي بعده القدرة الباطشة على إقناع الناس بأن مولانا الجديد جاء لكي ينشر الحق، لذلك فهو جدير بالحفاوة والضيافة، وهو جدير مع عساكره بالحصول على الغنم والبقر والحبوب والدجاج والفاكهة، ومن ينكر هذه الجدارة فعليه أن يكون جاهزاً لكي يُهدم بيته ويُقتلع زرعه وأشجار بستانه، وتنهب مواشيه ، وفي نائبة من نوائب القدر تعود الحكاية إلى بدايتها التي تقودها إلى النهاية بعد العبور في خضم الضياع والعدمية والدم واللاجدوى والغدر حيث كل شيء مباح، حتى القتل بسُمّ الخديعة، وبعد العبور أيضاً في متاهات النفاق التي تجعل الدين الذي يرفض النقش والرسم ألعوبة في يد القائمين عليه، يقول جوذر حين يُطلب منه رسم نقوش الغرف في السكن الشخصي للحاكم بأمر رغباته:
"في البداية لم أستوعب ما أنا فيه.. ولم أعد أعرف حدود المحلل من المحرم لديهم.. كنت بالأمس أقف خائفا من الطرد والتشرد.. و اليوم أنا مطالَبٌ بنقش تلك الجُدران والسقوف بما كانوا ينهوني عنه .
ويلجأ الروائي لتقديم كل هذه المواقف التي يملأ بها بياضات الخط الروائي الأساسي، إلى طرق أشكال متنوعة لتقديم حكاياتها، منطلقاً من تدوين المذكرات الذي يحكم الرواية برمّتها، معتمداً على الأحلام والكوابيس التي كانت تهاجم نوم جوذر، مقدّماً أحداث تلك الحكايات المتداخلة (الصغيرة منها والكبيرة) من خلال ما يتيحه النظام السردي من أنواع الشخصيات الرئيسية (جوذر وشوذب) والمساعدة (مثل: صعصعة ويائيل وقانح وجعدن) والمعوّقة (مثل: الشخص الذي ادّعى أنه رسول الحرازي ومجموعات الخطف والقتل والسلب) وطيفية عابرة (من مثل البشاري والقاضي وغيرهما).
في لغة الرواية:
على الرغم مما تعاني منه الرواية على صعيد الأغلاط الطباعية واللغوية القليلة، فقد بقيت لغتها الجمالية هي الأكثر حضوراً، فيما غابت اللغة الذهنية التي ترافق عادة مثل هذا النوع من المضامين الروائية، واستطاع الروائي أن ينتصر لشعرية الرواية من خلال عدد من الروافع اللغوية المتنوعة، مستثمراً البعد الجمالي للغة، إضافة إلى البعدين الثقافي والاجتماعي، دون أن يهمل استثمار الإيقاع الروائي، إن على صعيد الحكاية أو على صعيد تقديم لغتها.
ثمة وحدة يقيمها الروائي بين لغة الرواية ولغة الشعر، فترى في بيئته الجغرافية جبالاً (تعتصر من السحب رغوة السيول في مواسم الأمطار"، وأصوات أغانٍ "لونت سواد الليل حياةً وشجناً "..
وإذا كانت العبارة الأخيرة تقوم على مبادلة حسية بين المسموع والمرئي، فقد بادل الروائي في كثير من عباراته بين الروحي والملموس، فكانت لغة روايته نقشاً فسيفسائياً غنياً بمثل هذه المبادلات، ولعلنا نشير هنا إلى السياق التالي المنتزع من رحلة الظلمة الدامسة الذي يمزج الحواس جميعاً بعضها ببعض:
"صحوت من نومي فزعاً من ذلك الحلم.. تبحث أصابعي عن ذلك الرفيق.. سألته عن حلمي.. قال لي ستواجه قدرا أنكى مما نحن فيه. لم تزدني كلماته إلا شقاءً وتأملاً. يحدثني ومخيلتي تنقش ملامح وجهه.. لون بشرته.. عيونه.. قامته .
وقد وشّى الروائي روايته بنصوص ذات بعد ثقافي من النصوص الدينية، ومن الشعر العربي القديم والحديث، الفصيح والشعبي، محققاً بذلك بعداً ثقافياً اجتماعياً يجسّد الرؤى الفكرية والبنى الاجتماعية للشخصيات التي تحتمي من العنف المنتظر بالمسجد فتنشد "ما في الوجودِ سواك رَبٌّ يُعبَـد// كلا ولا مولى سواك فيُـقصَد " أو تغرّد إعجاباً بجمال الطبيعة المحيطة: "سيره دلا يا نجوم الليل سيره دلا.... سيره على وجه بقعا مثل قبض الهواء ".
ولا يكتفي الروائي بأن يقدم المجتمع من خلال حامله اللغوي الجمالي، بل يلجأ إلى الحامل الحكائي لإضاءة وجوهه المختلفة، فيسرد عباداتٍ وطقوساً وعاداتٍ تلوّن مجتمع الرواية، إذ نجد إشارات حكائية إلى المساجد والكنس وطقوس لباس (الإحرام) ، ولباس (التفلين والطاليت) ومجالس الختان والنخاسة والطرب واللهو والفحش، وها نحن نعرض للقارئ الكريم نسقاً سردياً يصف واحداً من مشاهد النخاسة:
"يصرُخُ المنادي مُمسكاً بإحدى الجواري: انظُرْ هذه الجارية البيضاء الفارسية.. لها صَوتُ ملاك.. وقدُّ بان.. تجيدُ الرقصَ والغناء.. والعزف.. وإثارة سيدها.. وهذا الغلامُ ابن الرابعة عشرة أتينا به من الشام.. يُجيدُ ما تجيدُه النساء.. وهذا العبدُ أتينا به من بلاد الزنج له قوة البغال وصبر الجمال.. ويحسن إراحةَ سيده.. وهذه الجارية يمانية لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها.. كما تَرَون كالغزال في خفتها لها طلعة أميرة.. تسيرُ راقصة كالـمُهرة ..".
وقد أفاد الروائي مما يتيحه نظام لغة السرد من تكرارات لغوية أو حكائية ليرسّخ في رواياته إيقاعات متعددة، تقوم على اللغة والموضوع في آن. ولعل أكثر الإيقاعات اللغوية بروزاً في الرواية تلك العبارة المرعبة التي يقولها المعلم صعصعة لجوذر"اُهرب ياجَــوْذَر بسرعة.. اُنج بحياتك " التي تتكرر في سياقات مختلفة، تضبط إيقاع الحكاية، وتقدّم تفصيلاً جديداً في قصة موت المعلم، وتذكّر جوذر في كلّ مرة أنّ عليه أن يهرب من جديد، أما فيما يتعلّق بإيقاعات الموضوع فقد برز إيقاع النقاش الديني، وإيقاع المشهد الجنسي، غير أن أبرز تلك الإيقاعات وأكثرها تكراراً كان إيقاع القمع الوحشي الذي يسربل الرواية كلها بحوافز متنقلة تثير الهلع في النفوس، ولعلنا نتجاوز هنا روائح القتل والسلب والنهب والسبي وقلع والعيون، لنكتفي بالمشهد التالي الذي يستقبله الناس (ربما رغماً عنهم) بالتهليل والتكبير:
"ظهرَ رجلٌ ذو قامة مديدة.. ملثماً بالسواد.. عاري الساعدين والصدر.. ممسكاً بسيفٍ يلمع تحت خيوط الشمس.. رقص رقصة السيف .. حام حول المكبلين.. يرقص بنشوة والجموع يتعالى صراخها.. في لمح البصر يهوي بسيفه على إحدى النساء.. لينسل الحبل من رقبتها بعد أن بتر رأسها.. وزغرد الدم الفوار.. عاد لرقصته وهياجه وهو يلعق السيف بلسانه.. تختلط أصوات الجموع.. يتقافز.. ينقض هاوياً بسيفه يقسم جسدَ إحدى النساء الصغيرات من الخاصرة (...) تقدم الإمام الملثم على خيله.. مجرداً سيفه.. شد رسن خيله.. وقف العاري ينظر الجموع.. تغيرت ملامح وجهه.. جال بنظره في كوم الأشلاء.. قهقه بصوت عالٍ.. نظر إلى السماء.. غير مبال أو أنه فقد عقله.. تقدم الملثمُ بسيفه.. وبضربات خبيرة بتر رأسه العاري.. الذراعين.. القدمين.. بقر بطنه ليترك سيفه كالوتد.. ومضى مترجلاً ليختفي خلف أبواب القلعة.. ".
باختصار نقول: إنّ رواية محمد الغربي عمران( ظلمة يائيل) رواية إشكالية، تشبه حجراً كبيراً يلقي في مياه راكدة، فيوسّع من حوله دوائر الاتفاق والاختلاف؛ وحسبه في كل ما قدمه أنه يحرض ذهن القارئ على التفكير، ويثير في نفسه مكامن الجمال، وذلك من خلال طاقة ثقافية مصوغة بلغة جمالية خلّابة.‎


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي