المواطن العربي وذهنيات "التسول"، و "الأُلْفَة"، و"الخوف"، والتَّميُّز"، و"القمع والاستبداد"..
أسامة عكنان
إن الإنسان العربي تحكمه مجموعة من الذهنيات التي تُسْهِم في تشكيل أدائه وفي تكوين طرائق تفكيره وأنماط ردات فعله على ما يواجهه من متغيرات وأحداث في واقعه. ولا تكمن المشكلة فقط في كون كل ذهنية من تلك الذهنيات هي في حد ذاتها ذات مردود سلبي في حياة الإنسان العربي، بل في كون هذه الذهنيات – ولعل هذا هو أهم ما في المشكلة – تُنْتِجُ بتفاعلها مع بعضها البعض مركبات ذهنية عالية المردود السلبي، مع أن بعض تلك الذهنيات قد تَتَّسِم – في ذاتها – ببعض الإيجابيات أحيانا. إن جوهر المشكلة إذن هو في التركيبة وليس في مكونات هذه التركيبة بالضرورة، وإن كانت معظم تلك المكونات هي في ذاتها سامة.
إن غاز الأوكسجين (o) هو بمفرده غاز إيجابي وصديق للإنسان، بل هو ضروري لحياته، وعليه تقوم هذه الحياة. كما أن عنصر الكربون (c) هو مكون أساسي من مكونات المادة العضوية التي لا يستغني عنها الإنسان في حياته. لكن التركيبة (co) أو التركيبة (co2) هما تركيبتان ضارتان، يتراوح ضررهما بين كون إحداهما سامة والأخرى خانقة. المشكلة إذن هي في نمط التركيب وليست في المكونات التي قد تكون مفيدة في ذاتها أحيانا قبل أن تتفاعل مع غيرها مكونة أداءً أو نتاجا جديدا ومختلفا عن مكوناته ذاتها.
ما معنى ذلك؟
إن هناك العديد من الذهنيات التي تتحكم في سلوك وتفكير الإنسان العربي المعاصر، مثل ذهنية "التسول" وذهنية "الأُلْفَة" وذهنية "الخوف" وذهنية "التَّميُّز" وذهنية "القمع".. إلخ. وإن لكل ذهنية من هذه الذهنيات دلالاتها في الواقع الموضوعي، وهي عندما تتفاعل مع بعضها البعض فإنها تُنْتِج في هذا الواقع أداءاتٍ تظهر على شكل محاربة للتفكير وللتعقل، أو بكلمة أخرى، تظهر على شكل محاربة لاستخدام العقل عموما.
تنطبق ذهنية التسول على من يستجدي حقوقه ولا ينتزعها ممن اغتصبها منه..
أما ذهنية الألفة فتنطبق على من يألف الواقع ويتوحد معه إلى درجة التردد في تغييره أو حتى في قبول فكرة تغييره مهما كانت دواعي هذا التغيير عميقة وضرورية وملحة، لأنه يتوجس من الجديد ومن تَبِعَةِ البدء في بناء الألفة معه. إنها ذهنية ترتكز إلى الاستكانة والهدوء والدعة وخشية الصخب الناتج عن التغيير أو المُرَافق له عادة..
أما ذهنية الخوف فهي تنطبق على من كثرت ثوابته الأسطورية والخرافية البعيدة عن العلم. ولأن الثابت الأسطوري والخرافي محفوف بالمخاطر دوما، وعلى رأسها مخاطر التردي والانهيار أمام ما يشع به الواقع من إمكانات تُعَارِضُ تلك الثوابت، فإن مساحةً هائلة من خشية المساس بها – أي بتلك الثوابت – تبدأ بالهيمنة على ذهن المعني بالأمر. وتتفاقم مؤثرات هذه الذهنية في الغالب لدى من يتواجد في واقع متغير ومتقلب يؤمن بضرورة التعامل معه من جهة، في الوقت الذي تزخر معتقداته الموروثة بكَمٍّ هائل من الثوابت اللاعلمية التي تحول بينه وبين كفاءة هذا التعامل من جهة أخرى، كما هو حال الإنسان العربي عموما، بسبب الفهم الموروث لمرجعياته الدينية عموما، وعلى رأسها المرجعية الإسلامية..
ولما كان العقل هو محور المساس بتلك الثوابت وهي تتصارع مع الواقع الفارض لنفسه، فإن ذهنية الخوف تنصب أول ما تنصب باتجاه العقل وإشعاعاته، وتحاربه بلا هوادة، لأنه بمساسه بهذه الثوابت إنما يمس عنصر الاستكانة والدَّعَة المرتكز إلى ذهنية الألفة مع هكذا ثوابت..
فالمسلمون مثلا إذا كانوا قد أَلِفُوا التعايشَ مع صورة معينة من صور الإسلام (أي مع فهم معين للإسلام) – كثرت ثوابتها الموروثة ذات النزعة الأسطورية – وتعودوا عليها وأَنِسُوا إليها وارتاحوا لذلك على مدى زمني طويل، بحيث انعكست في حياتهم على هيئة كمٍّ هائل من القضايا الراسخة. فإن ارتباط استخدام العقل بالمساس بهذه الثوابت والقضايا الراسخة، بما يعنيه ذلك من ثم من تهديد لعنصر الهدوء والألفة في حياتهم، بصورة قد تدفعهم إلى البحث عن ثوابت جديدة للتآلف معها..
.. نقول: إن ارتباط استخدام العقل بذلك، يخلق ذهنيةً مهزوزةً قائمةً على الخوف منه وعلى التوجس من كل ما له علاقة به. وبالتالي تُرَى هذه الذهنية التي هي في الأساس ذهنية مهزوزة قائمة على الرعب والخوف، وهي تمارس هجوما شرسا على كل من يَظْهَر مُستخدِما له، محاولا تكسير عناصر التماسك الزائفة في الألفة المقيتة مع ما لم يعد من شأنه الإسهام في أي دفع تقدمي للواقع النابض بمقومات التَّغَيُّر.
ثم تأتي بعد ذلك ذهنية التَّمَيَّز – الإيجابية في حد ذاتها إذا توفرت فيها بعض الشروط – لتستكمل رحلة التَّسَمُّم الذهني الذي يعاني منه الإنسان العربي. تقوم ذهنية التميز عند الإنسان العربي على قناعته بأنه متميز عن سائر البشر..
ولكنه – للأسف – يُرْجِع أساسَ هذا التميز إلى ما ليس صحيحا ولا موضوعيا على الإطلاق..
فهو يظن تميزه الذي يتوهمه، متحققا لسببين رئيسيين هما..
1 – العراقة الحضارية باعتبار أرضه موطنا لأقدم الحضارات المعروفة على مستوى العالم..
2 – العراقة الدينية باعتباره موطنا للرسالات السماوية كلها، وباعتباره يملك الإسلام آخر تلك الرسالات وأكملها، وباعتباره بامتلاكه له، جنديا في جيشٍ مُعْتقدي يحمل رسالةً عالمية عليه أن ينشرها في كل مكان فوق هذا الكوكب، مع العلم بأن تصوره عن الرسالية في تلك الرسالة وعن طريقة التعاطي مع مسألة نشرها، تتَّسِم بضبابية مُهْلِكَة.
فإذا كانت هذه الذهنية في حد ذاتها – أي ذهنية التَّمَيُّز – إذا تحررت من بُقَعِ العنصرية البغيضة – ونَحسبها عند الإنسان العربي متحررة من ذلك على الأغلب – وإذا استندت من ثم إلى مُكونات موضوعية ذات دلالة بناءة – وهذا ما لا نحسبه متوفرا فيها – ذهنيةً إيجابيةً ودافعة، فإنها بهيأتها السلبية تلك، وعندما تتفاعل مع ذهنية الألفة وذهنية الخوف تصنع معهما مُرَكَّبا ذهنيا ساما جدا، كغاز أول أكسيد الكربون، وهذا المركب هو ذهنية "القمع والاستبداد"..
إن إحساس الإنسان العربي بأن تَمَيُّزَه قائم على الإسلام الذي يتبناه ويعتقد فيه، يَجعل أيَّ مساس بهذا الإسلام – بهيأته تلك – مساسا بهذا التَّمَيُّز من حيث المبدأ. فإذا كان وعي الإنسان العربي ينصب في الظاهر باتجاه محاربة ما يظن أنه مساس بالإسلام، فهو في لا وعيه إنما يدافع عن نفسه وعن تميزه في حقيقة الأمر. وإذا كانت الصورة السائدة للإسلام والفهم التقليدي المتفشي له ولمرجعيَّته النَّصِّيَّة هما مبرر التميز الذي يأنس له الإنسان العربي بحكم ذهنية الألفة التي تتحكم فيه كما رأينا سابقا، فإن الدفاع عن هذه الصورة ومحاربة أيَّ مساس بهذا الفهم لم يعودا قائمين فقط بسبب الخوف من زوال المألوف والاضطرار من ثم إلى بناء أُلْفَة جديدة مع صورة جديدة ومع فهم جديد للإسلام، بل بسبب خوف آخر قد يكون أشد من الأول، إنه الخوف من زوال هذا التميز الذي يعتز به ويعتبر أن أهميته في هذا العالم مرهونة به.
وإذن فسوف تزداد بطبيعة الحال حدة العداء والنبذ للأدوات التي يتبدى له – أي للإنسان العربي – أنها تمس بتلك الصورة، بسبب أنها أصبحت تهدِّد لديه عنصرين هامين يقوم عليهما وجوده في جانبيه "الطَّبْعِي" من جهة و"الكَيَانِي" من جهة أخرى، وهما "الألفة" و"التميز".. ولما كان العقل هو دائما تلك الأداة التي تحاول أن تعيد بناء صورة الإسلام وطرائق فهمه، فقد كان من الطبيعي أن ينصب العداء باتجاهها بهذا الشكل الدموي، باعتبارها أداة تهدد في الحقيقة – كما هو عليه الأمر في لا وعيه – تَمَيُّزًهُ ومألوفاته، وبعد أن أصبحت أداةً تُشَكِّل خطرا عليه يثير رعبه ومخاوفه، وهكذا كان من اللازم أن يُقْمَعَ العقل قمعا بشعا بلا رحمة.
خلاصة القول أن الإنسان العربي يشعر بألفةٍ دائمة وحميمة مع ما هو سائد من فهم للإسلام، ويحس بأن تميُّزَه في العالم قائم على بقاء هذا المألوف وعلى استمراره في حياته بصورته التي أَلِفَها، فيخاف من أي محاولةٍ تَنْصَبُّ باتجاه المساس بالصورة المألوفة لإسلامه، لأنها محاولة لا تُقرأ في لا وعيه إلاَّ تحت عنوانِ هذا المساس بمألوفاته وبتميزه بالتالي. فَيُحاَرِبُ وعيه دفاعا مستميتا عمَّا هو كامن في لا وعيه، كلَّ من يتصدى لهذه المهمة – مهمة المساس – ويقمعه بكل ما أوتي من قوة.
ولما كان العقل هو سيد المبادرة دائما، فقد وقع عليه عبء دفع الثمن..
وذهن الإنسان العربي في صراعه مع العقل– عدو مألوفه وتميُّزِه الزائفين – لا يجد نفسه معنيا بغير الذود عن مألوفه وعن تميزه، بصرف النظر عن مدى حاجته – بالاستناد إلى مقاييس موضوعية – إلى هذا المألوف، أو عن مدى صدق ادعائه – بالاستناد إلى تلك المقاييس نفسها– التميزَ بناءً على الصورة وعلى الفهم السائدين للإسلام.
فهل من طريقة إذن لتخليص الإنسان العربي من عدائه المستحكم للعقل؟
في الواقع لا سبيل إلى ذلك إلاَّ بتخليصه من ذهنيتي الألفة والتميز، ومن ثم من نتائجهما..
فمادام قمع العقل ناتجا في الأساس عن الخوف منه بسبب مساسه بالمألوف وبالتميز المرتكز إلى هذا المألوف والقائم عليه، فيجب أولا أن تتحطم في أغوار الذهن المتعايش مع الأُلْفَة، مرتكزات تلك الألفة، أي يجب أن يتحرر الإنسان العربي من وطأة الألفة وثقلها على تفكيره ومردودها في حياته. يجب أن يتحرر من ألفة كل شيئ تُعْتَبَرُ ألفته في الوقت الحاضر متعارضة مع التقدم والتطور والقفز إلى آفاق المستقبل.
من جهة أخرى يجب أن تتحطم في أغوار ذهن هذا الإنسان مرتكزات التميز الحالية لديه..
أي إن عليه التحرر من وهم اعتبار تميزه قائما في عالم اليوم على مقولة حمله للإسلام بالصورة وبالفهم التقليديين السائدين له، أو بضرب جذوره التاريخية العربية في أعماق التاريخ..
إن هذه المرتكزات لم تعد تصلح لأن تكون أرضية لأي شكل من أشكال التميز في عالم تتفاضل فيه الشعوب والأمم بقدراتها العلمية وبمنجزاتها الثقافية والتقنية الراهنة، وليس الدينية بشكلها الموروث، ولا التاريخية المنقوشة على الأحجار المُغْبَرَّة..
فكم يبدو مُؤْسِفاً أن نعترف بأن أكثر الناس تميزا في زماننا هم أولئك الذين يأتون من بلدانهم لزيارة حجارتنا ومعالم ماضينا، مبدين كل إعجابهم وانبهارهم بها وسعادتهم برؤيتها، بينما نذهب عندما نذهب إليهم لرؤية معالم مدنيتهم وحضارتهم الحالية..
إنهم يعرضون علينا حاضرهم في أكثر صوره إشراقا وانطلاقا، ونحن لا نملك سوى ماضينا نعرضه عليهم، محاولين كل ما في وسعنا تبييض السواد الذي فيه، بدل بذل جهدنا في محاكاةِ قيم انطلاقهم إلى فضاءات المستقبل المذهلة، فيما تعتبر محاكاته مطلبا ضروريا للتقدم والرفعة والنهضة.
إن هناك - بمعنى آخر - معايير جديدة للتميز تحكم مسار الحضارة الإنسانية في لحظتها الراهنة، يجب على الإنسان العربي أن يُعيد بناء ذهنية التميز لديه وِفْقَهَا وفي ضوئها، متحررا من سطوة عقيدة أسطورية تهيمن على تفكيره المأزوم بلسع الماضي وبالعجز عن التعايش مع الحاضر وقراءة المستقبل، مُهَيِّئة له أن يوم فتح رومية (روما) أصبح قريبا، كما هيأت لصاحب كتاب "السرطان الأحمر" الذي كان يقاتل في أفغانستان بسيف أمريكي يُدَثِّرُه الدولار، أن المسلمين سيفتحون واشنطون، بعد فتح موسكو، وذلك انطلاقا من دولة الخلافة المرتقبة "أفغانستان"، التي مزقتها أنياب القبائل الأُمِّيَّة بعد أن رفعت الولايات المتحدة يدها عنها، ليؤول بها مطاف التِّرْحال باتجاه الماضي إلى الإصابة بعمى ألوان من نوع غير مسبوق يَحْرِم صاحبه من القدرة على التفريق بين الصنم الذي يُعْبَد والأثر الذي يَروي الماضي ويحكي تفاصيل سيرورته.
إن هناك سلسلة ضخمة في واقعنا تقيد السماء والأرض معا..
لكن قيدَ الأرض نتج عن قيد السماء، وبالتالي فإن تحرُّر الأرض من القيد الذي ترزح تحته، لن يتحقق إذا بقيت السماء مقيدة..
وإذن فيجب أن نفك قيد السماء أولا، هذا القيد القاسي الذي قيدناها به، فأسقطته علينا قيدا أشد قسوة في انتقامٍ نعاني من وطأته معاناةً لم تعانها أمة من الأمم..
نعم، هذه هي البداية، إنها تحرير السماء من ظلمة أفكارنا وتصوراتنا الهَشَّة عنها وعن علاقتها بالأرض..
إنها في إعادة بناء منظومة تفسيرية قادرة على تفجير كافة التعارضات والتناقضات التي أقامها وشيدها في علاقة الأرض بالسماء هذا القيد السَّلفي التَّقليدي المُرْبِك بكل اتجاهاته وأجنحته القديمة سنية وشيعية.. يجب أن تتحطم إذن في الذهن المسلم لبناتُ الأُلفة والتَّميز – بالصورة التي وضحناها لهما فيما مضى – كي تُحَلَّ مشكلته المستحكمة والمتمثلة في موقفه العدائي من العقل. لأنه إذا تحرر من عقدة المألوف، فلن يعود هناك ما يخيفه من الجديد الذي سيمس هذا المألوفَ بالتأكيد. وإذا هو تحرر من عقدة التميز المرتكز إلى هذا المألوف، وأقام فلسفة تميزه على عناصر ومُكَوِّنات جديدة، فإنه لن يخشى على تميزه هذا إذا تم المساس بمرتكزه الحالي الموهوم، تعديلا وتطويرا وتغييرا. وبالتالي فإن عُقْدَة الخوف من أداة هذين المساسين ستتفكك لوحدها وسوف تختفي من ذهنه، ليجد نفسه وقد تخلص منها نهائيا، ولن يغدو مضطرا إلى معاداة العقل الذي كان يرعبه ويَقُضُّ مضجعَه فيما مضى، بل هو مضطر إلى مصادقته وإلى استحضاره دائما، كي يكون عونا له على تشكيل مرتكزات تميزه الجديدة وبناء مألوفاته الجديدة..
المواطن العربي وذهنيات "التسول"، و "الأُلْفَة"، و"الخوف"، والتَّميُّز"، و"القمع والاستبداد"..
أسامة عكنان
إن الإنسان العربي تحكمه مجموعة من الذهنيات التي تُسْهِم في تشكيل أدائه وفي تكوين طرائق تفكيره وأنماط ردات فعله على ما يواجهه من متغيرات وأحداث في واقعه. ولا تكمن المشكلة فقط في كون كل ذهنية من تلك الذهنيات هي في حد ذاتها ذات مردود سلبي في حياة الإنسان العربي، بل في كون هذه الذهنيات – ولعل هذا هو أهم ما في المشكلة – تُنْتِجُ بتفاعلها مع بعضها البعض مركبات ذهنية عالية المردود السلبي، مع أن بعض تلك الذهنيات قد تَتَّسِم – في ذاتها – ببعض الإيجابيات أحيانا. إن جوهر المشكلة إذن هو في التركيبة وليس في مكونات هذه التركيبة بالضرورة، وإن كانت معظم تلك المكونات هي في ذاتها سامة.
إن غاز الأوكسجين (o) هو بمفرده غاز إيجابي وصديق للإنسان، بل هو ضروري لحياته، وعليه تقوم هذه الحياة. كما أن عنصر الكربون (c) هو مكون أساسي من مكونات المادة العضوية التي لا يستغني عنها الإنسان في حياته. لكن التركيبة (co) أو التركيبة (co2) هما تركيبتان ضارتان، يتراوح ضررهما بين كون إحداهما سامة والأخرى خانقة. المشكلة إذن هي في نمط التركيب وليست في المكونات التي قد تكون مفيدة في ذاتها أحيانا قبل أن تتفاعل مع غيرها مكونة أداءً أو نتاجا جديدا ومختلفا عن مكوناته ذاتها.
ما معنى ذلك؟
إن هناك العديد من الذهنيات التي تتحكم في سلوك وتفكير الإنسان العربي المعاصر، مثل ذهنية "التسول" وذهنية "الأُلْفَة" وذهنية "الخوف" وذهنية "التَّميُّز" وذهنية "القمع".. إلخ. وإن لكل ذهنية من هذه الذهنيات دلالاتها في الواقع الموضوعي، وهي عندما تتفاعل مع بعضها البعض فإنها تُنْتِج في هذا الواقع أداءاتٍ تظهر على شكل محاربة للتفكير وللتعقل، أو بكلمة أخرى، تظهر على شكل محاربة لاستخدام العقل عموما.
تنطبق ذهنية التسول على من يستجدي حقوقه ولا ينتزعها ممن اغتصبها منه..
أما ذهنية الألفة فتنطبق على من يألف الواقع ويتوحد معه إلى درجة التردد في تغييره أو حتى في قبول فكرة تغييره مهما كانت دواعي هذا التغيير عميقة وضرورية وملحة، لأنه يتوجس من الجديد ومن تَبِعَةِ البدء في بناء الألفة معه. إنها ذهنية ترتكز إلى الاستكانة والهدوء والدعة وخشية الصخب الناتج عن التغيير أو المُرَافق له عادة..
أما ذهنية الخوف فهي تنطبق على من كثرت ثوابته الأسطورية والخرافية البعيدة عن العلم. ولأن الثابت الأسطوري والخرافي محفوف بالمخاطر دوما، وعلى رأسها مخاطر التردي والانهيار أمام ما يشع به الواقع من إمكانات تُعَارِضُ تلك الثوابت، فإن مساحةً هائلة من خشية المساس بها – أي بتلك الثوابت – تبدأ بالهيمنة على ذهن المعني بالأمر. وتتفاقم مؤثرات هذه الذهنية في الغالب لدى من يتواجد في واقع متغير ومتقلب يؤمن بضرورة التعامل معه من جهة، في الوقت الذي تزخر معتقداته الموروثة بكَمٍّ هائل من الثوابت اللاعلمية التي تحول بينه وبين كفاءة هذا التعامل من جهة أخرى، كما هو حال الإنسان العربي عموما، بسبب الفهم الموروث لمرجعياته الدينية عموما، وعلى رأسها المرجعية الإسلامية..
ولما كان العقل هو محور المساس بتلك الثوابت وهي تتصارع مع الواقع الفارض لنفسه، فإن ذهنية الخوف تنصب أول ما تنصب باتجاه العقل وإشعاعاته، وتحاربه بلا هوادة، لأنه بمساسه بهذه الثوابت إنما يمس عنصر الاستكانة والدَّعَة المرتكز إلى ذهنية الألفة مع هكذا ثوابت..
فالمسلمون مثلا إذا كانوا قد أَلِفُوا التعايشَ مع صورة معينة من صور الإسلام (أي مع فهم معين للإسلام) – كثرت ثوابتها الموروثة ذات النزعة الأسطورية – وتعودوا عليها وأَنِسُوا إليها وارتاحوا لذلك على مدى زمني طويل، بحيث انعكست في حياتهم على هيئة كمٍّ هائل من القضايا الراسخة. فإن ارتباط استخدام العقل بالمساس بهذه الثوابت والقضايا الراسخة، بما يعنيه ذلك من ثم من تهديد لعنصر الهدوء والألفة في حياتهم، بصورة قد تدفعهم إلى البحث عن ثوابت جديدة للتآلف معها..
.. نقول: إن ارتباط استخدام العقل بذلك، يخلق ذهنيةً مهزوزةً قائمةً على الخوف منه وعلى التوجس من كل ما له علاقة به. وبالتالي تُرَى هذه الذهنية التي هي في الأساس ذهنية مهزوزة قائمة على الرعب والخوف، وهي تمارس هجوما شرسا على كل من يَظْهَر مُستخدِما له، محاولا تكسير عناصر التماسك الزائفة في الألفة المقيتة مع ما لم يعد من شأنه الإسهام في أي دفع تقدمي للواقع النابض بمقومات التَّغَيُّر.
ثم تأتي بعد ذلك ذهنية التَّمَيَّز – الإيجابية في حد ذاتها إذا توفرت فيها بعض الشروط – لتستكمل رحلة التَّسَمُّم الذهني الذي يعاني منه الإنسان العربي. تقوم ذهنية التميز عند الإنسان العربي على قناعته بأنه متميز عن سائر البشر..
ولكنه – للأسف – يُرْجِع أساسَ هذا التميز إلى ما ليس صحيحا ولا موضوعيا على الإطلاق..
فهو يظن تميزه الذي يتوهمه، متحققا لسببين رئيسيين هما..
1 – العراقة الحضارية باعتبار أرضه موطنا لأقدم الحضارات المعروفة على مستوى العالم..
2 – العراقة الدينية باعتباره موطنا للرسالات السماوية كلها، وباعتباره يملك الإسلام آخر تلك الرسالات وأكملها، وباعتباره بامتلاكه له، جنديا في جيشٍ مُعْتقدي يحمل رسالةً عالمية عليه أن ينشرها في كل مكان فوق هذا الكوكب، مع العلم بأن تصوره عن الرسالية في تلك الرسالة وعن طريقة التعاطي مع مسألة نشرها، تتَّسِم بضبابية مُهْلِكَة.
فإذا كانت هذه الذهنية في حد ذاتها – أي ذهنية التَّمَيُّز – إذا تحررت من بُقَعِ العنصرية البغيضة – ونَحسبها عند الإنسان العربي متحررة من ذلك على الأغلب – وإذا استندت من ثم إلى مُكونات موضوعية ذات دلالة بناءة – وهذا ما لا نحسبه متوفرا فيها – ذهنيةً إيجابيةً ودافعة، فإنها بهيأتها السلبية تلك، وعندما تتفاعل مع ذهنية الألفة وذهنية الخوف تصنع معهما مُرَكَّبا ذهنيا ساما جدا، كغاز أول أكسيد الكربون، وهذا المركب هو ذهنية "القمع والاستبداد"..
إن إحساس الإنسان العربي بأن تَمَيُّزَه قائم على الإسلام الذي يتبناه ويعتقد فيه، يَجعل أيَّ مساس بهذا الإسلام – بهيأته تلك – مساسا بهذا التَّمَيُّز من حيث المبدأ. فإذا كان وعي الإنسان العربي ينصب في الظاهر باتجاه محاربة ما يظن أنه مساس بالإسلام، فهو في لا وعيه إنما يدافع عن نفسه وعن تميزه في حقيقة الأمر. وإذا كانت الصورة السائدة للإسلام والفهم التقليدي المتفشي له ولمرجعيَّته النَّصِّيَّة هما مبرر التميز الذي يأنس له الإنسان العربي بحكم ذهنية الألفة التي تتحكم فيه كما رأينا سابقا، فإن الدفاع عن هذه الصورة ومحاربة أيَّ مساس بهذا الفهم لم يعودا قائمين فقط بسبب الخوف من زوال المألوف والاضطرار من ثم إلى بناء أُلْفَة جديدة مع صورة جديدة ومع فهم جديد للإسلام، بل بسبب خوف آخر قد يكون أشد من الأول، إنه الخوف من زوال هذا التميز الذي يعتز به ويعتبر أن أهميته في هذا العالم مرهونة به.
وإذن فسوف تزداد بطبيعة الحال حدة العداء والنبذ للأدوات التي يتبدى له – أي للإنسان العربي – أنها تمس بتلك الصورة، بسبب أنها أصبحت تهدِّد لديه عنصرين هامين يقوم عليهما وجوده في جانبيه "الطَّبْعِي" من جهة و"الكَيَانِي" من جهة أخرى، وهما "الألفة" و"التميز".. ولما كان العقل هو دائما تلك الأداة التي تحاول أن تعيد بناء صورة الإسلام وطرائق فهمه، فقد كان من الطبيعي أن ينصب العداء باتجاهها بهذا الشكل الدموي، باعتبارها أداة تهدد في الحقيقة – كما هو عليه الأمر في لا وعيه – تَمَيُّزًهُ ومألوفاته، وبعد أن أصبحت أداةً تُشَكِّل خطرا عليه يثير رعبه ومخاوفه، وهكذا كان من اللازم أن يُقْمَعَ العقل قمعا بشعا بلا رحمة.
خلاصة القول أن الإنسان العربي يشعر بألفةٍ دائمة وحميمة مع ما هو سائد من فهم للإسلام، ويحس بأن تميُّزَه في العالم قائم على بقاء هذا المألوف وعلى استمراره في حياته بصورته التي أَلِفَها، فيخاف من أي محاولةٍ تَنْصَبُّ باتجاه المساس بالصورة المألوفة لإسلامه، لأنها محاولة لا تُقرأ في لا وعيه إلاَّ تحت عنوانِ هذا المساس بمألوفاته وبتميزه بالتالي. فَيُحاَرِبُ وعيه دفاعا مستميتا عمَّا هو كامن في لا وعيه، كلَّ من يتصدى لهذه المهمة – مهمة المساس – ويقمعه بكل ما أوتي من قوة.
ولما كان العقل هو سيد المبادرة دائما، فقد وقع عليه عبء دفع الثمن..
وذهن الإنسان العربي في صراعه مع العقل– عدو مألوفه وتميُّزِه الزائفين – لا يجد نفسه معنيا بغير الذود عن مألوفه وعن تميزه، بصرف النظر عن مدى حاجته – بالاستناد إلى مقاييس موضوعية – إلى هذا المألوف، أو عن مدى صدق ادعائه – بالاستناد إلى تلك المقاييس نفسها– التميزَ بناءً على الصورة وعلى الفهم السائدين للإسلام.
فهل من طريقة إذن لتخليص الإنسان العربي من عدائه المستحكم للعقل؟
في الواقع لا سبيل إلى ذلك إلاَّ بتخليصه من ذهنيتي الألفة والتميز، ومن ثم من نتائجهما..
فمادام قمع العقل ناتجا في الأساس عن الخوف منه بسبب مساسه بالمألوف وبالتميز المرتكز إلى هذا المألوف والقائم عليه، فيجب أولا أن تتحطم في أغوار الذهن المتعايش مع الأُلْفَة، مرتكزات تلك الألفة، أي يجب أن يتحرر الإنسان العربي من وطأة الألفة وثقلها على تفكيره ومردودها في حياته. يجب أن يتحرر من ألفة كل شيئ تُعْتَبَرُ ألفته في الوقت الحاضر متعارضة مع التقدم والتطور والقفز إلى آفاق المستقبل.
من جهة أخرى يجب أن تتحطم في أغوار ذهن هذا الإنسان مرتكزات التميز الحالية لديه..
أي إن عليه التحرر من وهم اعتبار تميزه قائما في عالم اليوم على مقولة حمله للإسلام بالصورة وبالفهم التقليديين السائدين له، أو بضرب جذوره التاريخية العربية في أعماق التاريخ..
إن هذه المرتكزات لم تعد تصلح لأن تكون أرضية لأي شكل من أشكال التميز في عالم تتفاضل فيه الشعوب والأمم بقدراتها العلمية وبمنجزاتها الثقافية والتقنية الراهنة، وليس الدينية بشكلها الموروث، ولا التاريخية المنقوشة على الأحجار المُغْبَرَّة..
فكم يبدو مُؤْسِفاً أن نعترف بأن أكثر الناس تميزا في زماننا هم أولئك الذين يأتون من بلدانهم لزيارة حجارتنا ومعالم ماضينا، مبدين كل إعجابهم وانبهارهم بها وسعادتهم برؤيتها، بينما نذهب عندما نذهب إليهم لرؤية معالم مدنيتهم وحضارتهم الحالية..
إنهم يعرضون علينا حاضرهم في أكثر صوره إشراقا وانطلاقا، ونحن لا نملك سوى ماضينا نعرضه عليهم، محاولين كل ما في وسعنا تبييض السواد الذي فيه، بدل بذل جهدنا في محاكاةِ قيم انطلاقهم إلى فضاءات المستقبل المذهلة، فيما تعتبر محاكاته مطلبا ضروريا للتقدم والرفعة والنهضة.
إن هناك - بمعنى آخر - معايير جديدة للتميز تحكم مسار الحضارة الإنسانية في لحظتها الراهنة، يجب على الإنسان العربي أن يُعيد بناء ذهنية التميز لديه وِفْقَهَا وفي ضوئها، متحررا من سطوة عقيدة أسطورية تهيمن على تفكيره المأزوم بلسع الماضي وبالعجز عن التعايش مع الحاضر وقراءة المستقبل، مُهَيِّئة له أن يوم فتح رومية (روما) أصبح قريبا، كما هيأت لصاحب كتاب "السرطان الأحمر" الذي كان يقاتل في أفغانستان بسيف أمريكي يُدَثِّرُه الدولار، أن المسلمين سيفتحون واشنطون، بعد فتح موسكو، وذلك انطلاقا من دولة الخلافة المرتقبة "أفغانستان"، التي مزقتها أنياب القبائل الأُمِّيَّة بعد أن رفعت الولايات المتحدة يدها عنها، ليؤول بها مطاف التِّرْحال باتجاه الماضي إلى الإصابة بعمى ألوان من نوع غير مسبوق يَحْرِم صاحبه من القدرة على التفريق بين الصنم الذي يُعْبَد والأثر الذي يَروي الماضي ويحكي تفاصيل سيرورته.
إن هناك سلسلة ضخمة في واقعنا تقيد السماء والأرض معا..
لكن قيدَ الأرض نتج عن قيد السماء، وبالتالي فإن تحرُّر الأرض من القيد الذي ترزح تحته، لن يتحقق إذا بقيت السماء مقيدة..
وإذن فيجب أن نفك قيد السماء أولا، هذا القيد القاسي الذي قيدناها به، فأسقطته علينا قيدا أشد قسوة في انتقامٍ نعاني من وطأته معاناةً لم تعانها أمة من الأمم..
نعم، هذه هي البداية، إنها تحرير السماء من ظلمة أفكارنا وتصوراتنا الهَشَّة عنها وعن علاقتها بالأرض..
إنها في إعادة بناء منظومة تفسيرية قادرة على تفجير كافة التعارضات والتناقضات التي أقامها وشيدها في علاقة الأرض بالسماء هذا القيد السَّلفي التَّقليدي المُرْبِك بكل اتجاهاته وأجنحته القديمة سنية وشيعية.. يجب أن تتحطم إذن في الذهن المسلم لبناتُ الأُلفة والتَّميز – بالصورة التي وضحناها لهما فيما مضى – كي تُحَلَّ مشكلته المستحكمة والمتمثلة في موقفه العدائي من العقل. لأنه إذا تحرر من عقدة المألوف، فلن يعود هناك ما يخيفه من الجديد الذي سيمس هذا المألوفَ بالتأكيد. وإذا هو تحرر من عقدة التميز المرتكز إلى هذا المألوف، وأقام فلسفة تميزه على عناصر ومُكَوِّنات جديدة، فإنه لن يخشى على تميزه هذا إذا تم المساس بمرتكزه الحالي الموهوم، تعديلا وتطويرا وتغييرا. وبالتالي فإن عُقْدَة الخوف من أداة هذين المساسين ستتفكك لوحدها وسوف تختفي من ذهنه، ليجد نفسه وقد تخلص منها نهائيا، ولن يغدو مضطرا إلى معاداة العقل الذي كان يرعبه ويَقُضُّ مضجعَه فيما مضى، بل هو مضطر إلى مصادقته وإلى استحضاره دائما، كي يكون عونا له على تشكيل مرتكزات تميزه الجديدة وبناء مألوفاته الجديدة..